الدرس الثالث عشر من دروس رمضان لهذا العام


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7931 - 2024 / 3 / 29 - 22:12
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

ثم اتموا الصيام الى الليل
الليل والنهار آيات من آيات الله جعلها للناس دليلا زبيانا وتذكرة للمتقين (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا)، هذه الآيات وترتيبها وطريقة عملها من خلال النص تتعلق بعدة قضايا جوهرية مهمة في حياة الناس وقد تدرج الله في عرض هذه الغايات بالترتيب من الأبتغاء الأهم (فضلا من ربكم)، ثم يأت العلم المانع للجهل (ولتعلموا عدد السنين والحساب)، لينتهي كل ذلك بجزم الله أنه وضح وبين ما يستلزمه الإنسان حتى يفهم (وكل شيء فصلناه تفصيلا)، إذا الله هو من يحدد معنى الآية وتفصيلها ودلالاتها ومداها ولا يتركها للناس دون أن يفهموا كل ذلك دون شك أو ريبة (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ).
لقد وردت كلمة الليل في القرآن أربع وعشرون مرة في إثنان وعشرون نصا في معنى واحد متسق في الدلالة والإشارة التي فحواها (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)، هذه المعادلة المنطقية المحكمة تقول:.
• "الليل" آية غير مبصرة.
• "النهار" آية مبصرة.
• الثانية تمحو الأولى لكن الأولى لا تمحو الثانية.
• النتيجة أن وقت الإبصار الطبيعي يكون نهارا أو من ضمن النهار، ولا يتحقق الليل إلا بمقدار مصداق الإمحاء من البصر.
• فكل ما يصدق عليه أنه ممحي البصر هو ليل وما عداه نهار.
موضوع قياسية المعيار المادي في تحديد الإبصار هو دور النور والضياء تحديدا في رسم حدود الآية ومحوها، فقد يكون الوقت نهارا في عموم المنطقة الجغرافية ولكن لغياب الضوء والضياء في بقة أو مكان لأسباب فلكية وجغرافية أيضا يتحول إلى ليل كما يحدث في القطبين الشمالي والجنوبي، بأعتبار أن مقدار ظهور الضياء والضوء محدود فيها نتيجة وضع الأرض الفلكي والعكس صحيح، والصحيح التام كما غي علم الله ومعرفته هو جعل وقتي الغروب والشروق طرفي النهار ومنه وليس من الليل كما سيرد في نص لاحق حيث أشار لذلك بأنهما زلفة لليل أي قريبين منه وليس منه بالذات.
فالأعتبار المادي هو المقدم والمعول عليه في بيان حدود الآية وشمولها في الدلالة، وليس بناء على تقسيمات التحول، أي جعل وقت الغروب من الليل ووقت الشروق من النهار، فالعكس هو الأصح بناء على المعيار المادي، فوقت الغروب فيه إبصار وليس إمحاء كمصداق، والشروق هو بداية الإبصار وهو في الغالب من بقايا وقت الإمحاء هذا إذا تدبرنا قول الله تعالى في سورة هود (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ)، هنا النص يقول كما قلنا في الفقرة السابقة أن موعد صلاتي الطرف وهما المغرب والفجر في طرفي النهار القادم والماضي (أي أوله وآخره) ، وليس من طرفي الليل لأن النص نفى ذلك وقال قريب منه ، فالقريب ليس في دائرة المقرب حتما مهما كانت درجة القربى حتى يكونا معا في تطابق فعلي وعملي، فالله قريب من المحسنين وليس فيهم ولا هم فيه ولا متحدين مكانا.
إذا الليل محدد بشكل علمي ودقيق ولا يمكن الأجتهاد في معناه أو تحديده وفق معيار أخر طالما أن المطلوب حاضر، والمفهوم بين وواضح، أما قول الناس في تعريف الليل كما في التعاريف التالية، فهي أجتهادات بشرية في نص لا يقبل الاجتهاد أصلا، وكما نرى الآتي:.
1. فإن الليل هو عبارة عن: ظلام يـحل كل يومٍ عقب النهار، مبدؤه من غروب الشمس، إلى طلوع الفجر الثاني الصادق. (الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/١٩٣، لسان العرب، ابن منظور ١١/٦٠٧، نظم الدرر، البقاعي ٩/٧٧، التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص٢٩٣.).
2. وعلى هذا فينبغي أن يكون الليل الذي يعتبر نصفه، أوله غروب الشمس، وآخره طلوعها، كما أن النهار المعتبر نصفه أوله طلوع الشمس، وآخره غروبها، لانقسام الزمان ليلا ونهارا. (شيخ الإسلام بن تيمية).
3. والليل هنا ينبغي أن يكون أوله غروب الشمس وآخره طلوعها، كما أن النهار المعتبر نصفه أوله طلوع الشمس وآخره غروبها، لانقسام الزمان إلى ليل ونهار" انتهى. (البهوتي في "كشاف القناع" (1/ 242).
4. الليل الشرعي يبدأ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، هذا الليل الشرعي. (الشيخ صالح الفوزان).
هنا وجه الأعتراض على أقوال ممن ذكروا يستند إلى أنها تتعارض مع محدد قيمي معياري ثابت بالنص، وعملا بأحكام القاعدة الشرعية التي يؤمن بها هؤلاء وغيرهم وهي (لا أجتهاد في مورد النص)، فمورد النص يقول (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ)، وهنا المقصود في الصلاة المذكورة في الطرفين هما صلاتي المغرب والغجر ولا يوجد غيرهما على الطرفين، فيكون موعدهما تحديدا في طرفي النهار أوله وأخره، والدليل أنهما من النهار بالإضافة للتعريف الواضح هي قرينة المقاربة مع الليل، فمعنى زلفا في معجم المعاني كمثال هو {زَلَفَ: (فعل) زلَفَ / زلَفَ إلى يَزلُف ، زَلْفًا، وزَلِيفًا، فهو زالِف ، والمفعول مزلوف زَلَفَ: تَقَدَّمَ، اِقْتَرَبَ، دَنا يَزْلُفُ إلَى مُديرِهِ : يَتَزَلَّفُ إِلَيْهِ، يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ زلَفَ الشيءَ: قرّبهُ وقدَّمَهُ : قرّبناهم من البحر لأجل الإغراق}، ومن عموم المعنى اللغوي يمكن فهم الحدد التدبيري للنص كما يلي (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ وهما المغرب والفجر في أخر النهار وأوله وقريبا من الليل)، هذا التحديد يوافق تحديد مواعيد الصلوات الأخرى المتفق عليها عند عموم المسلمين.
عندنا ثلاث صلوات معلومة وهي صلاة العشاء ووقتها الليل حتما وبتفصيل، وصلاة العصر وهي التي تأت بعد الزوال وفق لقول الله كما جاء في قول عن ابن عباس، قال، في قوله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) قال: دلوكها: زوالها، فالدلوك لغة الميل والأنحراف عن المسار المعتاد (دلوك الشّمس: ميلها للغُروب وهو من الزَّوال إلى الغُروب) والدليل الإشارة هنا إلى قرب غسق الليل أي بداية تكون الليل بين نهاية النهار وبداية الليل، فيكون موعد صلاة العصر من بعد الزوال حتى صلاة المغرب، اما الصلاة الثالثة فهي صلاة الظهر أو صلاة الزوال وهي محددة بأتفاق أهل العلم الديني تقام عند زوال الشمس في أول درجة لها (فالظهر يدخل من زوال الشمس إذا زالت الشمس، ويستمر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، بعد فيء الزوال، كل هذا من الظهر).
ولم يبقى لدينا إلا صلاة العشاء التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في نص واضح وجلي في سورة النور (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ....وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ..... كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، فصلاة العشاء من التسمية ومن ما عرف وقتها المسلمون من خلال رسول الله تبدأ في الليل وتنتهي فيه على مقدار ما تعارف الناس من وقت العشاء، فالصلاة كما جاءت بها النصوص كتب وككتاب موقوت مرتبك بوقت لا يمكن أن ندعل الأوقات فيها معلقة على إرادة لشرية (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً) النساء:103، فقد ذُكر في هذه الآية الكريمة أن الصلاة كانت ولم تزل على المؤمنين كتاباً أي شيئاً مكتوباً عليهم، واجباً حتماً موقوتاً أي له أوقات تجب بدخولها، فلا يمكن مثلا الجمع بينهما بلا ضرورة ولا يمكن أدائها في غير أوقاتها إلا قضاء مؤجلا وليس أداء في أوقاتها.
كل هذه المقدمة الطويلة في بيان الصلاة وأوقاتها كان الهدف منها أن نصل لمعنى الليل وما يرتبط به من عبادة وفرض، وهنا المقصود من البحث هو أداء فرض الصيام كما هو مطلوب، فالنص الذي يقول "وأتموا الصيام إلى الليل" يعني بالتأكيد حتما وجزما ولزاما وشرطا أن يدخل الليل الذي فيه ’ية الإمحاء وتجب فيه من أوله صلاة العشاء، وليس وقت صلاة المغرب التي تقام في طرف النهار ومنه، فيكون الإقامة الشرعية والإتمام بالصيام أن تؤدى صلاة المغرب أولا وننتظر دخول الليل عندما يبدأ فعل الإمحاء وغياب النور والضياء الذي جعل النهار مبصرا، ثم ننهي صيام اليوم حتى وقت الأبتداء التالي الذي تم تحديده بما لا لبس فيه وهو (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر).
من ذلك نستنتج أن الصيام ليس الإمساك عن الأكل والشرب نهارا والسماح بذلك ليلا، بل هو الأمتناع عن كل مفطر من لحظة بيان الخيط الأبيض من الفجر وليس من صلاة الفجر لأنها صلاة نهارية، حتى دخول الليل كمصداق لعدم القدرة على الإبصار الطبيعي فيه، وهنا نعود للذين قالوا أن الليل هو من أول المغرب يتلاعبون في نص الله يريدون أن يحرفوا الكلم عن واضعه ويبدلون قول الله، أما الذين قالوا أن الليل يبدأ من بعد صلاة المغرب فهم عرفوا الحقيقة ولم ينطقوا بها لأسباب عدة، أما من قال أن وقت الليل هو من وقت سقوط وزوال الحمرة المغربية حتى وقت صلاة الفجر، هو الأقرب والأدق في بيان الوقت الأداء، والله أعلم.