كيف تولدُ الأخلاق؟ أكونُ أو نكون!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7786 - 2023 / 11 / 5 - 10:56
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

“ما تعريف الحضارة؟ دعونا نتأمل الكلمة، لنكتشف أنها تعود إلى الجذر اللغوي: “حَضَر" عكس "غاب". أي أن بشرًا قد حضروا إلى هذا المكان، وشيّدوا عمرانًا وحياة. وللحضارة مئاتُ التعريفات التي وضعها فلاسفةٌ ومفكرون على مدار التاريخ منها: إن الحضارة حالةٌ متقدمةٌ لمجتمع إنساني تجاوزَ فيها حالة الفوضى ووضع أسسًا تنظيميةً لحياة الناس، وفتح أمامهم مجالات تفكير وعمل لإنشاء العلوم والفنون واستحداث أسلوب أكثر راحةً وإبداعًا. ومنهم مَن قال إن الحضارة هي كلُّ ما يميز أمّةً عن أمّة من حيث العادات والتقاليد وأسلوب المعيشة والملابس والتمسك بالقيم الأخلاقية، وهي قدرة الإنسان في كل حضارة على الإبداع في الفنون والآداب والعلوم. وقال مؤسسُ علم الأنثروبولوجي الثقافي: "إدوارد بيرنِت تيلور" إن حضارة أي مجتمع هي كلٌّ معقّدٌ مكونٌ من المعرفة والعقيدة والأخلاق والفنون والتقاليد". وفي كتابه "قصة الحضارة" ذكر الفيلسوفُ والمؤرخ الأمريكي "ويل ديورانت" "أن الحضارة نظامٌ اجتماعي يعين الإنسان علي زيادة انتاجه الثقافي.”
وبوسعي سرد مئات التعريفات المختلفة للحضارة، وجميعُها صحيحة. ولكن دعونا نُشَرِّح معنى "الحضارة" بالإنجليزية: Civilization ونتأمل الجذر اللغوي للكلمة: Civil لنجد أن من معانيها: “مهذب، لطيف، مجامل، متمدّن". ولهذا فإن أكثر ما يميلُ إليه قلبي وعقلي من تعريفات للحضارة هو ما يقوله دائمًا أستاذي الجميل د. “وسيم السيسي": “الحضارة هي رقّة التعامل مع الآخر.” أي أن: "الحضارة هي الأخلاق".
دعوني أتجول بكم في أرجاء العالم لنرسم ثلاث لوحاتٍ للحضارة بريشة الجمال والأخلاق. سنحطُّ رحالنا في ثلاثة بلدان وأحكي لكم ثلاث قصص من "السويد"، "اليابان"، و"جنوب أفريقيا". وسأبدأ بالأخيرة.
- في إحدى القبائل الأفريقية البدائية، قرر أحدُ علماء الأنثروبولوجي إجراء تجربة نفسية على مجموعة من الأطفال. أحضر سلّةً من الفواكه الشهية ووضعها جوار جذع شجرة. ثم أخبرهم بأن أولَ طفل يصل إلى الشجرة سوف يفوزُ بالسلّة كاملة. وحين أعطى إشارة البدء، فوجئ بأن الأطفال لا يتسابقون؛ بل أمسكوا بعضهم البعض وساروا معًا نحو الشجرة صفًّا واحدًا، ثم أخذوا السلّة وتقاسموا الفاكهة فيما بينهم! وحين سألهم لماذا فعلوا هذا في حين كان بوسع أحدهم أن يحصل وحده على سلّة الفاكهة كاملة؟ أجابوا في صوت واحد: Ubuntu "إيبنتو"، وهي كلمة أفريقية تعني: "مجموعة القيم والفضائل الإنسانية التي تؤمّن التراحم والمؤازرة.”، ومن بين معانيها كذلك: “أنا أكون، لأننا نكون.”
- ومن "السويد"أحكي لكم عن "القطار المجاني" في محطات القطار والمترو. من بين ممرات الدخول الكثيرة التي لا تُفتح إلا بكود تذكرة المترو، يوجد ممرٌّ مجاني لا رسوم عليه ولا حراسة. ودائمًا ما تكون جميع الممرات مزدحمة بالمسافرين، بينما الممر المجاني شاغرٌ لا أحد فيه! ويحكي مهندسٌ مصري عن اندهاشه من المشهد، فذهب إلى موظفة شباك التذاكر يسألها عن قصة الممر الشاغر. فأخبرته أن هذا الممر لمن ليس لديهم نقود لدفع ثمن تذاكرهم. فسألها المهندس سؤالا منطقيًّا: “ماذا لو أن شخصًا يملك المال، واستغل هذا الممرَّ للتهرب من دفع الرسوم؟!” فاندهشت الموظفة من السؤال المنطقي وأجابت بسؤال منطقي آخر: “ولماذا يفعل أيُّ شخص هذا؟! كيف يكون معه مال ويدّعي أن لا مال له، ويأخذ حقَّ شخص آخر محتاج؟!”
- ومن "اليابان" أحكي لكم عن لعبة "الكراسي الموسيقية" التي كنّا نلعبها ونحن صغار. وللتذكرة: فقد كانوا يضعون لنا تسعة كراسي ونكون عشرة أطفال. تنطلق المقطوعة الموسيقية وندور حول الكراسي، وبمجرد انتهاء المقطوعة نسارعُ بالجلوس على المقاعد؛ وبالطبع سوف يتبقى طفلٌ دون مقعد. هذا الطفل يخرج من اللعبة، ويخرج معه كرسيٌّ، حتى يظل دائمًا عددُ المقاعد أقلَّ من عدد المتسابقين بواحد. وتٌعاد اللعبة حتى يتبقى طفلان وكرسيّ. والفائزُ منهما هو الجالس. أما في اليابان فيلعبونها بطريقة أخرى. تسعة مقاعد وعشرة أطفال أيضًا، لكنهم يقولهم لهم: "عددكم أكبر من عدد المقاعد. فإن تبقى أحدُكم واقفًا، يخسرُ الجميع.” ويحاول الأطفالُ احتضان بعضهم البعض حتى يجلسوا جميعًا على الكراسي المتراصّة. ثم يقللون عدد الكراسي تباعًا حتى الحد الأدنى الذي يسمح لهم بالجلوس دون مسافات. هنا يفوز الجميع، ويتعلّم الأطفالُ أن النجاحَ عمليةٌ مشتركة والأنانية تعني الفشل.
من تلك القصص نستنتج لماذا تنهضُ الحضارات على ضفاف الأنهار، وليس في الصحارى؛ مثلما نشأت حضارتنا العظمى على ضفاف النيل العظيم. لأن وجود الماء يشجّع على الاستقرار والزراعة. والزراعة تتطلب التعاون من أجل بذر البذور وري الأراضي وحصد المحاصيل، وتلك فلسفة: “أنا وأنت”. بينما الصحراء شحيحة الماء تجعل الإنسان رحالا غير مستقر، يبحث عن آبار الماء. وكلما جفّت بئر بحث عن غيرها وقد يتصارع أو يقتل، من أجل الماء إن شحَّ: الفلسفة هنا: “أنا أو أنت".

***