شمعةٌ مصرية ضد البغضاء


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6736 - 2020 / 11 / 18 - 11:33
المحور: حقوق الانسان     

في 8 فبراير عام 2010، كتبتُ في نافذتي بجريدة "المصري اليوم" مقالاً عنوانه: “شمعةٌ مصريةٌ ضد القبح"، لأدعو شبابَ مصرَ الشريف للمشاركة في المبادرة التي أطلقناها للاحتفال بعيد الحبّ 14 فبراير على نحو أكثر فاعلية وجمالا، من أجل تكريم شهداء المسيحيين في "مذبحة نجع حمادي"، وبالمواكبة مع جلسة محاكمة القتلة الإرهابيين آنذاك. في تمام السابعة مساءً، ولمدة ساعة، وقفنا على دَرَج نقابة الصحفيين، حاملين الشموعَ المُضاءة، شاهرين علمَ مصر العظيم، ثم أطلقنا للفضاء حمامات السلام، على وقع رباعيات صلاح جاهين وصوت محمد منير. كانت تلك الشمعةُ المصريةُ هديتنا في عيد الحب لمصرنا الغالية، ولقلب كل مصري يعرف أنه خُلق ليكون إنسانًا متحضرًا. وجاء شبابُ مصر النبيل وشاركنا تلك الوقف التاريخية الجميلة.
في مقالي القديم طرحتُ مثالاً من الطبيعة؛ يشرحُ طبيعةَ الشعب المصري الطيب، وكيف لوّثتْ ثوبَه بعضُ بقعٍ سوداءَ من الطائفية، علينا غسلها.
"نُسْغُ الشجرةِ"، هو سوائلُ الهرمونات والسُّكّر والمعادن المُذابة في لِحاء الشجرة، يسري من جذورها العميقة الضاربة في عمق الأرض، ليغذّي أوراقها وثمارها، حتى أصغر برعم وليد في الأعلى، فيمنحه رواءَه واخضراره. تلك السوائلُ التي تسري في شريان الشجرة هي عصيرها الطيب: Juice. وبمرور الزمن، تتكون بالتدريج طبقاتٌ قشرية حول جذع الشجرة على هيئة دوائرَ، تشيرُ إلى السنوات التي عاشتها الشجرةُ منذ ميلادها الأول. وتأتي الكائناتُ الطفيلية الخبيثة والقوارضُ لتحفرَ لنفسها مأوًى في خشب الشجرة القِشريّ، لكنها لا تستطيعُ الوصولَ إلى الُّنسغ؛ إلا إذا ماتتِ الشجرةُ وتحلّلتْ وبادت. وفي عالم المعادن والفلزّات، نعلمُ أن صَهْرَ المعدن يُنتِج شوائبَ ونفاياتٍ تطفو على السطح، نُسمّيها: "الخَبَث" Slag. يتمُّ كشطُها من سطح المعدن المنصهر، ليصفو لنا وجهُ المعدن برّاقًا مصقولا. كذلك الحال في المجتمعات العريقة مثل المجتمع المصري المتحضر. نمت حول جذعه النقيّ خبثٌ وطفيلياتٌ تحاول اختراق نُسغه لتدمير شجرة مصر، ولكن هيهات!
لم أشكُّ يومًا في رُقّي الشعب المصري ونقاء سريرته! وهنا أتكلم عن نُسغ الشعب ومعدنه، وليس عن قشوره السطحية التي طفت على السطح، مثلما يطفو الخَبَثُ الرديء فوق سطح المعدن. في تلك الآونة من عام 2010، احتشدت جريدة "المصري اليوم"، وكتّابُها، لإطلاق حملة توعية للناس للتأكيد على طبيعة هذا الشعب الطيب. كان هدف تلك الحملة ضخُّ الطاقة في ذلك النُّسغ العميق، من أجل لَفْظ الشوائب الغريبة، التي تحاول نخْرَ القلب الطيب.
دعونا نتأمل فلسفةَ "عيد الحبّ"، سواءً المصري الذي مرّ قبل عشرة أيام في 4 نوفمبر، أو العالمي الذي يحلُّ في 14 فبراير القادم . دعونا نتأمل فلسفة "الحبّ" بمعناه الأشمل الصحيح. الحبُّ كما أرشدنا إليه أفلاطون في مثلثه المعروف: الحقُّ- الخيرُ- الجمال. وكما أرشدتنا إليه جميعُ الديانات السماوية والوضعية على حدٍّ سواء. ولذلك حينما سُئل الرسول عليه الصلاة والسلام: "أنَهْلَكُ وفينا الصالحون؟" أجابَ: "نعم، إذا كَثُر الخَبَث!" والخَبثُ لم يكثر في شعب مصر بعدُ، والحمد لله. لا يزالُ النسغُ طيبًا رائقًا، وسيظلُّ بإذن الله. فالدول ذات الحضارة، تعرفُ كيف لا تسمح للزمان بأن ينال منها، وإن أصابها منه بعضُ الوهن، تعرف كيف تحوّل تجاعيدَ وجهها فتنةً وصِبًا، وتعيد بناء نسْغها الممشوق. وهل أكثرُ حضارةً وعراقة من مصر؟!
انقذوا مصرَ الطيبة وحافظوا على النهضة التي يصنعها رئيسُنا النبيل عبد الفتاح السيسي. انقذوا نُسغَ قلوبكم من الخَبَث وليحمل كلٌّ منكم شمعةً ضدَّ البغضاء، ضدَّ الطائفية، ضدَّ التطرف، ضد كراهة مصرَ، ضد العنف والحقد والحسد والتنمّر والفوضى واللا-انتماء والبلطجة والقسوة والفاشية والفساد والإهمال والكسل والتفاهة والحمق والسفاهة والانحطاط والغباء والقمع والتخلّف والركاكة. شمعةً تخاصمُ الخبثَ والخبائث، وتصالحُ الجمال والنور. شمعةً تليقُ بمصرُ، بوصفها أولَ بلد في التاريخ صنع دولةً وحضارةً وعِلمًا وفنًّا وخلودًا. يعلّمنا كتاب "الخروجُ إلى النهار"، الشهير بكتاب الموتى، أن المصريَّ أدرك مبكرًا جدًّا، المعنى الحقيقي للحياة والموت والحبّ والرحمة والتحضر والسمو واحترام حقوق الآخر. فكونوا أحفادَهم.
دعونا نصنع وقفة الشموع المثقفة مع أنفسنا. فالشمعةُ مثقفةٌ. في صمتها تقول ما لا تقوله أجملُ قصائد الشعر وأبلغُها. تعرفُ الشمعةُ الضئيلةُ الصامتةُ كيف تمزّقُ سُتُر الظلام الكثيف من حولها. ويعرفُ المصريّ كيف أن حُبَّ الله يبدأُ بحبِّ مخلوقاته، وأن حبَّ مصرَ يبدأ من حبِّ أبنائها. أما غلاظُ القلوب فليسوا إلا خَبثًا لن يلبث أن يتبددَ، ليصفو لنا وجهُ مصرَ، رائقًا نيّرًا، كما قَدَّرتْ لها السماءُ أن تكون. "الدينُ لله، والوطنُ لمن يوقد شمعة الوطن”.
***