هل الشخصية العراقية علمانية الجذور والتكوين؟.


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7959 - 2024 / 4 / 26 - 00:03
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

لكل فكرة أو عقيدة أو ميل سلوكي يعتمده الإنسان ويؤمن به أو يتخذه سبيلا لا بد من أن تكون لهذا الألتزام والإيمان به جذور صانعة ومغذية وواصله بين الطبيعة العامة للبشرية وبين الطبيعية الخاصة للفرد والمجتمع، في حدود زمان ومكان وقيم وعوامل وتكوينات، حتى الدين ما لم تكون هناك عوامل فطرية وعقل فضولي وشعورات وإحساسات تولد وعيا خاصة به يصبح عبئا على الإنسان وعقله، وبعدها لا يمكن لهذا الدين أن يسود ويطغى على حياة البشر ما لم يقدم لهم توافقا بدويا مع عوامل تكوينهم الفكري والعقلي، تماما كما هي في المغروسات والنباتات في الأرض وحتى حياة البشر العادية، ما لم تكن لها قيمة وهداف وإمكانيات وأسباب لم ولن تجد لها مبرر للتطبيق وعلى الأقل في الجانب العقلي، العلمانية واحدة من الأفكار التي مرت بعقل الإنسان بمفهومها الذي حددناه سابقا وهو الميل للحرية والتعامل بخيارات متعددة.
1. الجذر البيئي
يلزمنا دوما العودة إلى الجذور المؤسسة والتي ساهمت من خلال فاعليتها التكوينية في صياغة العلمانية العراقية الطبيعية، ولا شك أن البيئة هي المعلم الأول الذي يشار به في تكوين طبيعة السلوك البشري، أولا من خلال الفهم والاستيعاب الطبيعي ثم ردة الفعل على قوة البيئة، ومن ثم النتائج المترتبة على رد الفعل وتشكيل طبيعة التكيف والتأقلم اللازم بينهما، ومن هذا ترتسم أشكال وتكوبنات العلاقة المتبادلة بين الواقع البيئي وبين الفرد، البيئة هنا بكل مكوناتها كلها الجغرافية الطقس طبيعة العلاقة التبادلية بين الجغرافية والطقس والتكوين الجيولوجي للأرض، عندما نضع هذه العلاقات في محتوى التأسيس وعلل وأسباب تكوين الشخصية، عندها نعرف لماذا هناك شعوب متمردة غير مستقره متهددة الأتجاهات الفكرية والأجتماعية، وبين شعوب محافظة سكينة تراتيبية وكأن الزمن لا يحركها أو لا يمر بها، الأثر ليس في رسم السلوك الفعلي والرد الفعلي بل يشمل طبيعة النظرة والملابس وممارسة الدين وشكل العلاقة الأقتصادية والمعيشية والسكن وووو غيرها الكثير من المحددات التي نستخدمها في دراسة أي موضوع أو ظاهرة أجتماعية.
تقول الأكاديمية الأجتماعية الدكتورة (ندى موسى عباس) في بحثها الموسوم تأثير البيئة الطبيعية على الشخصية العراقية، بأن التنوع البيئي والجغرافي شكل عامل ضاغط ساهم وعزز من التنوع الديموغرافي منعكسا ذلك على العلاقة بين الفرد ونظيره وبين الفرد والبيئة، فتقول (أن التنوع في البيئة الطبيعية العراقية خلق تنوعاً في بيئاته الثقافية والسيكولوجية وصفاته البدنية وموروثة الحضاري والاجتماعي، لذا لن يكون العراقيين في قالب واحد أو نسق واحد، ولن تجمع ثمراته في سلة واحدة، ولن يروا نوعا واحداً من الإدارة والحكم، فمناخه ما بين شتاء قارص البرودة وصيف قائظ يوحي بالتطرف والتقلب في الميول والأهواء) ، هذه المقولة ليست بعيدة عن الواقع أبدا كما أنها لا تخص الشخصية العراقية تحديدا، بل تكاد تكون قانون أجتماعي عام، المستفاد من هذه الأقتباسة أن التأثير البيئي ليس ممتدا فقط للسوك اليومي وصنعه، ولكن مساهم بشكل عميق في صياغة التوجهات العميقة اللا واعية داخل الشخصية الفردية، بما فيها علاقته بالحرية أو الرغبة في الأستكانة وعدم التمرد مع توفر العلل والأسباب.
فحديثنا عن الجذر البيئي لا يشمل فقط ما يغرف بالبيئة المادية أو المحيط البيئي الذي يتصل بالأرض والمجتمع فقط، البيئة هي سلسلة من المفاهيم تندرج تحتها عناوين كثيرة (البيئة تشتمل على العديد من العوامل التي تؤثر على الشخص، كعائلته ومجتمعه وثقافته وتجاربه الحياتية والتعليم والديانة والخبرات والمناخ والمواقف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والإعلامية الخ، كل ذلك يساهم بشكل أو بأخر وبدرجات متفاوتة في صنع هوية الشخصية للفرد وتحديد شخصيته ومبادئه وأفكاره ومعتقداته وقيمه، ومن هذا المنطلق يمكن القول إن البيئة تلعب دورًا حاسمًا في كيفية تصور الفرد لنفسه وكيفية تفاعله مع العالم من حوله)، لذا يعتبر لورانس برافيا أن البيئة المحيطة بالإنسان تساهم بشكل كبير في تشكيل شخصيته، وهذا يشمل البيئة الاجتماعية والثقافية والتربوية والعائلية وغيرها، فالإنسان يتأثر بالقيم والعادات والتقاليد والمعتقدات والتجارب التي يعيشها في بيئته دون وعي مباشر وحتى باللا وعي يكون قد أكتسب الأثر الفاعل، فالإنسان في مراحل التكوين يقال له "كائن لاقط"، فهو عكس لصورة البيئة هذه ويبقى يتعلم منها وينمي شخصيته على أساسها.
إن الطبيعة العراقية من وجهة بيئية جغرافية مع طبوغرافيا فريدة لها خصوصية مؤثرة في تكوين شخصية الفرد العراقي، مما ولد إنعكاس مؤثر تماما على وعيه العميق تمثل في الجمع حتى بين المتناقضات أو لنقل لا يتحسس من وجود التناقض احيانا في سلوك الشخصية، لأنه أصلا عاشها بشكل طبيعي دون أن يقاومها أو ينجح في تعديلها، ومن إرتدادات هذا الوعي على بناء ظاهراتية الشخصية ولد مفهوم ما يسمى بالفصام السلوكي، هذه الحالة لم ولن تعطي العراقي شعور بالطمأنينة فهي متقلبة غير مستقرة وبالتالي ليست جامدة تتغير بسهولة وبسرعة، وهذا لن يمنحه الهدوء أو المهادنة ولا التفاؤل والوسطية بقدر ما تعكس حالة من الحاجة للتجريب وتعلم كل ما هو غير ثابت أو غير مستقر.
وهذا هو السر وراء ثوراته وعدم مسالمته للحكومات أو حتى السلطة الدينية مما أفرز له موقفا بعيدا عنهما، وهو ما يمكن عده جذرا بيئيا حقيقيا لعلمانيته الكامنة في أعماق اللا وعي، وهو في ذلك مختلف تماما عن شخصية الإيراني التي في مجملها ساكنة رتيبة تخشى التغير أو التمرد، لأنها أصلا محاطة أولا بالجغرافية العصية على الأختراق أو التنقل مما يجعل خياراته محدودة، ثانيا بالرغم من أتساع الأرض الإيرانية إلا أنها وعبر التاريخ لم تمنح الفرد الإيراني الرفاهية الأجتماعية والأقتصادية التي تجعله في مأمن من العوز، العراقي وإن ضاقت به السبل فالعمق الأقتصادي له مفتوح شرقا وغربا وجنوبا ولا يخشى من التنقل أو الأنتقال، هذا يمنحه خيارات حقيقية إذا ما أختار التمرد أو العصيان، لأن في أصله التاريخي والحضاري تكمن الحركة والأنتقال.
إذا التأثير الذي تتلقاه الشخصية من البيئة بكافة مكوناتها ومن حولها موضوعيا يفرض تأثيرات داخلية ذاتية تترسخ مع دوام التأثير والأستجابة، فما تتركه من بصمات أجتماعية وسلوكية تعتبر عامل حاسم في تشكيل هذه الشخصية وتطورها على سبيل المثال، تختلف الشخصيات في المجتمعات (البدوية في علاقاتها وروابطها الأجتماعية فيما بينها وبين البيئات الأخرى) التي تعتمد على الرعي والحياة الصحراوية عن الشخصيات في المجتمعات الحضرية، بالإضافة إلى ذلك تتأثر الشخصية الأجتماعية المرتبطة بنوع وطرق ووسائل الأنتاج العامة بالمعارف والثقافات والقيم التي تعتمدها البيئة المحيطة بها، بما في ذلك عائلتها وأقرانها والمدرسة والمجتمع ووسائل الإعلام والتكنولوجيا.