شم النسيم … عيد ثقافة الحياة


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6893 - 2021 / 5 / 9 - 12:13
المحور: حقوق الانسان     

شكرًا للمهندس "مصطفى مدبولي"، دولة رئيس الوزراء، على الاستجابة للمطلب الشعبي بالإبقاء على إجازة عيد "شم النسيم" يوم الاثنين، بدلا من ترحيلها إلى يوم الخميس، وفق القرار السيادي المحترم بترحيل الإجازات إلى نهاية الأسبوع، للحفاظ على وتيرة عجلة الانتاج والتنمية. فهذا العيد "المصري" له خصوصية وفرادة منذ ابتكره الجد المصري القديم قبل خمسة آلاف عام، وحتى ارتبط بيوم "الاثنين" منذ ألفي عام، لأسباب تخصُّ تماوج التواريخ على التقويم المصري القديم.
هذا العيد "شمو"، وتعني "موسم الحصاد"، هو تجسيدٌ لعبقرية الجدّ المصري العظيم في علوم الفلك والزراعة والحساب والهندسة، وقبل كل ذلك، في فنّ ثقافة الحياة. فقد تعلّم المصريُّ القديم أن يحدّد بداية السنة الشمسية باليوم الذي يتساوى فيه الليلُ والنهار طولا، وهو وقت حلول الشمس في برج الحمل. كان جدُّنا يؤمن أن بداية خلق العالم كانت في ذلك اليوم الربيعي الفريد، 25 برمهات. ولهذا اعتبره المصريون أول الزمان. وكان هذا هو "عيد شم النسيم"، الذي اعتبروه أول الربيع وغُرّتَه. يقيمون فيه مهرجانًا ضخمًا صاخبًا يملأ الدنيا أغاني وألوانًا ومرحًا. واختار بنو إسرائيل ذلك اليوم تحديدًا، والمصريون مشغولون بعيدهم وحصادهم، ليخرجوا مع النبيّ موسى عليه السلام، من مصر الفرعونية إلى أرض الكنعانيين. فاعتبره اليهود رأسًا لسنتهم الدينية العبرية، وأطلقوا عليه اسم عيد "الفصح"، وهي كلمة عبرية تعني "الخروج" أو "العبور"؛ ويعتبرونه عيدًا للتحرر من العبودية بخروجهم مصر إلى حيث خرجوا، كما قرأنا في سِفر التكوين. وحين نزلت العقيدة المسيحية، واعتنقها أبناءُ مصرَ جميعُهم، كان عيد "شمو"، الذي تحوّر اسمُه إلى "شمّ النسيم"، يقع أحيانًا، بسبب اختلاف التقاويم المصرية والميلادية، في وسط فترة صيام المسيحيين الخمسة وخمسين يومًا التي تنتهي بعيد القيامة. فقرر المصريون آنذاك أن يُرحِّلوا ذلك العيد إلى ما بعد انتهاء الصوم؛ حتى يتسنى لهم الخروج للبساتين والاحتفال بأكل الأسماك والبيض الملوّن. ومنذ ذلك الحين ثبّتوه يوم (الإثنين) التالي لعيد القيامة (الأحد)، الذي احتفل به أشقاؤنا المسيحيون بالأمس، كل عام وهم في ملء الفرح والسلام.
قبل 5000 عام، كان المصريون يحتفلون بذلك اليوم، "شمو"، بإقامة مهرجان رسمي هائل، يحتشدون فيه أمام الواجهة الشمالية للهرم الأكبر، قُبيل الغروب. ثم يَشخصون نحو قرص الشمس البرتقاليّ وهو يميل بالتدريج غاربًا مقتربًا من قمة الهرم. حتى تستقرّ الشمسُ جالسةً فوق ذؤابة الهرم كأنما تُتوّجه. هنا تحدث ظاهرة فلكية مدهشة، حين يخترق شعاعُ الشمس واجهةَ الهرم، فكأنما يشطره نصفين، في مشهد أسطوري دراماتيكي. استطاع عالمُ الفلك البريطاني "بركتور" رصده وتصوير لحظة انشطار واجهة الهرم عام 1920، وفي عام 1934 سجّل تلك الظاهرة الفريدة العالمُ الفرنسي "بوشان" عن طريق الأشعة تحت الحمراء.
"شمّ النسيم" هو أقدمُ مهرجان شعبيّ في التاريخ يحتفل بالحياة وعبقرية الخلق من العدم. فالمصريون أكثرُ شعوب الأرض حبًّا للحياة واحتفاءً بها. لهذا اختاروا له الربيعَ تاجًا، لأن فيه تتفتح الزهورُ لتعلن عن ميلاد جديد. يبدءون احتفالَهم مع شروق الشمس، فيُلوّنون البيضَ، كأنما يلوّنون الحياةَ. فالبيضةُ رمزُ الحياة التي تُخرِجُ الحيَّ من الميّت. لأن الكتكوتَ المفعمَ بالحياة والدهشة، يخرج من كهف جامد صلد يوحي بالموات، مثلما تخرجُ اليرقةُ من شرنقة الحرير، فتطيرُ وتملأ الفضاء حياةً وفرحًا.
نحن المصريين أبناءُ ثقافة الحياة. ليس منّا من يُهرق الدماءَ على بُساط أرضها ليكسو الوجوهَ بالحَزَن. ليس مّنا مَن يُثكِّل الأمهاتِ ويُرمّل الزوجاتِ ويُيتّم الأطفالَ. ليس مِنّا من يأتزر بالسترات الناسفة ليقتل أبرياءَ يُصلّون إلى ربّهم خاشعين صائمين. ليس منّا من يُدثّر البيوت بثياب الحداد.
مصرُ ربّةُ ثقافة الحياة، لا الموت. هي الأرضُ التي ابتكرت فنونَ الحياة، وخصّتها بيوم فريد، توّجتُه أولَ الزمان. جعلت من نهاره موسمًا للخلق، ومن غروبه مهرجانًا ملوّنًا يسامرُ فيه شعبُها نسائمَ الطبيعة ليحتفل بفنّ صناعة الحياة والخصب، وعبقرية الحضارة. نحن أبناءُ مصرَ، أبناء الحياة. كل عام ونحن مصريون نبني الوطن. “الدينُ لله، والوطن لمن يبني الوطن.”
***