الدرس الثالث من دروس رمضان لهذا العام


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7917 - 2024 / 3 / 15 - 04:53
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

هل صحيح أن الله يقسم بمخلوقاته؟.
أعتاد المفسرون وكثيرا من أهل الفقاهة وممن يشتغلون بعلوم القرآن أن يشيروا إلى نصوص قرآنية وردت بصيغة تعبيرية خاصة، على أنها قسم من الله بمخلوقاته وتوكيدا للبشر على أمر ما هو محل القسم، والمراد منه أن هذه الصيغ تفيد بالمجمل التوكيد على أمر يذكره الله ويريد إثباته، ومن هذا القبيل وما ورد في القسم النص التالي من سورة الفجر (وَالْفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ(3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ(4) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ(5)، وأيضا ما جاء في نصوص متشابهة منها النص التالي من سورة الضحى (وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)، وحتى نفهم الصيغ هذه بعيدا عن المتعارف عليه والذي رسخته القراءات الأعتباطية دون التمحيص في جوانب اخرى من قراءات أخرى أقرب للمنطقية، علينا أولا نعرف معنى القسم لغة وأصطلاحا؟ ولماذا يقسم ونقسم.
يَأتِي القَسَمُ بِمعنَى اليَمِينِ والحَلفِ، وهُو القَسَمُ بِفتحِ القَافِ والسِّينِ وجَمعُهُ أَقسَامٌ، مِثل، سَبَبٌ وأَسبابٌ، ومِنهُ "أَقسَمَ بِاللهِ إقساماً"، أي حَلَفَ بِاللهِ حلْفاً، وقاسَمَهُ أقسَمَ لَهُ، أو شَارَكَهُ فِي القَسَمِ ومِنهُ قَولُهُ تَعالَى ﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾، يَقُولُ الراغب الأصفهاني إنَّ القَسَمَ بِمعنى اليَمينِ، أَصلُهُ مِن القَسامَةِ، وهِيَ أَيمانٌ تُقسَمُ علَى أَولِياءِ القَتِيلِ إذا ادَّعُوا علَى رَجُلٍ أنَّهُ قَتَلَ صاحِبَهُم، ومَعَهُم دَلِيلٌ دُونَ البَيِّنة، فيَحلِفُونَ خَمسِينَ يَميناً تُقسَمُ علَيهِم، ثمَّ صارَ اسمٌ لِكلِّ حَلفٍ، فَكأَنَّهُ أي القَسَمُ كانَ في الأَصلِ تَقسيمَ أيمانٍ، ثمَّ صارَ يُستَعمَلُ في نَفسِ الحَلْفِ والأيمانِ، والحَلْفُ لَهُ معنيانِ هُما القَسَمُ والعَهدُ، والحَلْفُ بِفَتحِ الحاءِ وكَسرِها لُغتانِ فِي القَسَمِ فالحِلفُ بِكسرِ الحاء "العَهدُ" الذي يكُونُ بينَ القومِ، وقد حالفَهُ أي عاهَدَهُ وتحالَفَ القَومُ تعاهَدُوا، ويكونُ بمعنى تآخوا.
وأما اصطِلاحاً فهُوَ طَريقٌ مِن طُرقِ تَوكِيدِ الكَلامِ وإبرازُ معانيهِ ومقاصِدِهِ علَى النَّحو الَّذِي يُريدُهُ المتكلِّمُ، إذ يُؤتَى بِهِ لِدفعِ إنكارِ المُنكِرِينَ، أو إزالةِ شَكِّ الشَّاكِينَ، وهُوَ مِنَ المؤكِّداتِ التي تُمكِّنُ الشَّيءَ في نَفسِ السَّامِعِ وتُقَوِّيهِ، ولِتَطمَئِنَ إلَى الخَبر، والقَسَمُ تَوكِيدٌ لِلكلامِ، وبَيانٌ لَهُ، وإلَى ذلِكَ أشارَ سِيبَويه بقوله: " اعلَمْ أنَّ القَسَمَ تَوكِيدٌ لِكَلامِكَ. فإذا حَلَفْتَ علَى فِعلٍ غيرِ مَنفِيٍّ لم يَقَعْ لَزِمَتْهُ الَّلامُ، ولَزِمَتْ الَّلامَ النُّونُ الخفِيفَةُ أو الثَّقِيلَةُ فِي آخِرِ الكَلِمةِ، وذلِكَ قولُكَ: لأفعَلَنَّ.. واعلَمْ أنَّ من الأفعَالِ أشياءَ فِيها مَعنى اليَمِينَ، يَجرِي الفِعلُ بَعدَها مَجرَاهُ، بَعدَ قَولِكَ: واللهِ، وذلِكَ قولُكَ: أُقسِمُ لأفعَلَنَّ، وأشهَدُ لأفعَلَنَّ، وأَقسَمْتُ باللهِ علَيكَ لَتَفعَلَنَّ"
يتكوَّنُ أسلُوبُ القَسَمِ من جُملَتَيْنِ الأُولَى وتسمى جُملةُ القَسَمِ، والثَّانيةِ تسمى جَوابُ القَسَمِ، وقد تَكُونُ جملةُ القسَمِ جملةً فِعليَّة أو جملَةً اسميَّة، فالجُملةُ الفِعليَّةُ، نحو " حَلَفْتُ بِاللهِ، وأَقسَمْتُ وآلَيْتُ وعلِمَ اللهُ، ويَعلَمُ اللهُ" والجملة الاسمِيَّةُ، نحو " ولَعَمرُكَ، ولَعَمرُ أَبِيكَ، ولَعَمرُ اللهِ، ويَمِينُ اللهِ، وأيمُنُ اللهِ، وأمانَةُ اللهِ، وعلَيَّ عَهدُ اللهِ لأفعَلَنَّ أو لا أَفعَل"، إنَّ هاتَيْنِ الجُملتَيْنِ تَتنزَّلانِ مَنزِلةَ الجُملةِ الواحِدةِ، فَهُما كَجُملَتي الشَّرطِ وجَوابِ الشَّرطِ، لا تَستَغنِي إِحداهُما عنِ الأُخرى، فَوُجُودُ القَسَمِ سَببٌ فِي وُجُودِ جَوابِ القَسَمِ، فلا يُمكِنُ أنْ يَأتيَ الجوابُ دُونَ أنْ يُمَهَّدَ لَهُ بالقَسَمِ، فالترابُطُ بَينَهُما تَرابُطٌ في المعنى والصناعة النحويَّة، عِلماً أنَّ جُملةَ جَوابِ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَها مِن الإِعرابِ، أي أنَّها لا تَشغَلُ وَظِيفَةً يُمكِنُ أنْ يَشغَلَها المُفرَدُ، وذلِكَ لأنَّ جوابَ القَسَمِ خبرٌ، أي يَحتَمِلُ الصِّدقَ والكَذِبَ، وقد يَكُونُ نَفياً أو إثبَاتاً، والغَرضُ مِنَ القَسَمِ تَوكِيدُ ما يُقسَمُ علَيهِ مِن نَفيٍ أو إثباتٍ، ولَيسَ مَعنَى كَونِ جَوابِ القَسَمِ لا مَحلَّ لهُ من الإعرابِ أنَّه غيرُ مترابِطٍ مَعَ القَسَمِ".
أَدواتُ القَسَمِ الَّتي تَنُوبُ عنِ الفِعلِ، هِيَ الباءُ والواوُ والتَّاءُ، وقد يُكتَفَى بِحرفِ الجرِّ وما أُقسِمَ بِهِ، ويُحذَفُ الفِعلُ الدَّالُّ علَى القَسَمِ، ويُسمَّى حرفُ الجرِّ هُنا حَرفَ قَسمٍ، فإذا كانَ حرفُ القَسَمِ المُستَخدَمُ هُوَ الباءُ فإنَّ الفِعلَ الَّذِي يَتَعلَّقُ بِهِ الجارُّ والمجرُورُ يَكُونُ مَحذُوفاً جوازاً، فقال سيبويه " وللقَسَمِ والمُقسَمِ بِهِ أدَواتٌ فِي حُرُوفِ الجرِّ، وأكثرُها الواو، ثمَّ الباءُ، يَدخُلانِ علَى كُلِّ مَحلُوفٍ بِهِ، ثُمَّ التَّاءُ، ولا تَدخُلُ إلَّا فِي واحدٍ، وذلكَ قَولُكَ واللهِ لَأَفعِلَنَّ، وبِاللهِ لَأَفعَلَنَّ، وقَالَ تَعَالَى ﴿وتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أصنَامَكُم ﴾ وقَالَ الخليلُ، إنَّما تَجيءُ بِهذِهِ الحُرُوفَ لأنَّكَ تُضِيفُ حَلفَكَ إلَى المحلُوفِ بِهِ، كما تُضِيفُ مَرَرْتُ بِهِ بِالباءِ، إلَّا أنَّ الفِعلَ يَجِيءُ مُضمَراً فِي هذا الباب، والحَلفُ توَكِيدٌ " .
يراد من القسم عادة وفي الغالب يستعمل القسم في أمرين لا ثالث لهما، وهما أما أن يكون القاسم ليس لدية من الحجة الكافية التي تغني عن القسم فيكمل ما قاله أو ما نطق به باليمين والقسم ليكمل نقص، وهذا هو الغالب في الأستعمال الشرعي والقانوني، وحتى في النص الذي أوردناه حينما قاسم آدم وزوجه إنه ناصح لهما بعدما أخبرهما الله أنه عدو لهما، فأكمل بالقسم ما سعى له وبأعتبار أن القسم هنا إكمال للحجة، فليس لديه حجة بذات القوة التي قدمها الله لهما من خلال التحذير السابق، أما الهدف الثاني وأيضا وارد في نفس الصيغة التي في النص هي إدخال اليقين والأستقرار في قلب وعقل من نقسم له، أي يستخدم القسم هنا ليس فقط لإكمال الحجة بل لترسيخها في مقابل الشك والظن بخلاف القول والخبر.
هذه النتيجة هي خلاصة ما يريده النحويون من المعنى وما يشير له الفقهيون من دلالة، فأهل اللغة يشيرون للمعاني من خلال الدلالات والأستعمال العام والشائع الثابت الذي مر على الناس وتداولوه بهذا الحال والمقصد، أما أهل الفقه والعقائد فيبنون مفهوم القسم على قاعدة أنه كلما كان المقسوم به عظيما وذا درجة من القدسية كان الإيمان بما قسم به عاليا ومحل تقدير وإلتزام، إذا عندما نقسم بالله مثلا فعند المتشرعة هذا "قسم لو تعلمون عظيم"، وما دونه من أسماء وصفات ومراتب وكل ما يتعلق بالذات الإلهية يكون كافيا للإثبات، مع أن البعض لا يجوز القسم لا صادقا ولا كاذبا تفسيرا لقول الله تعالى من سورة البقرة (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
إذا المراد الأساس من القسم هو الحلف للمقابل بما هو عظيم عند الطرفين لإكمال حجة أو إثبات مقابل شك ويقين عند المتلقي، فهل هذه النتيجة يمكن أن تنطبق على ما يقال على قسم الله بمخلوقاته ومنها الشمس والقمر والضحى والمغيرات وغيرها ممن لا عظمة فيها ولا قدسية تفوق عظمة الله وقوله وقدسه، مثلا يقول ابن باز وهو ممن يعد له مكانة كبرى في التفسير والفتيا عن المسلمين بخصوص تفسير سورة الفجر، والقسم الوارد في أولها كما يزعم بما يلي (فهذه الآية تبين أن هذه الأقسام عظيمة أقسم الله بها سبحانه، وهو جل وعلا يقسم بما يشاء لا أحد يتحجر عليه وإنما أقسم بها لأنها من آياته الدالة على قدرته العظيمة وأنه رب العالمين، فقال وَالْفَجْرِ، وهو انفلاق الصبح بعد ذهاب الليل)، فهذا الرجل يؤمن ويتبنى أن الله أقسم بالفجر وعبر عنه أنه من آياته الدالة على قدرته العظيمة، السؤال هنا هل أن الله عندما أقسم بالفجر كما يزعم ويزعمون كان ناقص الحجة ولدليل ليقنع الإنسان بما في جواب القسم، وهو لأربع مرات عن أربع أشياء والجواب كان " هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ".
من قراءة السورة التي تبدأ بتعداد مخلوقات الله ثم يتساءل النص عن قضية ربما يشير فيها إلى موضوع يتعلق بالمخلوقات الأربع والرابط المشترك بينها، الفجر والليال العشر والشفع والوتر وأخيرا الليل إذا يسر عندما نحاول أن نربط بينها قد يكون الأول والثاني والرابع تشترك بكونها توقيتات أو وحدات زمانية معروفة، أما الشفع والوتر فما يربطها بهن مع أن الشفع والوتر مصطلح يراد به النوعية أو القياس الأعتباري الذي يحكم الترتيب الوجودي، فكل شفع بعده وتر وبعده شفع وهكذا، فهل أراد النص أن يقول أن الفجر والليل عبارة عن شفع ووتر أو تعاقب بينهما كما هو التعاقب بين الشفع والوتر، لو سلمنا بهذا الرأي إذا ما علاقة الليال العشر هنا هل هن من التقسيم أم إشارة لأمر أخر تقسيمي، الغالب هنا أن الإشارة معلقة بالتقسيم وليس بالقسم والمراد في النص هو مخاطبة العاقل "ذي حجر" بأن الزمن متتالي بين سفع ووتر اليوم شفع ووتر والشهر شفع ووتر بأعتبار أنه يتكون من ثلاثون يوما شفع ووتر فالعشر الأولى وتر والثانية شفع والثالثة وتر، وهكذا يسر الشهر كما يسر الليل إلى الفجر.
هكذا يمكن أن نفهم النص أيضا ونفهم ما بعده من نصوص على أن المجتمعات البشرية والتي عدد النص بعضا منها كانت لا تؤمن بالتداول والبسر كما في موضوع الشفع والوتر، وأن لا شيء منفرد ولا شيء مزدوج، والكل خاضع للتعاقب والزوال والتكرار، والمهم أن الإنسان هنا عليه أن يفهم حقيقة واحدة وهي أن لا شيء باق لحاله يعرقل أو يوقف عملية التتالي بين الشفع والوتر، لتنتهي عملة الحدوث والوجود إلى ذات النقطة الأولى التي أنطلقت منها وهي العودة له (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي)، النفس المطمئنة هنا تلك التي تؤمن بقانون الشفع والوتر قانون السير والتعاقب والتتالي، وليس أي نفس.
قد يتفق البعض مع هذا التوجه والتدبير ولكن هناك من يعترض بأن الله فهلا قد أقسم بصريح العبارة بما ورد في سورة الشمس تحديدا (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)، فكيف لنا أن ننكر القسم الواضح والصريح والذي لا لبس فيه ولا تأويل أخر، أولا لا بد أن أقر أن النص قسم وحلف ويمين يربط بين حالين الأول يبدأ من مفتاح السورة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ) ليربط القسم بالقسم الثاني الذي هو (الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)، وجواب القسم هنا (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (25).
ولتوضيح ما نريد أن نقوله أن القسم ليس من الله ولم يقسم به أبدا لا للإثبات كون "قوله الحق وله الملك" كما ورد في سورة الأنعام (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ ۚ قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (73)، ولا للإنكار أيضا بل هو تحديدا إخبار عما جاء في أخر النص (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ)، هذا الذكر للناس أنه في حال حدوث الظاهر الكونية المدرجة في قائمة التعداد من الشمس إذا كورت إلى علمت نفس ما أحضرت، سيقول من يقول للناس في ذلك اليوم المشهود بعد أن تخنس المخنسات ويعسعس الليل ويتنفس الصبح من بعد حدوث ما ذكره النص، أن ما جاءكم به رسول الله ستجدونه محضرا ومقسما بين الحق والباطل بين الخير والشر وما يظلم يوم إذن ربك أحدا وهو المقصود (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ).
قد يقول قائل كيف يستقيم هذا التخريج مع صراحة النص، الجواب أن الخبر أو حدوثه سيكون في يوم لا يحتاج الله فيه لقسكم، فالأمر برمته سيكون بيوم القيامة، والدبيل أن الأحداث التي ذكرها النص ليست اليوم ولا غدا إنها في يوم الحساب، فهنا النص لا يشير لقسم ويمين وحلف بل لقسمة أرادها الله تذكرة للناس حتى لا يقول أحد يا ليتنا كما ورد في سورة طه (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ)، فكل ما ورد من بعد إشارة لقسم وما قبله هو قول رسول كريم ذي قوة عند الله مطاع في تنفيذ أمر الله وليس مجتهدا به من عنده لأنه أمين عليه، فلا تقولوا عليه مجنون لأن ما تقولنه سوف يكتب لكم وعليكم، فلقد رأى الأمر الذي تنكرونه رؤية كما يرى أحدكم الشمس في الأفق المبين الواضح وليس غيبا أو علم مظنون أو مفترض، ولا هو من قول الشيطان عندما تصف العرب الشعراء بأنهم ممن يوحى لهم شياطين الشعر، إذا كل ما ذكره النص مجرد تذكرة لقوم يتقون.
من كل ما تقدم يتضح أن ما أشيع وتداول عبر التفاسير والتأويلات الأعتباطية أن الله أقسم للبشر بمخلوقاته، مجرد وهم وشبهة لا أساس لها من الصحة، لا من باب إثبات حجمة وعجز في إكمالها أو فرضها وهو الذي لو شاء لهدى الناس أجمعين، ولا من باب إدخال اليقين في قلوب الناس على أمر فيه شك وظن، وقد نفى الله الشك عنه وعما يريد من أمر كما ورد في سورة إبراهيم بقوله (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ)، فكيف يجرؤ البعض وينسب لله ما لا يجوز أن يكون منه، فلا أعظم من الله ولو أراد القسم لأقسم بذاته وبأسمائه وبجلال وجهه العظيم بدلا من القسم بما لا يقسم به البشر أصلا.