سليمان والعرش ومن عنده علم الكتاب في معادلة الفعل والتشكيك. (ملك سليمان) ح 20


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7883 - 2024 / 2 / 10 - 00:15
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

أنبياء أم ملوك

في التأريخ العراقي القديم ومعه أيضا تأريخ المنطقة المحيطة بالعراق والأمتداد الحضاري المشترك بينهما، نجد الكثير من الإشارات المؤكدة والدلائل الأركولوجية بحسب النصوص المدونة تشير لوجود سلسلة من الملوك (كال) أو (لو كال) حيث لم نجد معنى لكلمة ملك حتى وقت متأخر جدا في المفردات اللغوية ما قبل السومرية وحتى نهاية فترة الآرامية القديمة بحدود أقل من قرن من ميلاد السيد المسبح إلا ما ورد في نصوص التوراة وهذه ليست ذات قيمة تأريخيا وعلميا، لأن زمن كتابة التوراة والإصحاحات كانت بعد العودة أو أثناء السبي البابلي الثاني، إضافة إلى الترجمات لهذا الكتاب متأخرة أيضا وفيها أختلاف وتضارب كبير.
من خلال التدقيق والبحث خاصة في أسماء العظماء أو الحكام الذين جاءت بهم ظروف خاصة لسدة الحكم مثل الملك جودي أو خودي أو غودي حسب ما يمكن لغظه عن المستشرقين والذي شاع منه الاسم "جوديا"، نلاحظ أنهم جميعا كانوا ذو قوة وقدرة أستثنائية في الحكم وثانيا تميزت فتراتهم بنظام وشريعة وتطور خاصة في المجال العمراني وبناء المعابد وأنتشار العدل، هذه الحقيقة نجدها في كثير من سير هؤلاء بل أجزم أنها القاسم المشترك بينهم، من الشخصية المعروفة في ملحمة الطوفان نوه النبي أو "اوتنابشتم" كما ورد غي ملحمة الطوفان السومرية والذي لو رجعنا في قراءة الأسم وحسب ما معروف عن اللغة السومرية التي كانت تكتب بشكل مقطعي مع فواصل للربط، نجده (أتى نبي بعد شيت) والميم أداة تعريف معروفة، فهو ليس اسمه "اوتنابشتم" ولكن تعريفا له أنه النبي الذي أتى بعد شيت.
فمن هو هذا النبي الذي جاء بعد شيت؟ في المصادر التأريخية الدينية والتي يمكن أن تكون متفق عليها نسبيا حسب ما عرف من الأنبياء، أن النبي إدريس هو الذي جاء في الترتيب الثالث بعد نبي الله شيت، ويقال أيضًا أن نوح هو من أتى بعد شيت قبل إدريس، وذهب البعض إلى رأي آخر بأن نوحا هو أول الأنبياء، ويذكر بعض المؤرخين وأهل السير أن أول نبي بُعث إليه بعد آدم لم يكن شيثاً إنما هو نوح عليه السلام، وقد نُقل ذلك عن عددٍ من أهل العلم، فقد روى الحاكم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)، كما روى ابن جرير الطبري عن قتادة في تفسير قول الله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) فكان أول نبي بُعِث هو نوح عليه السلام بعد ما أختلف الناس على ما كان من دينهم.
الدليل من كل ذلك أن النبي الذي جاء بعد "شيت" أو "شتم والترجمة الشيت للعربية من السومرية" هو نوح صاحب قصة الطوفان وبذلك يفك التشابك والتشكيك بقصة الطوفان الواردة في المصادر الدينية التوراتية وفي القرآن، وبين ما ورد في قصة الطوفان السومرية، وبالرغم من المحاولات العديدة التي تحاول الأبتعاد عن القصة الدينية من خلال نصوص الملحمة البابلية القديمة، لكن تطابق الحدث والشخصيات والهدف ومجريات ما حصل لا تسمح بأن تكون القصتان مختلفتان، فلو عدنا إلى فلسفة النص البابلي ونقرأ بعضا مما ورد فيها سنجد أن الكلام والمنطق الوارد فيها لا يمكن أن يصدر من شخص أعتيادي لا يملك رؤية دينية وفلسفية عالية الدقة:....
أتدري يا أور شنابي
إن الإنسان مفضل على الآلهة "الملائكة"؟
مفضل لأنه يموت
لأن عليه أن يفعل الكثير
قبل أن يمضي
لقد حكم عليه بالامتحان الكبير
وعليه أن يتعلم كيف يعيش
وعليه أيضاُ أن يتعلم كيف يموت.
هذا النص يختصر قضية مهمة هي أن الله جعل من الموت حتما على البشر ليس لأنه يستحق، بل لأن يفعل الكثير في حياته وأن الموت أمتحان لهذا الفعل، إذا الموضوع يتعلق بالحساب "كل نفس بما كسبت رهين"، هذا منطق ديني رباني....
“إلى أين تمضي يا جل جامش؟
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها
فالإله لما خلق البشر
جعلت الموت لهم نصيباُ
وحبس في أيديه الحياة.
أما أنت يا جل جامش فاملأ بطنك.
فرخ ليلك ونهارك.
اجعل من كل يوم عيداُ
ارقص لاهياُ في الليل وفي النهار.
اخطر بثياب نظيفة زاهية.
أغسل رأسك وتحمم بالمياه.
دلل صغيرك الممسك بيدك.
واسعد زوجك بين أحضانك.
هذا نصيب البشر في هذه الحياة.
هذا منطق النبي الذي بعد شيت مخاطبا ومجيبا على سؤال جل خامس..
انتابني هلع الموت حتى همت في البراري
يثقل صدري خطب اخي
مالي من هدأة ومالي من سكون
فصديقي الي أحببت صار إلى التراب
وأنا أفلا أرقد مثله ولا أفيق أبدا
أواه يا اوتنابشتم ماذا أفعل؟ أين أسير؟…
لقد تسلل البلى إلى أطرافي…
وسكنت المنية حجرة نومي…
وحيثما قلبت وجهي أجد الموت....
لقد صاغ مؤلف الأسطورة البابلية عن الطوفان والتي قد تكون نقلت عن مصدر ديني ولو أنها ملحمة شعرية، فقد أختار الرمزية العالية لتوضيح موقف جل خامس من أزمة نفسية مر بها نتيجة لحادث أنكيدو، هذا لا يعني أن الملحمة بكل تفاصيلها وصياغتها كانت تشير لحدث أخر، بل كل ما في الأمر يأتي من باب الإبداع والسرد القصصي الأسطوري الذي يهتم بالرمز والمعنى أكثر من أهتمامه بواقعية وتأريخ الحدث، كما هو هادة الكثير من الملاحم والقصص التأريخية التي عرفها الأدب الإنساني.
هذا واحد من الأنبياء الذين ذكرهم النص التأريخي الأركولوجي العراقي القديم، ويتضح من فحواه أن جل الخامس أو كلكامش كان مريدا أو تابعا لنبي الله نوح، أو على الأقل أنه يتبع منهجه ودينه، وإلا ما قيمة شخص يعلم ويرشد ملكا عظيما وشخصية تأريخية تميزت بالقوة والتفرد حتى قيل عنها وكتب عنها الكثير، ما لم يكن هذا الشخص إنسانا غير عادي وغير متاح لكل من يريد النصح والإرشاد والإجابة على أسئلة وجودية ذات بعد ميتافيزيقي أو غيبوي، هذا أيضا يؤكد للقارئ الكريم أن محاولات التشويه وتحريف قراءة الدين العراقي القديم لا تصمد أمام الأدلة والنصوص الثابتة عندما لا تحرف بالقراءة واللفظ والبحث عن الدلالات.
أما قصة النبي المحتمل الأخر والذي عد على أنه ملك أو أمير صار ملكا وهو الجل جودي أو الجال غودي والمعروف بالملك جوديا، فقصته تثير الكثير مما نخوض فيه من أحتمالات، فقد ورد عنه (هو امير من العصر السومري كان موجود في اواخر الالف الثالث قبل الميلاد ، تولى العرش و حكم مملكة (لكش) في جنوب العراق، وهو أول من حمل لقب (انسي) و هو بالسومرية يعني (الامير) ، نعرف عنه من الوثائق السومرية انه كان اميراً كبيراً عاش تجربة روحية كبرى، اذ كان الاله يظهر له في الحلم في صور مختلفة ويتكلم معه ويطلب منه تشييد معابد للعبادة.
واسم گوديا أو غودي أو غوديا يعني باللغة السومرية (المرسل) اي (النبي) الذي ينزل عليه الوحي السماوي -الالهي، وقد طلب الاله منه في الحلم بناء معبد، و قام الامير ببناء المعبد حسب القياسات المعمارية الهندسية التي تلقاها في الحلم فيكون هذا المعبد هو اقدم معبد مقدس في التاريخ!!، في واحد من احلام الامير (گوديا) والذي قصه هو بنفسه على الكتبة الذين دونوه على اللوح يتوجه گوديا الى سيدة الاحلام و يخبرها قائلاً :
لقد رأيتُ في حلمي شخصاً كان واقفاً بالقرب مني
كانت قامته اعلى من السماء
و اكبر من الارض
كأن من مياهه جاء الطوفان الكبير
نظرت الى ذلك الكائن المنتصب امامي فرأيت على يمنيه اسداً
و على يساره اسدا
و الاسدان يحيطان به
ثم نظر نحوي
كلمني وطلب من ان ابني معبداً
و لكني لم افهم مغزى كلامه
فقال لي عبارة غامضة : "الشمس تشرق على الارض"
و يتابع الامير حكاية حلمه فيقول :
ثم رأيت امرأة
لست ادري من هي تلك المرأة
كانت كأنها موجودة و غير موجودة
ثم رأيتها تحمل على جسدها كل المعدات اللازمة للبناء
و كل المقاييس المعمارية الهندسية
و في يدها كانت تحمل قلماً ولوحا للكتابة
وكانت لوازم البناء صالحة لتجعل العسير من الارض منبسطاً حتى يتم البناء
و لقد نظرت اليها فرأيتها غارقة في التأمل
ثم جاء فارس محارب و في يده قوس من لازورد
تقدم مني
ووضع امامي مخطط بناء المعبد
ثم سلمني كل المقاسات الهندسية الضرورية
ثم وضع امامي حجر القدر، واللوح المحفوظ ...
هكذا ينتهي القسم المقروء من اللوح المدون عليه الحلم بالخط المسماري القديم، نعرف من ما تبقى من اثار عمرانية ان (گوديا) فعل ما امره الله به فبنى و حسب المقاييس الالهية التي تلقاها في الحلم معبدا لكش ثم في اور و كذلك في اوروك جنوب العراق اليوم .
من النقش وكما هو حال كل الأنبياء عندما يتم تنبيههم على الوحي يكون البداية حلم، هذا مع إبراهيم ومع يوسف ومع النبي محمد، وكانت دائما ما يقص الحلم إلى أقرب الناس للتفسير والتأويل، فقد ورد غي النص "الحلم" مفردات عظيمة ذات مدلولات دينية توحيدية مثل " وطلب من ان ابني معبداً" وأيضا ""الشمس تشرق على الارض" كعبارة القرأن الكريم" وأشرقت الأرض بنور ربها"، ولكن الأبرز مما جاء في النص والذي يدل على نبوة هذا الملك العبارة التالية (ثم وضع امامي حجر القدر، واللوح المحفوظ)، فحجر القدر هو ما كتب به من أقدار ومقدرات واللوح المحفوظ هو سر أسرار الرب.
في مقالة للكاتب العراقي وارد بدر السالم مقدما كتاب الباحثة العراقية (حنان شاكر حمدان) المعنون (جوديا- أمير سلالة لكش الثانية) ، يذكر خلاصة ما توصلت له الكاتبة من أراء فيما يخص منزلة هذا الملك النبي مع تحفظنا المشروط على ما ورد، فيقول (في عصره الذهبي اكتظ بالمنجزات العسكرية والمدنية، فهو عصر بناء كما يتوضح ذلك من الجداول التي اعتمدتها الباحثة، لا سيما المنجزات الدينية، فتلك العصور زاحمها الدين بطريقة مباشرة، لهذا نجد عصر جوديا عصر بناء المعابد والعمران الديني، ويمكن الإشارة الى أبنية ومعابد الابننو ونطاق السماء ومعبد الاله ننخرساك ومصلى الالهة اماكشتن ومعبد الإله دموزي ايزو ومعبد الإله أنكي ومعبد الإله كاتمدوك- والاله ننازو. وهذا يعني أن عصر جوديا عصر عمران ببناء ثلاثة عشر معبداً بنيت من قبل الأمير جوديا، وهو الذي أعاد بناء أحد عشر معبداً وثلاثة معابد خارج حدود الدولة. وهذا يتيح للعامل الديني أن يكون عاملاً مركزيا في الحياة اليومية اللكشية والسومرية بشكل عام).