ماذا علّمتني سيدةُ: الباقياتُ الصالحات؟


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6805 - 2021 / 2 / 3 - 12:28
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


رحلتِ السيدةُ المضيئةُ إلى رحاب الرحمن الرحيم الذي لا تضيع عنده ودائعُنا. غادرتنا سيدةُ "الباقيات الصالحات" بشوشةُ الوجه نورانيةُ الملامح طيبةُ القلب، ذاتُ الصوت الشفوقِ العطوف الذي نُسِجَت أوتارُه من رضوان الله وسلامه. رحلتِ الداعيةُ الراقية د. "عبلة الكحلاوي" التي علّمتني أن اَلله لا ينظرُ إلى وجوهنا، بل يُبصرُ أعماقَ قلوبنا ليرى إلى أي مدى صورتُه النورانيةُ منعكسة على صفحات أرواحنا. رحلتِ المفكرةُ الإسلامية العظيمة التي علّمتني أن "العقلَ" هو "جوهرةُ الترقّي" الذي يرتقي بنا إلى مصافّ الإنسان الممتاز، ولولاه لقبعنا في أدنى درجات سُلَّم الانحطاط والدونية والتخلّف.
لقاءاتي بها كانت عبر الهاتف. وكان صوتُها العذبُ مِشعلَ نورٍ يُضيء دربي. يشدُّ على يدي كلما أنجزتُ كتابًا جديدًا أو مقالا طيبًا، ويُقوّيني ويساندني إذا ما كسرني الحَزَنُ ودثّرني القنوطُ والوجع. في إحدى تلك المهاتفات قبل سنوات أيام خطّة إ"حراق مصر" التي ارتكبها الإخوانُ والإرهابيون التكفيريون ضدّ مصر، دار بيننا حوارٌ طويل حول ما كان يجري في بلادنا من محن طائفية ومكائدَ مشينة ومجازرَ دموية مخجلة يصنعُها بعضُ المتطرفين المتأسلمين ضد أشقائنا المسيحيين حتى يفتتوا نسيجَ الوطن ويهدموا مصر. شكوتُ إليها ما يفعلُه السفهاءُ منّا من إحراق كنائسَ وذبح مُصلّين مُسالمين، فيضيفون جريمة "تشويه الإسلام" إلى قائمة جرائمهم البشعة من سفك الدماء وانتهاك حُرمة بيوت الله وتفتيت الوطن. وكانت تُهدّئ من روعي وتكفكفُ دمعي وتُطمئنني إلى أن كلَّ تلك الشرور إلى زوال، ولن يبقى إلا الباقياتُ الصالحات: “ويزيدُ اللهُ الذين اهتدَوا هُدًى والباقياتُ الصّالحاتُ خيرٌ عند ربِّك ثَوابًا وخيرٌ مَردًّا" (سورة مريم). وقالت لي بصوتِها الآسر كلماتٍ لا أنساها: “"يا ابنتي، نحن البشرَ جميعَنا، مسلمين ومسيحيين ويهودًا، سوف ندخلُ الجنةَ بأعمالنا. فقط بأعمالنا."
الأم عبلة الكحلاوي هي المعادلُ المصري للأم تريزا التي أحبّها العالمُ لأنها أحبّت البشريةَ المعذبة وساهمت في مداواة أوجاعها. الراهبةُ التي احتضنت المجذومين والمشردين والمنكوبين والجوعى والعجزة واللقطاء. كانت تقول إن الدواء قد يعالج المرض، ولكن مرضًا خطيرًا اسمه "نقصُ الحب"، ليس من علاج له سوى الحُنُوِّ والرعاية. كنتُ أغار وأتساءل متى يكون لدينا مثل تلك الأم؟ ومصرُ أولى بالجمال بين كل بلاد الله. نالت الأم تريزا نوبل للسلام عام 1979، ومصرُ نالتها في السياسة مرّةً، وفي الآداب مرّةً، وفي العلم مرتين؛ فمتى تنالها في الحب؟ د."عبلة الكحلاوي" تستحقها لو كان للحبّ جائزةٌ. في جمعيتها الخيرية "الباقياتُ الصالحات"، كانت الأمُّ عبلة الكحلاوي تحتضن الأطفال، والمسنّين، والمرزوئين بآلزهايمر، وتأوي مَن لا مأوى له، بين دفء تلك الجمعية العظيمة. ولأنها غير مصابة بفيروس التعصّب المميت، اختارت لجمعيتها فاضلاً مسيحيًا اسمه "أديب متري" ليكون المسؤول الماليّ عن الجمعية. الداعيةُ الإسلاميةُ الأشهر، التي تنطقُ بالقرآن والحديث النبويّ بين كل عبارة وأخرى، لم تهتف بشعارات صاخبة حول الوحدة الوطنية، ويا له من تعبير مُنفّر يشي بالانشقاق والفُرقة! ولم تتزعم حملاتٍ وتعتلي منابرَ لكي تنادي بعدم ربط المواطَنة، و"المحبة"، بالعقيدة. ولم تترأس ندواتٍ تطالبُ بإخماد نيْر الفتنة ونار الطائفية بين المصريين. لم تكتب مقالاتٍ تناهضُ السلوكات الوقحة التي يرتكبها المتطرفون ضدّ الوطن والمواطنين، بجهل وعماء وتخلّف أضحك علينا العالمين. لم تفعل شيئًا من تلك الأمور الصاخبة، التي يبدو أنها لا تُفضي إلى شيء، رغم أصواتنا التي بُحَّت، وأقلامنا التي جفّت! ولكنها، بهدوء، وبدون كلمة واحدة، ملفوظة في شعار، أو مكتوبة في مقال، أعطتِ الدرسَ العمليَّ الرفيعَ ذكيًّا بليغًا بالغًا هدفَه. الداعيةُ الإسلاميةُ الجميلة جاءت برجل يخالفها العقيدة لتُسلّمه مفتاحَ بيت المال في جمعيتها التي ترجو بها وجه الله ورضوانه؛ غيرَ عابئةٍ بحرج محتمَل من بشر حرمهم اللهُ مكرمةَ المحبة وحسن الإدراك وسعة القلب، فضيّق عليهم "جوهرة الترّقي"، العقل، مثلما ضيّق صدورَهم على قلوب غليظة فظّة. وعلى الجانب الآخر رحّب المسيحيُّ الراقي بالعمل في جمعية مسلمة مشتقٌ اسمُها من القرآن الكريم: "الباقيات الصالحات"، غير عابئ بحرج محتمل قد يفتعله ضيقو البصر محدودو الإدراك بفكرة الحق والخير والجمال وعظمة الخالق وحسن أخلاق المخلوق.
هنا درسٌ مزدوج للتأمل. درسٌ عمليٌّ رصينٌ وصامت، لمَن يريد أن يسمو. لمَن يودُّ أن يتذوق حلاوةَ النُّبل والترقّي، والترفُّع عن دنايا لا يأتيها إلا المراهقون، حريٌّ بالبشرية أن تتبرأ منهم، لكي تصفو. فرحمةُ الله وفردوسُه العظيم لتلك الأم المصرية الجميلة د. عبلة الكحلاوي، أستاذتي التي أدينُ لها بالكثير.
“الدينُ لله، والوطنُ لمن يصنعُ الباقياتِ الصالحات في الوطن.”

***