الدرس التاسع عشر من دروس رمضان لهذا العام


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7938 - 2024 / 4 / 5 - 10:41
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

قانون البينة
النظرية القرآنية في التكليف والحساب لقوم على قاعدة (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)، والبعض يشبه هذه القاعدة بقاعدة قانونية وقضائية معروفة اليوم وهي قاعدة العلم المسبق (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)، والحقيقة أنا أرى أن القاعدة القانونية والقضائية أقرب لقاعدة شرعية أخرى وهي (ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)، والفرق بين قاعدة البينة عن قاعدة التبليغ والتكليف ترجع في مضمون القاعدة ونتائجها وأسباب تشريعها، هناك فرق بين أن تعلم لمجرد العلم وينتهي جهلك بما لا تعلم ويرتب الأمر عليك ألتزام، وبين أن تعرف لماذا عليك الألتزام وبموجب ماذا ولأجل ماذا، مع أن الأمر في الناحية الشرعية كما في النصوص بتطلب إدراك الحدين عكس القانون والقضاء الذي لا يشترط حتى العلم الكامل بها.
التوجه الديني كما يفهم من النصوص يتطلب ثلاثة مراحل حتى يكون الألتزام قابل للتعبد به، وهي كالآتي:.
• أن يكون هناك بعث سابق لهذا البلاغ، والبلاغ يكون حقا وعبر رسالة (ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).
• أن يكون المبلغ حريص على التبليغ الوافي والكامل الذي لا يترك خلفه أسئلة أو شبهات فد تشوش على البلاغ أو تنقص من جدواه.
• ثالثا أن يكون هناك بينة على صحة البلاغ مقرونة بالحجة البالغة التي تبرهن على البينة وما قدم من بلاغ.
لقد او جز النص القرآني هذا كله في نص صغير يبين حقيقة الإيمان ومسئولية اٌلإلتزام به ليس فقط عن السؤال المتعلق بالعمل المحذور أو الممنوع كما هو في القانون، فالقانون يعتبر أن القاعدة في الأشياء والألتزامات هي الإباحة والأستثناء هو ما منع أو تم تحديده على أنه مخالف للقانون، في القانون الشرعي الإسلامي ليس كذلك فحتى المباح يجب أن يعرف لماذا هو مباح وبالدليل، فالنص يتكلم عن الحالين ويشترك معهما البينة النافية للجهالة (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ) هذا أولا ومقدم على الثاني (وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)، لذا عندما نقرأ النص التالي نفهم لماذا علينا أن نتحرى على البينة (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ).
إذا مدار القانون القرآني أوسع من مؤدى القاعدة القانونية من ناحية الإدراك والخضوع لها، وفيها تتجلى فكرة العدالة الكلية التي سنها الله في طريقة التعامل مع البشر تكليفا وطاعة وحساب، فلا يكفي أن يكون الأمر تسلطيا فوقيا ليكون نافذا بل من المستوجب أيضا أن يكون مفهوم ومعلوم ومقنع للشخص، لذا ربط النص القرآني في موضوع التكليف على الإدراك والوعي وأعتبارهما الميزان الأساسي للحساب (لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)، فالحالات التي ذكرها القرأن هنا تتعلق بفقدان الإدراك والمقدرة عليه كلا أو جزء، وليس على المجنون فقط، فالمريض والأعمى والأعرج وحسب نوع التكليف ودرجة تعلقه بالعيب الخلقي أو العارض التي تتوقف درجة الحرج عليه ومؤداها.
وكالعادة عندما نتحدث عن مفهوم ما لا بد لنا من معرفته لغويا قبل المباشرة في دراسته فكريا وقصديا، فحسب ما ورد بالمعاجم اللغوية والقواميس البينة اسم مؤنث أصله اسم (بَيْن: (اسم) وأيضا مصدر الفعل بان يبيِّن، تَبْيينًا وتِبيانًا، فهو مُبيِّن، والمفعول مُبَيَّن – للمتعدِّي، وجمعه: أبْيِنَاءُ، وبُيَناءُ، وأبْيَانٌ، وتبيَّنَ: (فعل) تبيَّنَ يتبيَّن، تبيُّنًا، فهو متبيِّن، والمفعول مُتبيَّن – للمتعدِّي، تبيَّن الشَّيءُ مُطاوع بيَّنَ: بان، ظهر واتّضح، ثبت بالدليل وتأكَّد، تبيَّن وجهَ السَّداد/ تبيَّن وجهَ الصَّواب عرفه، تَبَيَّنَ في أمره: تَثَبَّت وتَأَنَّى)، من هذه المعاني والأستعمال اللغوي تكون البينة والتبين والبيان والبينات تنصرف إلى المعرفة الواضحة التي تكفي لإزالة أي لبس أو غموض عن الشيء المبان، ومنها مثلا في نفس الأستعمال القصدي ما جاء في النصوص (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).
كما وردت البينة بمعنى الحجة الواضحة المعروفة من غير حاجة للبيان كقوله تعالى في سورة البينة {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)}، فهم لا يؤمنوا حتى تقوم الحجة عليهم، هذه الحجة مقرونة بوجود رسول يتلوا عليهم صحف مطهرة، شرط هذه الصحف أن فيها كتب قائمة ومعتمدة، كي يكون ما في الحجة والدليل ملزما لهم بما أمنوا بما في تلك الصحف المطهرة من كتب يعرفونها، فيكون دليلهم وحجتهم على ما يعلمون وليس على ما لا يعلمونه، غي هذا النص تطبيقا للشروط الثلاثة التي تكلمنا عليها في مقدمة الدرس.
ومن خلال قراءة النص وتحديد مدى أعتبار البينة كافية وحقيقية نجدها تختلف تماما عن مفهوم البينة في القانون والقضاء، والتي تنصرف إلى أنها الوسيلة إلى الدليل المادي بين يدي القضاء، ومما يستنبط من فعل أو قول أو حدث أو وضع ما يستشف منه أن يتطابق مع قاعدة قانونية، وتعريفها وفقا للمشهور (هى وسيله لأثبات الحق او الضرر فى حالة عدم وجود دليل على بيان الحق او الضرر، وغالبا ما تكون البينة عبارة عن شهادة الشهود، وهى وسيله برجع تقديرها من حيث القبول او الرفض الى عقيده القاضي فقط، وهناك اكثر من طريقه من طرق للإثبات بالبينة، فكل ما يثبت الحق يعد بينه سواء كان شهادة الشهود او المراسلات الرسمية فى بعض الحالات وغيرها من الطرق التى لم ترتقى الى مرتبه الدليل)، هذا التعريف الأصطلاحي إذا لا يتطابق مع مفهوم البينة القرآني، كون المفهوم الثاني يجب أن يكون يقينيا ومعلوما وصادقا عند الطرفين، فلا يكفي أن تكون البينة كذلك عند طرف واحد.
النقطة الأخرى التي يتطلبها القرآن في البينة أن يترسخ اليقين بها قبل أن نبني أحكامنا، هذا الأمر أيضا من ضمن ثقافة الإيمان خاصة في نص أمر إرشادي وأخلاقي موجها بالذات للمؤمنين، مما يعطيه بعدا أكبر من كونه نصيحة أو رشد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) الحجرات (6)، لأن ومن خلال المفهوم الذي يعرف بالمعاكسة أن لم يكن يقيننا صامدا وناجحا في بناء الحكم سيكون مجرد جهالة تؤدي إلى خلاف ما على المؤمن أن يتيقن منه، إذا الجهالة عند المطلوب منه التبين يؤدي إلى غير الغاية المأمور فيها، هذا الوضع لا يعرفه القانون ولا القضاء، فالجهل مع وقوع الخطأ ليس عذرا حتى مع عدم البيان والتبيان (القانون لا يحمي المغفلين)، والمغفل هو الذي يحتال عليه كي لا يعرف الحقيقية ولا يتبينها، لسبب منه أو فيه أو خارجا عن إرادته.
القانون القرآني يمنح الجهالة التي هي ضد البيان والتبين مساحة من التسامح إن لم تكن متعمدة أو فيها تعدي واعي على الضرورة في البيان، وقد سماها القرآن بالتوبة التي تحمل معها إمكانية التجاوز وعدم المؤاخذة عن الفعل ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ النساء: 17، هنا القانون الوضعي المتمثل في فهم البينة بين القانون والقضاء قد خالف الأمر الرباني بمجمله، ليس فقط في تقدير البينة وبناءها وشروطها أيضا، بل حتى على ما يخالف البينة والتبيان عندما تكون غير مقصودة وغير متعمدة بمعنى أنها غير مطلوبة لذاتها، لذا عندما بقول النص (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) بمعنى أن المسئولية عن الفعل والقول تستند على الوعي به مع الأختيار والتقدير، سوار أكان في مجال العذاب والهلاك أو في النجاة والفوز.
من هذه الفكرة يكون الإيمان الحقيقي إذا في قانون البينة القرآني لا يؤمن بالتسليم البديهي ولا يقبل أن يكون إيماننا عبر التقليد والمتابعة فقط، فلا بد من بينة طالما أن النص يقول (وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)، هذا ما تؤكده كل النصوص التي ذمت التسليم البديعي أو المتابعة على ما سلف (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا)، ليس فقط على أحتمال أن لا يكون أباءهم لا يعقلون، بل لأن أبائهم كانوا أيضا في متابعة تسليميه لمن سبقهم، فأسلافهم من آباء وأجداد كانون على جهالة مركبة ومتعمدة دون بينة ولا تبيان، وهذا ما يشكل في قانون البينة ندم وخسارة لا ينفع معها مسمى إيمان (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ) الأنعام (158).