إيزيس الحكيم … إيزيس السعداوي


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7859 - 2024 / 1 / 17 - 11:25
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

"إيزيس" ربّة الاكتمال والحكمة عند جدِّنا المصري القديم، هي "المرأة" بوصفها نموذجا للكمال الوجوديّ. استلهمُها كثير من الكتّاب في أعمالهم، لكنني أتوقف أمام نموذجين نقيضين في زاوية النظر إليها. مسرحية "إيزيس" لعميد المسرح العربي "توفيق الحكيم" التي صدرت عام ١٩٥٥، ومسرحية "إيزيس" للدكتورة "نوال السعداوي” الصادرة عام ١٩٨٥. والطريفُ أنني حين قرأتُ المسرحيتين لم أقرأ شخصَ "إيزيس" بقدر ما قرأت "عقلَ" كلّ مبدع منهما، وأسلوب رؤيته للعالم. "توفيق الحكيم" ومغالاته في النظرة المتعالية للمرأة ووضعها في مرتبة دنيا، و"نوال السعدواي" ومغالاتها في إعلاء شأن المرأة. ولن أزعمَ الحيادَ وأقولُ إنني في حال تأمل موضوعي لمبدعيْن من رموز الحياة الثقافية المصرية، بل سأتخذ موقعي كمؤيدة لنظرة "نوال السعدواي" للمرأة، مع عشقي الهائل للعظيم “توفيق الحكيم”. وموقفي هنا ليس بوصفي امرأة في مجتمع ذكوري، بل انتصارٌ لمبدأ "تأنيث العالم"، وتكريسٌ قيم الحقّ والخير والجمال في الوجود. ومن الطريف أيضًا أن "الحكيم" كان يحاول تمجيد "إيزيس" ومدحها بصفاتٍ رفيعة من قبيل الوفاء والإخلاص وإعلاء شأن الزوج، وجميعُها خصالٌ تصبُّ في صالح الرجل؛ حتى أنه، في بيانه الختامي للمسرحية، ربط بينها وبين "شهرزاد" التاريخ، و"بنيلوب" الإغريق، زوجة "أوديسيوس" المخلصة، من حيث اتفاقهن في "الوفاء الزوجي”. وبهذا فجميع النعوت الطيبة التي خلعها على "إيزيس" كانت في إطار حِبال الرجل وتدثّرها بعباءته؛ وكأن لا جمالَ وجوديًّا وإنسانيًّا لامرأة خارج حدود الرجل بعيدًا عن بساطه! لم أكن لأقول هذا لولا أنني في حال مقارنة بين المسرحيتين. فالحكيمُ غيرُ مُلامٍ حين استلهم جوهرَ الأسطورة "كما هي" ونسج على نَولها، وبذا فهو غير مُطالب بتغيير الأحداث لصالح فكرة ما، ليس لأنه اشتهر بعدائه للمرأة؛ فهو لم يكن عدوا لـ"إيزيس"، بل لأنه كرّم شخصَها في مسرحيته عبر تكريس قيمة "الوفاء الزوجيّ" ولا شيء آخر. و"الوفاء" قيمة جليلةٌ أعلى من أن نناقش حتميتَها، إلا أن اختصارَ القِيَم في الوفاء وحسب، نقصانٌ للقيم. "إيزيس السعداوي" تقول إن الجمال الإنساني يكمنُ في مناطق أخرى كثيرة غير هذه القيمة التي تنهل من بساط الرجل وتصبُّ فيه. لأن "الجمال الإنساني العام" إذا توّلد، فسوف ينبتُ جميعَ ألوان القيم الأخرى ومن بينها: الوفاء والنبل والحب والقوة والصدق والرحمة والكرم والإيثار وغيرها. ومن ثَمَّ فقد رسمت "السعداوي" "منبعَ" النهر، فيما رسم "الحكيمُ" "فرعًا" من فروعه. ففي حين كانت "إيزيس الحكيم" مجرد امرأةٍ أرملَ تحاولُ لملمة نُثارات وأشلاء جسد زوجها المغدور الذي قتله شقيقُه "سيت" إله الشر، كانت "إيزيس السعداوي" امرأةً قوية مثقفةً فاعلةً في المجتمع، تبني عقولَ الناشئة وتعلمهم الكتابةَ والقراءةَ وتبذرُ فيهم المفهومَ الحقيقي للعدل والجمال والنبالة واحترام الإنسان لنفسه وللآخر بصرف النظر عن نوعه وعِرقه وطبقته وديانته. "إيزيس الحكيم" امرأةٌ "مفعولٌ بها" كما هو شأن المرأة في معظم الأدب الكلاسيكيّ، ويأتي دورُها دائمًا كردّة فعلٍ صنعه الرجل. فالرجلُ هو المهيمنُ على حراك الكون والموجودات، وما المرأةُ إلا أحدُ تلك الموجدات التي تخص الرجل. لكن "إيزيس السعداوي" هي مالكٌ مُناصِفٌ للكون مع الرجل، وفاعلٌ مُفعّلٌ للوجود والأحداث. "إيزيس الجديدة" لا تدور في فلك الرجل وداخل عباءته، فهي موجودة بشخصها الفاعل، تبني الكونَ إلى جوار الرجل، عكس الأولى التي وجودها مرهونٌ بوجود الرجل. وكما قال الفارابي: "كلُّ موجودٍ بغيره آلةٌ"، أي “أداة”.
والحقُّ أن "نوال السعداوي" لم تقل الصدقَ في مقدمتها حين زعمت أنها "ترد الاعتبار إلى "إيزيس" القوية التي ظلمها التاريخ”. فـ"السعداوي" ليست ذلك الشخص "الماضويّ" الذي يعنيه إعادةُ ترتيب التاريخ وتصحيحُه. لكنها كتبت تلك المسرحية كرسالة شديدة اللهجة إلى "المستقبل" الذي هو وحدَه ما يعنيها. ومسرحية "إيزيس" ليست العمل الوحيد لها الذي يخفي بين سطوره رسالةً إلى المجتمع، فجميعُ أعمالها تنحو النحوَ ذاته. فهي تجيد لعبة الرمز والقناع وتضمين الرسائل المُرّة خلال أعمالها الأدبية لإصلاح المجتمع. والكاتبُ عادةً يلجأ إلى الرمز، ليس فقط كـ تيمة فنية، بل كذلك حينما يَفْسد المجتمعُ وتغيب القيم. تمامًا كما فعل الحكيم "بيدبا" في "كليلة ودمنة"، ولنا في التاريخ شواهدُ عديدةٌ مماثلة. لو قرأنا "إيزيس السعداوي" من هذا المنطلق، سوف نجد بين أيدينا نصًّا نصًّا إصلاحيًّا مغلّفًا برداءٍ أدبيّ، أو هو خطابٌ بعلم الوصول كتبته "الملكة إيزيس" في مرقدها خلف قرص الشمس، لترسله إلى وطنها المعاصر.
وحين حاول "سيت" أن يبثّ حبَّه لـ "إيزيس" قالت له: "الآن أدركتُ لماذا أحببت أوزوريس ولم أحبك. كنتُ مع أوزوريس أشعرُ أنني إنسان. كان يعرف قيمتي. الحبُّ هو المعرفة. أن تعرف قيمة مَن تحب. أوزوريس كان يعرفني، يعرف إنسانيتي ويعرف أجملَ ما فيّ: عقلي وقلبي."

***