دموع جمال الغيطاني … في باريس


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6720 - 2020 / 11 / 1 - 12:13
المحور: سيرة ذاتية     

لم أرَ دموعَ الروائي الكبير "جمال الغيطاني" إلا مرةً واحدة قبل ستة عشر عامًا. فقد كان دائمًا باشًّا باسمًا في وجه مَن يعرف ومَن لا يعرف. شاهدتُ دموعَه في باريس، في معهد العالم العربي. كنّا نجلسُ في قاعة المسرح في انتظار وصول الدكتور"سمير سرحان" الكاتب الكبير وأستاذ الأدب الإنجليزي، ورئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب آنذاك، حتى يكتملَ نصابُ الأعلام الكبار الذين جاءوا ليقدمونا، نحن الشاعرات العربيات، في مهرجان "ربيع الشاعرات في باريس" عام 2004. لكن الدكتور سمير لم يدخلِ القاعةَ على قدميه، بل جاء جالسًا على مقعد متحرك، إذْ كان يخضعُ للعلاج آنذاك في مستشفيات باريس، لكنّه تحامل على مرضه وأصرّ على حضور الحفل؛ ليرحّب بالوفد المصري المشارك. صعد د. سمير إلى المنصة، وراح يرحبُ بأدباء مصر: الشاعر الكبير "أحمد عبد المعطي حجازي"، الروائي الكبير "جمال الغيطاني"، ثم أنا، الشاعرة الصغيرة آنذاك، التي مثّلت مصرَ في ربيع الشاعرات. ظمأ.د. سمير وطلب الماء، فسارع "جمال الغيطاني"، وقدّم له كأسَ الماء، رغم الخصومة العابرة التي ألقت بظلالها عليهما وقتها. ثم ترقرق الدمعُ في عيني "جمال الغيطاني"، مثل لؤلؤ نقيّ نبيل، حزنًا على مرض الرجل الذي هزّ أركان الهيئة المصرية العامة للكتاب أعوامًا، وزلزل خشبة المسرح بمسرحياته عهدًا. وذابت الخصومةُ بينهما، كما يليق بالكبار حين يختلفون في الرأي، ويتفقون على الإبداع والثقافة والتنوير.
حين مرض جمال الغيطاني في مثل هذه الأيام قبل خمسة أعوام، ثم دخل في الغيبوبة، تصورتُها رحلةً من رحلاته الاستكشافية التي تعوّدَ أن يغوص فيها سائحًا بين متون كتب التاريخ، أو هائمًا بين دروب القاهرة وأزقّتها، أو جائلاً في أروقة مساجدها وكنائسها ومعابدها، بمحاريبها ومذابحها وهياكلها، متفحّصًا فسيفساءها ومشربياتها وعراميسها وأجراسها وأبراجها وأيقوناتها، ليعودَ إلينا بعدها مُحمّلا باللُمَح والتأملات التي شكّل منها برنامجه الجميل: "تجليات مصرية" الذي كان يقدمه لنا بصوته العميق ودارجته المصرية العذبة، فتمتلئ أرواحُنا وأدمغتنا غِنًى ومعرفةً بتاريخنا العظيم وتواريخنا الخالدة. تصورتُها جولةً معمارية بين أبنية مصر العتيقة يحِجُّ إليها ليجمع اسكتشات رؤيوية ثم ينبئنا بما قال لنا السَّلفُ المصري الصالحُ في حكاياته الخالدة، فنتعلم ونثرى معارفَ وإيمانًا وتاريخًا. تصوّرتها رحلة صوفية إلى سِدرة المُنتهى، يصعدُ فيها إلى أعلى العِليّين، ليقف عند ضفّة الكوثر، يسألُ الرحمنَ أن يحمي مصرَ من أعدائها، ثم يعودُ إلينا مُحمّلا بالبشرى بأن الله يدّخرُ لمصر نورًا ورغدًا ووعدًا بالجمال والتحضر، آمين. تصورتُها رحلة الأديبُ الأكبر داخل الهرم الأكبر.
حدّثني جمال الغيطاني عن ليلةٍ قضاها في غرفة الدفن بالهرم، راقدًا داخل تابوت أقصر من طوله؛ فإذا بالزمن يستطيل فتغدو ساعاتُ الليل كأنها الدهر السرمديّ الذي لا فجرَ بعده، من فرط الهول وغول الظلام الذي "كأن له وبرًا"، على حد وصفه العبقري، تكاد تلمسُه بيديك من فرط إدماسه وكثافة عتمته! أخبرنا أن جسدَه فقد ماديتَه، فتحوّل إلى "طاقةٍ" لا قانونَ فيزيائيًّا يحكمه. وأن طاغوتَ الظُلمةِ يُفقد العقل سيطرتَه على سائر أعضاء الجسد. فيعطي أمرًا لليد أن تتحرك، ولا تستجيبُ اليدُ! كأنما الأعضاءُ قد اِسْتُلِبت جميعُها نحو آمرٍ ناهٍ جديد، ليس هو العقل، إنما هو قداسةُ اللحظة وهَوْلُ فرادتها! لحظةَ أن يرقدَ أحدُ أبناء الراهنِ، في تابوتٍ صنعته يدٌ عاشت قبل خمسةٍ وأربعين قرنًا من الزمان، في قلب قُدْسِ أقداسِ أعظم بناية شيدها الإنسانُ على مرّ التاريخ، عجيبةِ الدنيا التي تنظرُ بصَلَفٍ وتحدٍّ إلى جبروت الطبيعة من زلازلَ ورياحٍ وعواصفَ وأعاصير. كيف خاف من الظلام "جمال الغيطاني"، وقد عاينَ ألوانَ الظُلمات في معتقلات العدو وخنادق حرب الاستنزاف التي كادت رصاصاتُها تحصدُ روحه مرةً ومرّات، لكن الله كان يُنجيه من أجل مصر وأجلنا؟! قال لنا في أحد مقاهي باريس: “أنا عايش بالصدفة بعد تجارب عديدة مع الموت عشتُها في حروبنا ضد إسرائيل!” لهذا، حين دخل في غيبوبته الأخيرة، كان الأملُ يراودُني أن يهزمها ويعود إلينا، كما يعود من رحلاته الاستكشافية منتصرًا. لكنه آثر الراحة ورحل يوم 18 أكتوبر 2015. فما أقبح المرض حين يباغتُ قلبًا مبدعًا ورقيقًا مثل قلب جمال الغيطاني!
التحمتْ رحلتُه الصوفيةُ الأخيرةُ بالأبد الذي لا يعود منه المسافرون. ونزفتْ مصرُ رمزًا عزيزًا لا يُجادُ به كثيرًا. رحل عنّا ليلحقَ بعرّابه وحبيبه "نجيب محفوظ"؛ تاركًا آذانًا ظامئة لسماع حكاويه الغنية عن عظمة مصر وعمارتها القديمة، وعيونًا جائعة تهفو لقراءة إبداعه. "جمال الغيطاني"، ارقدْ في سلام، فمثلك خالدٌ لا يموت. "الدينُ لله، والوطنُ لمبدعي الوطن”.

***