الدرس السادس من دروس رمضان لهذا العام


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7922 - 2024 / 3 / 20 - 02:50
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ
من الصور البلاغية التي أستخدمها النص الديني لإيصال فكرة أو تحذير أو نهي هو ضرب الأمثال، وهذا الأمر شائع ومتكرر في النصوص القرآنية للدلالة على عمق التأثير من خلال بيان تجربة، فالمثل عموما هو خلاصة تجربة أو إخبار مؤكد عن شيء (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)، في هذا المثال الحي من النصوص القرآنية نلاحظ أنه المثل عبارة عن سلسلة من الوقائع الحياتية التي يعيشها أو عاشها الإنسان وأنتهت بحكمة، هذه الحكمة هي الرجاء المطلوب تحصيله من ضرب المثل، لذا عندما نقرأ (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ) لا بد أن ننتظر حكمة المثل في سياق النص وما يريد الله إبلاغه.
وعند العودة للفلسفة والمعرفة المقرونة بالحكمة نجد أن القرآن الكريم يمثل أروع صور هذه الفلسفة والغايات التي تسعى لها من المثل والأمثال، فعند أفلاطون مثلا لا يمكن حصول المعرفة ‏بمعزل عن نظرية المثل، كما لا يمكن إدراك المثال دون أن يسلك المرء ‏منهجا جدليا عقليا، والمثال حسب أفلاطون ليس فكرة ذهنية مجردة بل له وجود ‏حقيقي لا يدرك إلاّ بالتعقل، أي رؤية عقلية للمعقولات عن طريق الممارسة ‏العقلية للمنهج الجدلي، قد يظن البعض أن أخلط بين فلسفة أفلاطون المثالية القائمة عبى فكرة (يعني بها عالم ما قبل العالم الحسي أو المادي، يكون فيه الإنسان على علم بجميع العلوم والخفايا، وعند ذهابه إلى العالم الحسي (أي حينما يولد) يكون قد نسي كل هذه العلوم، وما عليه إلا أن يتذكرها في العالم الحسي)، وبين فكرة الأمثال والحكايات التي تتحول من خلال الأستعمال المتكرر إلى مثال أو أنموذج معرفي سلوكي أو حسي موضوعي.
والحقيقة أن عالم المثل الأفلاطوني الذي يرى أن هناك عالم حقيقي توجد فيه كل الاشياء الحقيقية التي تتصف بالكمال، ولها مثيلاتها المشابهة لها أو المستنسخة منها في عالمنا المحسوس، فعندما نأت بمثل من ذاك العالم الحقيقي إنما نفعل وجود عالم الحقيقية ليكون حاضرا في عالم التجربة، وهذا هو الأستخدام المعرفي الحقيقي للمثل في القرآن، فالله عندما يضرب مثلا يسبقه دوما بالإشارة إلى الحس مثلا في النص السابق جاءت كلمة (فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ)، أو ربط المثل بأداة ووسيلة المشابهة والتشابه بين أنموذجين (كَمَثَلِ)، هذا الربط بين الفكرة كونها مثالية من عالم حقيقي لتكون نموذج عملي غي عالم حسي تجريبي هو ترجمة حقيقية لفكرة أفلاطون (القائمة) على نظرية الدال والمدلول.
فالمثل القرآني يستخدم في حالتي الإعذار والإنذار للناس كما يستخدم للتوضيح أو وسيلة لتقريب المعنى (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)، الغاية الفعلية إذا من الأمثال تتعلق بالذكرى والتذكر والمذاكرة التي تعيد العالم العقلي عند الإنسان المهووس بإنشغالات الواقع وهمومه إلى نقطة التوازن التي في جوهر وفلسفة المثل، فالتذكر كأسلوب من أساليب إعادة الوعي والرجوع إلى منطق الحق يتجلى فيما يتركه من أثر إيجابي في حياة الإنسان (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (*) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (*) وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ)، من خلال هذا النص نعود لعنوان الدرس وهو حمل التوراة في خطاب تحذري وتنبيهي لمن يقولون أنهم حملة التوراة ولكنهم لا يؤمنون به، لذا جاء المثل كالآتي (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)، فما يفهم الحمار من الأسفار وما يدرك ما فيها.
جاء هذا النص في سورة الجمعة بعدما بين للمسلمين المؤمنين بدين محمد ورسالته للناس وذكرهم بحقيقة أكيده لكي لا ينسوها، وهي أن من بعث الله لهم محمد وسماهم الأميين في التفاته فريدة لم يدركها الكثير ممن يعنيه الأمر، فقالو أن "الأميين" جاءت للدلالة القصدية الحصرية، أما بمعنى من لا يقرأ ولا يكتب وهي جمع أمي، أو إنها إشارة إلى أهل مكة والتي يعرفها الناس ويعرفها القرآن بأم القرى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)، والحقيقة أن هذا المعنى لا دليل عليه وهو فهم أعتباطي لا سيما بعد أن جاء بذكر أهل التوراة الذين يصفون كل من هو على غير دينهم بالأمي أو الأميين.
وكلمة أميين وجذرها "أم" و"أمم" لا تعني مطلقا الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، هذا يعني أن هذا المفهوم كان وليد المحاولة غير الناجحة لتفسير تعبير الأميين في القرآن على يد المدونين بعد نزول القرأن بعقود، أي أنه معنى حديث جاء في عصر التدوين والأختلاط وما يعرف بعصر المواجهة بين القرأن لسان وبين الواقع لغة في أواسط العصر الأموي، وفوق هذا فقد كان جزء لا بأس به من العرب قبل الإسلام في مكة والمدينة يعرف الكتابة وقصة تعليم أبناء المسلمين من قبل الأسرى مذكورة تأريخيا، وبالتالي لا يمكن أن يوصفوا بأنهم أميين بهذا المعني، ثم إن هناك دلائل قد تتيح القول أن الرسول ذاته كان يقرأ ويكتب أيضا وقصة كتابة صلح الحديبة على يد الإمام علي شاهد تأريخي.
هناك رأي ديني تأريخي حقيقي يقول أن الأميين المقصود بهم في النص القرآني هم العرب عامة، أو هم العرب المشركون في مكة والمدينة على أعتبار زمني ومكاني وحالي لأنهم يمثلون أمة الخطاب والمخاطب بالنص، وبناء على هذا يكون الادعاء بأن مصطلح (أميّ) سيكون معربا وليس عربيا بالأصل، إنما هو حاصل إشارة من أهل الكتاب "يهود ونصارى" لهم، وبهذا يقول الفقيد الجابري (الواقع أن لفظ "أمي" معرب، لا أصل له في العربية) ويضيف (عندما نبهت في فقرة سابقة... وقلت إن هذه الكلمة معربة وان أصلها يرجع إلى لفظ "الأمم" الذي أطلقه اليهود على غيرهم ممن ليس لهم كتاب منزل، وبهذا المعنى الاصطلاحي يجب فهم العبارات التي وردت فيها كلمة "أمي" و"أميين" في الآيات السابقة وفي سياق الخطاب تعني في تلك الآيات "العرب"، وبالتحديد القبائل العربية في مكة والمدينة لوجود اليهود والنصارى فيها وحواليهما.
والدليل الذي يعضد هذا القول ويسنده بقوة موجود أيضا في نصوص القرآن الكريم، فعندما أطلق اليهود والنصارى على الناس الذين لا يدينون بدينهم، لفظ الأمي فقد جاء المعنى من كلمة "غوييم" العبرية "الأمم"، وهو ما نعبر عنه اليوم بالدهماء أو الغوغاء أو العامة في العربية عادة، لأن هؤلاء الناس في نظرهم ونظرتهم كانوا جاهلين ولا يعلمون ما هي الأحكام في كتاب اليهود والنصارى، والنبوات التي جاءت لهم... وهذا واضح في الآية 20 من آل عمران "وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين"، فالذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى، والباقي من الناس هم الأميون)، إذن فالمصطلح القرآني (الأميون) مصطلح عبري في الدلالة القصدية حسب الربط بين الخطاب الموجه لهم وبين ذكر حملة التوراة في مقارنة تذكيريه ملفتة للأنتباه.
في فترة ما قرأت رأيا قد نال الكثير من الإعجاب لدي في حينها وقد أستند في تعريف الأميين والأمي على أنه يخص الإبراهيميون من ذرية إبراهيم حصرا بفرعيها الإسماعيلي والإسحاقي، بأعتبار أن إبراهيم جدهم كان أمه، فكل من تدين بدين إبراهيم أو أنتسب له فهو أمي أي على ملة إبراهيم، فمحمد النبي الأمي لأنه أولى الناس به وفق النص القرآني (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه، وهذا النبي، والذين آمنوا)، نلاحظ من النص أنه أشار إلى ثلاثة مجموعات الأولى الذين أتبعوه فهم أميون بالأصل والفعل، والثاني هذا النبي "محمد"، والمجموعة الثالثة الذين أمنوا من بعده سواء من اليهود والنصارى أو الأحناف، لذا عندما يأت نص (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين)، فإنه يعيد لنا هذا الفهم ويؤكد حقيقة أن الأميين هم ورثة إبراهيم بالعقيدة أو بالنسب، لأن النص ذكر المجموعتين من الثلاث الذين أمنوا مع إبراهيم والذين أمنوا بعده على ذات الملة وإن كان بدين موسى أو عيسى.
أي أننا في هذا المصطلح القرآني أمام ثنائية كتاب ولا كتاب، تذكير وأستذكار دال ومدلول في مقاربة المثال التي تعني بالنهاية في مختصر (يا أيها الأميون العرب "أتباع محمد النبي الأمي" لا تكونوا مثل حملة التوراة عندهم الأسفار ولم يفقهوا فيها غير أنهم حملوها، فلا تكونوا مثلهم تحملون القرآن ولا تعرفون ما فيه)، والنتيجة التي سيكون عليها الحال أن تكونوا مثلهم كالحمار يحمل أسفارا، فخذوا كتابكم بقوة (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، هذا التخريج مرتبط أيضا بما جاء في الكثير من النصوص التي تذكر الأميين، أنظر (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني)، وكي نفهم هذه الآية لا بد لنا في البدء من وضعها في سياقها.
فقد بدأت السورة بالحديث عن اليهود والبقرة التي طلب الله منهم أن يذبحوها ولكنهم حاولوا أن يتلاعبوا بكلام الله لتعجيزه أو لعدم تنفيذه، ثم تحدثت عن هؤلاء اليهود واصفة أمانيهم (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون* وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون* أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون* ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون* فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون)، هذا الحديث موجه للمسلمين تحديدا الذين كانوا في صراع فكري وعقائدي مع اليهود في المدينة، وهو إخبار من الله لهم عما في صدورهم وجحودهم وعدم إيمانهم بدين محمد، ليصل إلى القصد الذي جاء في المثل "كمثل الحمار بحمل أسفارا"، وهو (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون).
وأستكمالا لنص المثل الذي ساقه النص والذي وصفه بأنه (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ) وتعريف هؤلاء الذين (كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ)، نجد أن لها مقابل أيضا في نصوص كثيرة من القرآن وأنه على أوجه كثيرة من الكذب، منها الكذب على الأخرين حسب ما ذكرناه انه جاء في سورة البقرة (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)، فهم يكذبون على المؤمنين بإدعاء أنهم أمنوا وما هم بمؤمنين، ومنه الكذب على أنفسهم وعلى الناس (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله)، وكل الكذب هذا بالأصل هو كذب بما جاء به الله لهم وبالنتيجة هو كذب على الله وإن كان المكذوب عليهم هم أو بشرا مثلهم، فالمثل هنا قد رسم للمسلمين المؤمنين خط مستقيم ملون باللون الأحمر أي تجاوز له سيكون (ليشتروا به ثمنا قليلا) وسيكون المصير مصير من وصفهم المثل بالحمار (فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون).
خلاصة ما يأتي من فهم هذا المثل نجده يتركز في جملة تنبؤيه أخبارية لا بد منها (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، فمن لا يجعل من الأمثال والمثل والتي ساقها الله من عالم الحق والحقيقة لتكون درسا وعبرة له أنه من المؤكد والمحتم سيضل السبيل الأقوم، وسيكون في النهاية من الظالمين سواء لنفسه وهو أشد الظلم أو لغيره، فالظلم بالمعنى المعرفي القرآني (أن تضع لأمور في غير نصابها وأن تعرف وتتعدى هذه المعرفة)، فالظلم عير الخطأ والظن السليم، وهو مختار ومعروف من قبل الظالم أنه تعدي على الواجب والمطلوب والطبيعي ومع ذلك يصر الظالم على خياره وذلك (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).
أنا أفهم من أن هذا النص لم يكن تنبؤيا ولا تحذيريا فقط، بل تعدى ذلك إلى أن الله أراد أن يضع الإنسان أمام حقيقية وجودية مهمة جدا، وهي تتعلق بالدرس السابق في موضوع الإخلاص لله في الدين، وهي أن المعرفة وحدها دون إخلاص لا تقود للإيمان، وأن الإنسان كلما مر عليه الزمن يفقد الكثير من إحساسه بالدين والإيمان بالله، لذلك كان موضوع تكرار العبادات والطقوس وملازمة قراءة القرآن ليست هدفا تعبديا بذاته، بقدر ما كان يحمل قدرة على تذكير الإنسان المؤمن وربطه مع الله، فتكرار الصلاة بقانونها وشرطها في اليوم خمس مرات تقع ضمن هذا الفهم، والصوم شهرا في كل عام والحج والكثير مما فرضه الله الهدف منه أن يكون العقل الإنساني على أحتكاك دائم بالذكر والمذاكرة والتذكر حتى لا ينسى، ومهما فعل عليه أن يتذكر ويضع الحقيقية النهائية له موضع التبصر حتى لا يقع في دائرة ودوامة النسيان (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).