|
غلق |
|
خيارات وادوات |
مواضيع أخرى للكاتب-ة
بحث :مواضيع ذات صلة: فاطمة ناعوت |
هذا سبتمبر … يا أمّي!
هذا سبتمبر. فيه وُلِدَت أمّي، وفيه ولدتني، وفيه رحلت وتركتني ويدي مازالت معلّقةً في طرف ثوبِها. الأمومةُ لغزٌ محيّر لم تفكّ الحياةُ شفرتَه بعد. شعورٌ عجيب يضربُ قلبَ الأمّ وهي تنظرُ إلى طفلها، حتى وإن صار مع الأيام صبيًّا ثم شابًّا، ثم رجلا، ولو صار كهلا وأمُّه مازالت إلى جواره. شعورٌ يشبه طعم الجنّة ومذاق النعيم. أقولُها اليومَ من منطق الأم، بعدما صرتُ أمًّا. أنظرُ نحو ابني، الذي صار شابًّا جميلا، فتنفلتُ من قلبي خيوطٌ كثيفة من العشق والفرح والقلق، ثم تتشابكُ الخيوط لتصنع نسيجًا كأنه بساطٌ يودُّ أن يحملَ طفلي لئلا يسير على الأرض فتجرحُ الحصواتُ قدميه. أحملُ أطفالي في عيني وأسيرُ بهم إلى حيث شاءوا، وكأنما أودُّ ألا ينفلتوا من مشيمتي ولا ينقطع حبلُهم السُّري. أفكِّر وقتها: يا إلهي! أهكذا كانت تشعرُ أمي، وأنا لا أدري؟! لا يعرفُ تلك المشاعرَ العجائبية الملغزة إلا حين نخبُرها. لكنَّ الأمهات يمضين إلى حيث تمضي الأمهاتُ ولا يعدن. فلا يعودُ العالمُ كما كان. تغلّفه سحابةٌ من الوجل كمن كان يجلس ساندًا ظهره إلى جذع شجرة يستظلُّ بوارف ظلالها، وفجأة يأتي حطّابٌ ويجتثُّ الشجرة لتسقط وتتركه تحت لفح الهجير وسيول المطر. الظَّهرُ يغدو دون سند، وغيمةُ الفقد تُدثِّرُ الحياةَ بدِثار الخوف. "وخزة شوكة" تخزُ القلب حين تموتُ أمهاتُنا. ولكن، ثمة بعض عزاء. فأرحمُ ما في موت الأمهات؛ أنهن لن يَمُتن مرةً أخرى. ينتهي فجأةً رعبُ المرءُ من فكرة فقد أمّه. أذكرُ، وأنا طفلة، أني ظللتُ أعيشُ ذاك الرعب، منذ أدرك عقلي معنى الموت والحرمان ممن نحبُّ إلى الأبد. إن تأخرتْ في العمل، أقفُ بالشرفة، مثل عصفورٍ يرتعد. تتلفّتُ رأسي لأمسحَ الشارعَ من طرفيه، والخوفُ يفترسُ طفولتي: ألن أراها أبدًا تدخلُ من مدخل العمارة؟! وحينما كانت تمنعني من اللعب وقراءة "ميكي"، كان "الشريرُ" داخلي يرسم لي عالمًا رغدًا بلا أمّهات يُجبرن أطفالهن على شرب اللبن والمذاكرة والحرمان من الأصحاب واللعب والحلوى، لكنْ سرعان ما ينتفضُ "الطفلُ" داخلي، فأتوقُ للدفء، وأركضُ نحوها. وحين مرضتُ، مرضَها الأخير، كنتُ أعودُ من المستشفى لأناصبَ التليفونَ العداء. كلّما رنَّ، خفقَ قلبي هلعًا من سماع ما أكره. حتى عدتُ إلى بيتي مساء ٥ سبتمبر، لأجد الأنسر ماشين يحمل صوت خالي "أسامة" يقول: (فافي حبيبتي، البقاء الله، "سهير" تعيشي انتي!) انهدم العالمُ من حولي، وانكسر ظهري وسندي، لكن رعبي من فقدها تبدّد للأبد. لن أفقدها غدًا أو بعد غد! فقد فقدتُها بالفعل!
|
|
| ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد | نسخ - Copy | حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | اضافة موضوع جديد | اضافة خبر | | |||
| نسخة قابلة للطباعة | الحوار المتمدن | قواعد النشر | ابرز كتاب / كاتبات الحوار المتمدن | قواعد نظام التعليقات والتصويت في الحوار المتمدن | | غلق | ||
المواضيع المنشورة لا تمثل بالضرورة رأي الحوار المتمدن ، و إنما تمثل وجهة نظر كاتبيها. ولن يتحمل الحوار المتمدن اي تبعة قانونية من جراء نشرها |