هل يمكننا البدء من جديد دينيا؟....3


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7913 - 2024 / 3 / 11 - 00:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

البينات
أولا
ولكي نضع النقاط على الحروف ونجمع مقاصد الدين الحقيقية مع أسس ومبادئ التكليف الإيماني وجوهر القضية الدينية، وحتى نعري الحجج والأعذار التي يسوقها البعض حول دور الدين توسعة وتضييقا في حياتنا، وما هو المطلوب منه ومنا على حد سواء، لا بد لنا أن نبحث في قضية أهم وأجدى وتتعلق بسؤال محوري يرتكز عليه المشروع التنويري الطموح، هل الدين للناس ومسخر لخدمة قضية الوجود، وبالتالي فهو يخضع لمبدأ الموائمة والتماثل مع حركة الوجود؟ أم أنه أمر حتمي مصمم ومبرمج على ما كان عليه لا يقبل التغير والتجديد لأنه كامل وتام وقطعي في رؤيته وحلوله التي قدمها لنا في بداية وجوده؟.
لو تمكنا من حسم هذا الموضوع يمكننا أن ننطلق في ضوء الإجابة إلى فضاءات الحلول والمقترحات العملية التي تحفظ للدين دوره المحوري حاملا للمعرفة وخالقا لها، وبين مصلحة الإنسان والحرص على تأمين توافقه مع الوجود المتحرك وبذلك نجدد للدين حركته وتفعيل ما كان أصلا لأجله، وكما بينا أن موضوعية الدين في قيمه وفيما ينتهي له الإنسان من نتائج عندما يضع الدين موضع الإيمان العقلي والقلبي وبالمقارنة مع ما تشتهي الأنفس، هنا يمكننا أن نعطي تقويما عقلانيا وجدانيا لا يبنى على التسليم والطاعة فقط، بل برؤية عملية جادة وحقيقية تؤكد صوابية الإشاءة من جهة وعدالة قضية الدين من جهات عدة.
نؤكد هنا أن الذين يؤمنون بأن الدين الذي يختاره ويؤمن به لا بد أن يجعل لبعض الإنسان على أخيه الإنسان ميزة تفاضلية، ويمنحه سلطة وتقدير ذاتي دون أن يحتكم لعنصري الخيرية والأحسنية في تقديم ما هو الأجدر إنسانيا وأخلاقيا، لا يمكن أن نؤمن به ونتعبد بأحكامه، وحتى نرفض أن نقر له لأن سيحول وجودنا الحر إلى معتقل وسجن كبير، يعلم العبودية والخضوع وينمي روح العداء والكراهية بين بني الإنسان، لذا فمن يدعوني لدينه عليه أن يفهم أن أي تفاضل أو كهنوتية أو أدعاء صلة بالسماء خارج ما هو طبيعي ومتماهي مع العدل، سيكون مبررا كافيا لي وللإنسان العاقل لإنكار ما فيه، ودون الحاجة لأن يبرر أو يفسر ذلك على أنه ليس جزء من حركة الدين في الوجود طالما أن الله قد حدد المسارات وفق قانون من شاء .

ثانيا
وهذا المهم أن الله رب الجميع وليس خصما لأحد أو عدوا لأحد لأنه مسؤول عن الجميع وخطابه للجميع، حتى يظهر الإنسان عداوته لله وللإنسانية عند ذاك سيكون مستحقا الخصومة بفعله لا بإرادة الله، فالمؤمن وغير المؤمن كلاهما عند الله في منطقة الشروع التكليفي واحد ولا يمكننا أن نفصل بين المشروع وهدفه أبدا، على هذا الأساس فالله رب العالمين وليس فقط رب المؤمنين وعليه فالكل بنظر الله مخاطب ومكلف ومسؤول، ولا علاقة للإنسان أن يحل محل الله في تقدير هذه العلاقة أو بيانها وشرحها أو ترتيب نتائجها، لأنه هو وحده الأعلم بها وهو المالك حق التقرير والتقدير ثوابا وعقابا، فمن أين جاء حق الإنسان بتكفير الأخر أو إخراجه من دائرة مسؤولية الله، وعليه فالإنسان هنا ملزم بسياسة الله مع الناس وواجب عليه أن يكون حياديا في هذه المسألة.
ثالثا
في عموم النظرية الدينية هناك أشياء بديهية يمكن للعقل أن يدركها ويقبل بها كما هي ولا مجال للمناورة فيها، سماها البعض ثوابت وهي تسمية توحي على أنها من المناطق المحرمة الدخول فيها أو مناقشتها وهي كذلك لا لأنها محرمة ولكن خلافها هو خلاف التعقل والعلمية المنطقية، إذا هناك فرق بين مفهوم ودلالة البديهية وبين الثابت كما يقولون من حيث جوهرية المعنى، مثلا وحدة الله وأحديته هذا منطق عقلي وعملي سهل التسليم به، لأن التعدد له أثار تتعدى مسألة الإقرار بها من عدمها ولو كان هناك ألهة لأختلف ميزان الوجود وتضارب الكون المخلوق على أساس أختلاف المنهج أو الغايات تختلف طرق التنفيذ والفرض، هذه بديهية عقلية أساسية وليست ثابت حكمي لا يجب مناقشته أو حتى عرضه بهذا الشكل، عليه فلا بد أن نعي عمق دلالة ما نطرح قبل أن نثبت ما هو ممكن التحرك فيه وعليه وبين ما لا يستوجب التحرك لأنه بديهي.
رابعا
مما تقدم نفهم الدين كما يلي (سلسلة من الأفكار والرؤى المتكاملة التي وضعها الديان لتنظيم حياة البشر مرتبطة بتحقيق نتيجة الخير والصلاح وحث الإنسان على العمل الإيجابي من خلال مبدأ المكافأة التحضيضية أو مبدأ الوعيد في حالة أن الإنسان لا يساهم في تحقيق ما يطمح إليه مشروع الديان)، فهو أذن مشروع أصلاحي وليس طوقا أو مجموعة أغلال في عنق الإنسان لتبقيه في دائرة الشك والخوف والرهبة في أن يكون مرتهنا إلى نتائج لا يدركها في وجوده، لذا قال الله تعالى أعملوا وقال أعقلوا وتدبروا وتفكروا ولينظر الإنسان، بهذا المنطق هو يحث الإنسان على الإنجاز العملي والعلمي وليس على الإعجاز الظني الغيبي، فمن يريد الحياة إيجابية لا بد له من العمل الإيجابي المنتج ولا بد من وسائل تساهم في خلق هذا المنتج المطلوب، أما العبادات المفترضة فهي جزء من عملية جعل الأستقرار النفسي بالاستطاعة التكليفية الميسرة وسيطا لطمأنة الإنسان على وجوده وصنع سلامه الداخلي المرافق للعمل الوجودي.
خامسا
هناك قضايا وأساليب وممارسات أرتبطت بالدين ليس لأنها عناصر فيه أو منه أو ضرورية أبدية له، ولكنها جاءت على أثر تنفيذ شكلي لموضوع ما حسب ظروف ومعطيات زمكانية، والآن قد تبدلت تلك الظروف والمعطيات بتغير الأزمان وأختلاف المكان وتجدد حاجات أهم وأجدى بتلبيتها وترتبط أصلا بوظيفة الدين، فالجوامع مثلا كانت دائرة متكاملة من الخدمات الأجتماعية العامة فهي دار قضاء ومدرسة ومستشفى ومكان عبادة وحتى ملتقى للناس يتشاورون فيه بأمورهم لعامة والخاصة، الآن تحولت إلى مجرد أماكن للعبادة فقط نقضي فيها دقائق معدودة وينتهي دورها رغم أنها تشغل حيز واسع في المكان والتكاليف والأهتمام، إذا لا مانع أن تعود لوظيفتها وأعادة تسخير المكان وفق الظرف العام وحسب حاجة المجتمع، فتتحول إلى مدرسة تربوية وتعليمية في وقت الفروغ من العبادات، أو تتحول إلى منتديات أو دار علم أو أي وظيفة قد يحتاجها المجتمع، فالله عندما جعل بيوته بيوت للناس إنما يقصد من حيث هدفيتها أن تكون في خدمة الإنسان، وإلا فما حاجتنا لبيوت تهجر غالب الوقت فقط لأننا نتعبد فيها لله وكأن الله لا يقبل العبادة إلا فيها.
سادسا
وأرتباطا بما سبق فلا بد لنا من إعادة النظر في الكثير من هذه القضايا والأساليب والوسائل، توافقا مع حالة التجديد وبما يضمن أولا أداء الواجب منها مع تقليل ما تفرزه من حالات غير مناسبة، مثلا ما قيمة القباب والمآذن والأجراس في الكنائس أيضا في الوقت الذي تتوفر فيه البدائل العملية الأكثر فاعلية في أداء الواجب والوظيفة، إذا كانت القباب والمآذن والأبراج الكنسية وغيرها من شكليات الدلالة وعلامات أستدلال، فاليوم الإنسان قادر على التمييز والفرز بما يملك من وسائل تقنية وفنية مناسبة وكافية في تأدية المطلوب، ولا علاقة لهذه الأشكال لا بالتدين والعبادات أو ضرورية حتمية لها، ولا في قبول الله لها أو أنها مفروضة بما فرض الله أحكاما علينا لها أهداف وغايات وعلل مرتبطة بالمصلحة، فيمكن للإنسان أن يصلي في أي مكان بشرط الطهارة والحلية فقط، أما مسألة أجتماع الناس والصلاة المشتركة فيمكن تأديتها في أي مكان عام أو خاص على أن لا يكون هذا المكان حصرا على هذه الشعيرة أو تلك.
سابعا
في الوقت الذي يرفع فيه المسلمون جميعا شعار (اطلب العلم من المهد إلى اللحد) وشعار (أطلب العلم ولو كان في الصين)، لا نجد أي أثر عملي وتطبيقي لهذه الشعارات في الواقع، والسبب يعود لقضيتين مهمتين، الأولى أطلاق مفهوم العلم على كل المعرفة الدينية وهو أطلاق غير صادق ولا مصداق له، لأن العلوم محكومة بقوانينها المادية والتجريبية، والمعرفة الدينية معرفة فكرية تحصيلية مثالية لا تخضع لمتطلبات العلم تجريبا لا بالنتيجة ولا بالبرهان، ثانيا أشاع الكهنوت الديني أن العلم الديني في حالة تناقض وتضاد مع العلم التجريبي ولا بد من الفصل بينهما على مبدأ التناقض والتضاد الواجب والحتمي، وبذلك وضعوا خطا صادا ومانعا من أن يكون العلم المقصود في الشعار هو العلم التجريبي البرهاني المبني على الحقائق العملية، وأفرغوا الشعارات من مضمونها الفعلي وتحريف أهدافها ومقاصدها لصالح منهج أستبدادي تخريبي متعنت، وهم بذلك حرفوا المعرفة الدينية عن مدارها الأصلي بجعلها كل العلم وأزاحوا العلم المطلوب من مرتبة الطلب إلى مرتبة الترف الغير ضروري، والنتيجة حولوا مجتمع المسلمين إلى مجتمع متلقي ذيلي هامشي خرافي غيبي، غارق باللاهوتية ومتغيب ومتغرب عن حضور العالم التطوري والتحديث والتجديد والإبداع.
وعلى مستوى الأفكار والرؤى العامة على المؤسسة الدينية أن تعلن بصراحة ووضوح وبشكل معلن كتابيا أنها ضد التمييز الإنساني بين مؤمن وكافر، إلا في حدود ما رسمته الأحكام النصية من تراتيب خاصة وأن تجعلها في دائرة الخصوصية وأن لا تعمم ما هو غير عام أصلا ومحكوم بظرفه ومناسبته، وأن الجميع كبشر لهم حق الإيمان وعدمه ومن يحاسب ويجازي ويقرر هو من فرض الأحكام، وأن حدود مسؤوليتها في ذلك البيان وإلقاء الحجة وبعدها الإنسان حر فيما يعتقد ويؤمن وهو من يتحمل مسؤولية قراره وأختياره، وأن أي دعوى خلاف ذلك هي من باب العنصرية الجاهلية المقيتة التي حاربها الإسلام وقضي عليها، كما عليها أن تضبط توجه الخطاب الديني في أطار الرحمة والتسامح والدعوة بالحسنى دون أن تفرض نفسها خصما وحكما وجلادا، خارج ما هو محكوم به من خلال سيرة النبي أو بالنصوص الأمرة، وأن تعتمد على عقول راجحة ومدربة وتملك من وضوح الرؤية ما يجعلها داعية حقيقية لدين الله، لا أن تترك لمن هب ودب التحدث والإفتاء والتفقه والأجتهاد بدون ضوابط ولا معيارية مناسبة تحد من فوضى الأفكار التخريبية والتحريفية.