مهرجان -چرش- … يصدحُ ويزهو


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7336 - 2022 / 8 / 10 - 12:15
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

صادحٌ مشرقٌ مبهجٌ وثريّ، كعادته منذ أورقت أولى براعمه قبل واحد وأربعين عامًا على يد جلالة الملكة "نور الحسين" عام ١٩٨١. هكذا كان "مهرجان جرش للثقافة والفنون" في عامه هذا ٢٠٢٢، مثلما كان دائمًا منذ ميلاده، وسوف يظل بإذن الله حتى يتخطّى يوبيلَه الماسيَّ. المهرجانُ العريق الذي لم يتوقف طوال تلك العقود إلا أعوامًا قليلة بسبب عثراتٍ عارضة شأن ما يواجه المهرجانات الكبرى، ليعود بعدها أقوى وأنصع، كما شهدناه هذا العام في دورته السادسة والثلاثين بهيًّا ثريًّا بفاعلياته الكثيرة المتنوعة بين المسرح والأدب والشعر والنقد والفكر والتشكيل والطرب والموسيقى والفنون الشعبية والرقصات الفولكلورية الأردنية والعربية. وبالطبع كان للطفل نصيبٌ في عديد الفاعليات التي تنهضُ به ثقافيًّا وترفيهيًّا. ولهذا المهرجان مكانةٌ رفيعة في وجدان كل أديب وفنان مصري وعربي. مكانةٌ تحتلُّ "خانةَ الشغفِ"من القلب والعقل والروح. نقولها بفخر لأطفالنا وأصدقائنا: "لقد شاركنا في مهرجان جرش يومًا ما.” وقد كان لي شرفُ المشاركة في مهرجان جرش عام ٢٠٠٧، وعام ٢٠٠٩، حين تغيّر اسمُه إلى "مهرجان الأردن"، ثم عاد سيرته الأولى: “مهرجان جرش"، عطفًا على مشاركتي قبل أيام، تلك التي غمرتني بالفرح بعد سنوات من الشوق. لكن طزاجة المشاركة لا تبرح؛ وكأنها المرةُ الأولى.
حمل مهرجان هذا العام شعار: “نوَّرت ليالينا" ليختصرَ فلسفتَه بوصفه منارةً ثقافيةً لإشاعة حال البهجة والفرح الممزوجة بالإبداع والفن الراقي والتجوال السياحي بين المدن القديمة والآثار العريقة في مملكة الأردن، متوسّلةً تضفيرَ سحر الماضي بضوء المستقبل. نجح مهرجان جرش عبر عقوده الأربعة الماضية في اجتذاب رموز فكرية وفنية وازنة من جميع الدول نشدانًا لنسج مظلة إنسانية شاسعة تطفر منها إشراقاتُ الحضارات المختلفة لتمتزج في بوتقة واحدة تساهم في الترويج السياحي وإنعاش الاقتصاد والتنمية المستدامة للمجتمع الأردني. إلى جانب وزارة الثقافة الأردنية الراعي الرسمي للمهرجان، تساهم العديدُ من المؤسسات الحكومية والنقابات والرابطات والجمعيات الأهلية والدوائر الإعلامية والسياحية الأمنية وغيرها من المنابر من أجل إنجاح هذه التظاهرة الثقافية السنوية الهائلة. أماكنُ عديدة أضاءت بأمسيات المهرجان: مسرح الصوت والضوء، المسرحان الشمالي والجنوبي، مسرح آرتيمس، شارع الأعمدة، المركز الثقافي الملكي، سينمات مدينة "إربد" العاصمة العربية للثقافة، مركز الحسين الثقافي برأس العين، بالإضافة إلى المكان العمدة في المهرجان وهو مسرح “جرش” المفتوح. وتحت اسم "بشاير جرش" دُشِّن برنامجٌ رائد يهتم بفرز وتقييم ودعم المواهب الشبابية الجديدة المبشرة في مجال المسرح والسينما، والموسيقى والغناء، والشعر والقصة، عن طريق لجان محكمة متخصصة.
خلال مشاركتي هذا العام، كان لي شرفُ المشاركة في ندوة حول أثر التكنولوجيا على تلقّي القصيدة واللوحة، وكذلك إلقاء الشعر في المركز الثقافي الملكي في عمّان. أما درّة العقد فكانت الأمسية الشعرية التي حضرناها في المنتدى الثقافي بمدينة "مادبا" الأثرية الساحرة، بعد جولة سياحية غنيّة بين آثار جبل "نيبو" الذي يزهو بما يحمل من مقدسات أثرية نفيسة يحجُّ إليها السياحُ من جميع أنحاء العالم؛ مثل كنيسة الخارطة وكنيسة الفسيفساء، وعصا موسى، وغيرها من المحطات الأثرية العالمية التي تحتضنها جدارياتٌ هائلة لحفظ المقدسات في أرض الفسيفساء العريقة. أما جائزة المهرجان الحقة بالنسبة لي فكانت لقاء أصدقاء أعزاء قُدِّر ألا نلتقيهم إلا على شرف الشعر والجمال والفكر والفنون مثل الشعراء الكبار: زهير أبو شايب، جلال برجس، آدم فتحي، عيد بنات، موسى حوامدة، سعيد يعقوب، بكر السواعدة، جمال مقابلة، مخلد بركات، بشير البكر، عائشة بلحاج، عبد الرزاق الربيعي، لويزة ناظور، والفارسة الآسرة جمانة الطراونة، وصديقتي الفنانة الأردنية الجميلة عبير عيسى، التي أهدتني فستانًا فلسطينيًّا فاتنًا لألقي به الشعر في ختام المهرجان، وغيرهم من أصدقاء القلب رفقاء القلم.
من بين ما ألقيتُ في مهرجان جرش، هذه المقاطع: “الكهولُ النيئونَ يا عَمّة/ يبحثون داخل فساتينِ الصبايا عن فصوصِ الثومِ/ والصبايا يسترقنَ السمعَ لحفيفِ الطواحين/ وأنا، أرفعُ بحذرٍ طرْفَ الرصيفِ القديم/ كي أطمئنَ على أحلامي المخبأةِ./ يا عمَّة… الرجلُ الجالس عند الصخرة ألقى عروستي في النيل!/ هاتي أغطيةً وسكاكينَ وكأسًا من ماءِ الأردنْ/ ولفافةَ تبغٍ تحملُ شيئًا من عطرِ امرأةٍ كان يُخاصرُها عند النبع/ وهاتي قنديلَ نُحاسٍ أصفرَ/ مدموغًا بتجاعيدِ الجبهةِ/ مشقوقًا عند فتيلِ الزيتْ/ استدعي من عمقِ الكهفِ "فيفالدي"/ الشاهدَ مأساتَكما/ مُدّي فوقَ الرملِ الجسدَ المطروحَ المنذورَ لوهمِ نساءٍ لم يفهمنَ اللُعبةَ في موعدِها...”
شكرًا للمملكة الأردنية الهاشمية على هذا المهرجان الجميل، وشكرًا للدكتور/ مازن قعوار، المدير التنفيذي للمهرجان، وكل الشكر لجميع الشباب القادة الذين أهرقوا الجهدَ والوقتَ والصبر على متاعبنا، من أجل إخراج هذا المهرجان العالمي على هذا النحو الرفيع. و"مَن لم يعشق جفرا فليدفن رأسَه في الرمضاء.”

                                               ***