الدرس الحادي عشر من دروس رمضان لهذا العام


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7929 - 2024 / 3 / 27 - 00:19
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ
من القصص القرآني الذي لم يجد الدارس الحقيقي والمتدبر الأصولي في تعريف ما فيها من دلالات وإشارات معرفية ترسم صورة عن واقع تأريخي مميز لها، هذه القصة من قص القرآن الكريم والتي تتكلم عن قوم عاد وما كان عليه واقع هذا القوم من تطور علمي وحضاري مميز، فقد وردت إشارتان مهمتان في سورة الشعراء تحديدا عن هذه الأمة أو مجتمع قوم عاد، ...
الأولى _ ما ورد في النص من الآية 128 (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ).
الثانية _ ما جاء في الآية التالية لها (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ).
والغريب أن الإشارتين قد ربطهما الله مع نص أخر يشير إلى أن هذا الأمر مرتبط بالله لأنه هو الذي هيأ الأسباب العملية والإمكانيات المادية لذلك كله بقوله في الآية 132 (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ)، فالمستوى العمراني والحضاري والعلمي الذي كان عليه قوم عاد لم يكن فقط مهارات وإمكانيات بشرية مجردة، بل كان في الجزء الأساسي منه هو إمداد الله لهم بما كانوا في حاجة له في هذا المشروع الوجودي.
وعندما أقول أن الإرث الفكري الذي تكلم عن قوم عاد ووجودهم لم يتطرق لهذه المسألة، نجد أن غالب المفسرين وأصحاب السير والمؤرخين الإسلامين لم يتناولوا هذا الموضوع بالتحليل والدرس والبيان، مثلا لو عدنا للمفسرين الذي فسروا هذه الآيات نجد ما يلي على سبيل المثال مما جاء في تفسير الميزان للطبطبائي (قوله تعالى: " اتبنون بكل ريع آية تعبثون " الريع هو المرتفع من الأرض والآية العلامة، والعبث الفعل الذي لا غاية له، وكأنهم كانوا يبنون على قلل الجبال وكل مرتفع من الأرض ابنيه كالأعلام يتنزهون فيها ويفاخرون بها من غير ضرورة تدعوهم إلى ذلك بل لهوا واتباعا للهوى فوبخهم عليه)، ومما جاء أيضا في كتاب وهرة التفاسير شيء محير وغريب فقد ورد فيه (ويظهر أن عادا كانوا يعنون بالبناء والتشييد؛ ولذا قال لهم نبيهم: أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون؛ الاستفهام إنكاري لإنكار الواقع؛ إذ إنهم بنوا فعلا؛ و "الريع" اسم جنس جمعي لـ "ريعة" وهو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء المربوطة أو ياء النسبة و "الريع" ما ارتفع من الأرض؛ وقيل أبراج الحمام؛ لأنها تبنى على مرتفع؛ وتكون مرتفعة؛ و " آية " معناها علامة؛ وليس المراد منها آية الكون؛ أو الكتاب؛ بل المراد مطلق علامة؛ ومعناها هنا أنهم اتخذوا علامات للطرقات في الجبال؛ أو فجاج الجبال؛ وكانوا يتخذونها ليهتدوا في البر؛ وفي السير؛ فيتعرفوا بها الطرقات حيث ساروا؛ ووجه العبث في بنائها أنهم يغالون في الارتفاع بها مفاخرة؛ فهم يعيثون؛ ولا يكتفون بقدر الحاجة؛ وكل ما يزيد عن قدر الحاجة يكون عبثا؛ وكل ما يدفع إلى البطر فهو عبث؛ أيا كان نوعه.).
من المؤسف أن البعض ينزل في فهمه لهذا المستوى الضحل من نسبة التفاهة لله في أشياء لا يمكن نسبتها لبشر، ففي التفسير الأول والذي يشير إلى أن الله غضب ووبخ وأنزل العذاب على قوم عاد لأنهم كما يقول المفسر (كانوا يبنون على قلل الجبال وكل مرتفع من الأرض ابنيه كالأعلام يتنزهون فيها ويفاخرون بها من غير ضرورة تدعوهم إلى ذلك بل لهوا واتباعا للهوى)، ولو كان الأمر هكذا عند الله فلماذا غضب على قوم عاد ولم يغضب على غيرهم وقد فاقوهم في البناء واللهو، والسؤال الشرعي هنا، هل البناء العالي والتفاخر به واللهو من المحرمات التي تستوجب غضب الله وتدخله؟، بالتأكيد لا يمكن للمفسر أن يجيب بنعم والله لم يحرم البناء ولم ينزل حكما به.
أما التفسير الأخر فهو الذي يدعوا للضحك والسخرية من العقل الديني الذي يفسر أمر الله وحكمه وقراءه على أتفه مما جاء في التفسير الأول، خاصة وأن الله تعالى وبنفس النص يقر بأنه هو من أمدهم بأسباب ومستلزمات هذا الوضع، فالله لا يمكن أن يمنح ويمنع في آن واحد، فالتفسير الثاني أستند لفهم محلي دون سبب ممكن ولا أتبع فيه النسق القرآني في إنزال العذاب والعضب من الله على الأقوام خاصة وأنه أعتمد في تبرير ما حصل على ما جاء في قوله (أنهم اتخذوا علامات للطرقات في الجبال؛ أو فجاج الجبال؛ وكانوا يتخذونها ليهتدوا في البر؛ وفي السير؛ فيتعرفوا بها الطرقات حيث ساروا؛ ووجه العبث في بنائها أنهم يغالون في الارتفاع بها مفاخرة؛ فهم يعيثون؛ ولا يكتفون بقدر الحاجة)، أليس هذا التخريج الذي جاء به صاحب التفسير نوعا من التسخيف والتهوين لأمر الله.
نعود لنعرف من هم قوم عاد من التاريخ والروايات ومن النص القرآني أولا، فقد ورد لفظ قوم عاد أو عاد في القرآن وكالآتي:.
أولًا: التسمية:
قوم عاد كما يقول المؤرخون هم القبيلة التي ينتسبون فيها على ما يزعم إلى جدهم عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وقد قال كذلك ابن إسحاق أنهم سلالة «عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح»، وقال الطبري (وكان ممن طغا وعتا على الله عز و جل بعد نوح، فأرسل الله إليهم رسولًا فكذبوه وتمادوا في غيهم، فأهلكهم الله هذان الحيان من إرم بن سام بن نوح أحدهما عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح وهي عاد الأولى)، والسؤال هنا هل هما حقا عادان أم عاد واحدة ؟، ذكر أهل السير قولين في ذلك:.
القول الأول: إنها عاد واحدة (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ) 50 النجم)، ولا علاقة للنص بالآية التي سبقت الحديث عن الأقوام التي قبل إبراهيم والتي أشار لها بالنص أنهم الأقدمون (أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ)، وقد نسب الألوسي هذا القول إلى الجمهور فقال القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكًا بعد قوم نوح، كما قاله ابن زيد والجمهور.
القول الثاني: إنهما عادان، وقد نقله الطبري عن ابن إسحاق، وقال به ابن كثير، وسبب اختلافهم يرجع أيضا إلى قول الله تعالى (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ)، فمن فهم من لفظة الأولى أن هناك أخرى جعلهما عادين، أما أصحاب القول الأول فقد فهموا من هذا الوصف أنها أولى باعتبار هلاكها فهي أولى الأمم هلاكًا بعد قوم نوح، أو إن الأولى بمعنى القديمة.
ثانيًا: المكان:
تحدث القرآن الكريم عن مكان وجودهم وسكناهم، وقد سميت سورة من سور القرآن الكريم باسم المكان الذي سكنوه وهو الأحقاف، فالأحقاف اسم المنطقة التي سكنها قوم عاد، وهم قوم نبي الله هود (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ﴿٢١ الأحقاف﴾، مع أن الأحقاف ليس بالضرورة هي منطقة الأحقاف المعروفة عند العرب في اليمن حاليا، لأن معنى الأحقاف كما ذكر في تفاسير القرآن، هب مناطق الجبال أو الهضاب الرملية وليست الحجرية أو الصخرية، فقد ذكر ابن كثير في تفسيره «أن الأحقاف جمع حقف وهو: الجبل من الرمل»، وعلى هذا المنهج ركز واكد الماوردي رأيه فيها فقد عرفها تعريفًا دقيقًا في تفسيره فقال «الأحقاف هي ما استطال واعوج من الرمل العظيم ولا يبلغ أن يكون جبلا»، هذا ينفي أن يكون المكان الحقيقي هي أحقاف اليمن التي ذكرها المؤرخون (الأحقاف الذي أنذر هود قومه واد بين عمان ومهرة، الأحقاف الرمل فيما بين عُمان إلى حَضْرَمَوْتَ، فاليمن كله ذُكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشِّحْر (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ) قال: الأحقاف الرمل الذي يكون كهيئة الجبل تدعوه العرب الحقف، ولا يكون أحقافا إلا من الرمل، قال: وأخو عاد هود وجائز أن يكون ذلك جبلا بالشأم، وجائز أن يكون واديا بين عمان وحضرموت. وجائز أن يكون الشحر.
وبما أن الآيات التي ذكرت قوم عاد بأنهم قوم ذو بناء عظيم وعالي وأنهم أصحاب صناعة كما ذكر في النص، فلا يمكن أن يكون الوصف منطبقا على منطقة في اليمن أو النفوذ وهي رملية متحركة لا نبت فيها ولا ماء وهي صحراء خالية من مظاهر العمران أو الأثر الأركولوجي الذي يثبت وجود حياة مدنية وعمران وبناء فيها، الرأي الراجح عندي مع ذكر أن قوم عاد جعلهم الله خلفاء لقوم نوح، ومعروف أن قوم نوح هم القوم الذي حل عليهم الطوفان التأريخي والذي لا يتعدى منطقة وسط وجنوب العراق، فالإشارات المترابطة والتي تشكل وحدة معرفية جغرافية وتأريخية تؤكد على أن قوم عاد، هم من سكن أطراف الصحراء العراقية الغربية أو الهضبة الوسطى منه بين الشمال الصخري ومنطقة الفرات الأوسط ووادي دجلة.
ثالثًا: الزمان:
ذكر النص تحديدا زمنيا من حيث ترتيب الأمم التي جاءتها الرسل في بيان الزمن بقوله (وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) الأعراف ٦٩، وهذا يعني أن لا فاصل تأريخي كبير بين قوم عاد وبين قوم نوح وأت مجرد ذكر كلمة الخلافة يضعنا في مواجهة أستحقاق أخر هنا، يتمثل هذا الأستحقاق ببيان من المقصود بهم قوم نوح الذين أهلكوا بالطوفان ؟ أم قوم نوح الناجين؟، فالكلمة بنصها وردت في القرآن لبيان التعريف، فقد وردت بالمعنى الأول كثيرا (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا) الفرقان 37، ومن هذه النصوص كثيرا، كما ذكر المعنى الثاني أيضا ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) هود 48، والظاهر من النصوص أن قوم نوح مع نسق الأستعمال المقصود بهم تحديدا الذين دعلهم ولم يستجيبوا فأهلكهم الله بدليل أن الربط بينهم وبين الأمم الهالكة يضمن موضوع العصيان والكفر (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) الحج.
إذا يمكن تحديد زمان قوم عاد يأت بعد أنتهاء زمن هلاك قوم نوح العاصين، وبالمجمل هم بالتأكيد ممن أورثوا الأرض بعدهم، وهذا يعني أنهم من الناجين أو من بعض منهم، هذا يؤكد أن الخطاب والنبي المرسل لهم كان على ملة نوح ونبيهم من شيعة نوح والسائرين على خطاه (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، وهذا ما يدعوننا للترجيح بأنهم من أهل العراق تحديدا وليس من أهل اليمن أو غير مكان، وربما كان نبيهم "هود" هو أول نبي بعد عصر نوح، فهم كانوا من ذرية نوح عليه السلام، وبعده في الزمان، قال الطبري في تفسير هذه الآية «واذكروا ما حل بقوم نوح من العذاب إذ عصوا رسولهم، وكفروا بربهم، فإنكم إنما جعلكم ربكم خلفاء في الأرض منهم، لما أهلكهم أبدلكم منهم فيها، يعني في الأرض أي من بعد إهلاكهم، وقال ابن كثير(وكان زمانهم بعد قوم نوح، كما قال في سورة الأعراف (أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وقد ورد ذكر (عاد) في القرآن الكريم (٢٤) مرة، في (١٨) سورة وأما قصتهم فقد وردت في النصوص القرآنية لتحكي عن شعب من الناجين من قوم نوح أنعم الله عليهم بالخيرات الوفيرة ولما أمدهم من نعم، وفوق ذلك فقد وادهم الله بسطة في الجسم، والبسطة في الجسم كما وردت مرات كثيرة في القرآن كناية على القوة الجسدية والصحة العامة، نظرا لما كانوا يعيشون في ظل أجواء داعمة وخيرات وفيرة، لذا فقد تفرغ هذا الشعب مع ما يمتلك من أسباب مادية لبناء مجتمع رفاهي خاصة في العمران والبناء الفخم، بالرغم من أن منطقتهم كسكن وموقع جغرافي قد يكون عرضة لتقلبات الأجواء والأنواء، خاصة أن الحضارات التي عمرت طويلا هي الحضارات التي نشأت في منطلق صلبة والبناء فيها من الحجر أو الصخر الذي يقاوم الأنواء الجوية، أو في المناطق التي تحيط بالأنهار والأراضي الزراعية الوافرة الأنتاج، فالمثال الأول هي الحضارة الأشورية التي تركت شواهدها بعد ألاف السنين على هلاكها، والثانية هي حضارة بابل التي نشأت في وسط العراق على ضفاف الفرات.
لقد جاء النص المذكور سابقا والذي حدد أوجه الترف والحياة العظيمة عند قوم عاد واصفا عظمة المجامع الذي بنوه بأنه كان شكلا من أشكال البناء المترف الذي تتميز به المجتمعات الحضارية، فشيدوا البنايات الشاهقة (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) التي لا يمكن أن تنجح في المجتمعات البدائية أو المجتمعات التي تعيش في المناطق الرملية مبدو أو جماعات متنقلة، كما أنهم نجحوا في الصناعة والتعدين ووصل بهم الأمر للأبحاث العلمية التي كانوا يأملون فيها الحصول على أسرار الخلود، وهي مراحل علمية دقيقة جدا وتحتاج إلى تأهيل علمي وعملي عالي الدقة (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ)، وقد يكون أستخدام كلمة المصانع هنا ليس عبثيا أو رمزيا بقدر ما يشير النص إلى مفهوم واضح ومحدد، أرد منه أن يبين القدرة العلمية والفنية لهذا الشعب مع ذكر إشارة الإنعام عليهم وإمدادهم من الله بالأسباب ومنها العلل المهيأ والقادرة على بلوغ درجات التقدم والرقي.
العبرة التي نريدها من هذا الدرس أولا تتعلق بقراءاتنا للنصوص القرآنية والتي تجري عادة وفقا لما سطره الأولون من أفكار، لا نملك الشجاعة العقلية والفكرية أن نبتعد عنها ونقرأ بروح النص ومقاصده بعيدا عن إسقاطات واقع الصحراء ومفاهيمها التي رسخت في العقل التفسيري الإسلامي، والنقطة الأخرى أن افكيك النصوص وربطها بالسياق نتائج ومقدمات تفتح لنا البوابة الحقيقية لفهم النص وأستخراج الصور التأريخية الحقيقية عن الحدث والفكرة منه، هذا الدرس مثال عن المنهج القديم الذي شوه القصة والقراءة العلمية العملية التي قدمت صورة تقريبه للواقع التاريخي لأمة من الأمم.
في النهاية وإكمالا للدرس نعود إلى قضية إهلاك قوم عاد بنفس الأسباب التي نشأت عليها، جغرافيا كان المعمار والطراز البنائي العظيم غير معد للخلود والبقاء الطويل، لذا لم يصمد أمام الريح والأعاصير التي هبت على المكان، فحولته كأعجاز نخل خاوية، مجرد هياكل شاخصة تتأكل بالمطر والريح حتى أندثرت ولم يعد لها وجود إلا من بقايا قليلة، الريح الصرصر التي هبت عليها أحالت ذلك البناء المعظم والمصانع وكل أوجه الحياة إلى ركام تذروه الرياح، والسبب أن الإنسان مهما أمتلك من أسباب العلم يبقى يجهل نقاط ضعف كثيرة تسبب بأنهيار وجوده لو حاول التعدي أو خرق القوانين الوجودية الحاكمة، وهذا ما كان سلاح الله دوما ضد الذين يحاولون الفساد والإفساد في المنظومة الوجودية التي يسميها الله العصيان والتمرد على إرادته، المتمثلة بالإصلاح والخيرية والأحسنية دون الطغيان والتمرد فوق طاقة البشر.