في دور المال في تشكيل مفهوم السلطة في بعض أوجه الشخصية العراقية.


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7953 - 2024 / 4 / 20 - 16:54
المحور: الفساد الإداري والمالي     

يقول الاستاذ والمفكر صديقي هشام العيسى (المال والسلطة .. هما نقطتا ضعف الفرد العراقي .. وهما اساس خراب واقعه الاجتماعي .. فالفرد العراقي لا يسعى الى المال فحسب بل لكليهما .. وهي نقطة ضعفه بالتسود والاستحواذ .. وهذا ناجم عن ايمانه العميق بقوة المال والسلطة !!!)، المقولة في ذاتها تحمل الكثير من وجهة النظر النفسية التي قد لا تكون مخصصة للفرد العراقي حتما، نحن نعرف أن المال والسلطة هما هدف قد يعتبر مشروع في نظر الكثير من دارسي علم النفس، وحتى في أدبيات الدين والأخلاق السعي لهما بالأصول الطبيعية يعد أمرا مقبولا بحد ذاته، هذا لا يعني أبدا أن العيسى قفز فوق هذه الحقائق بكلام قد يفسر خارج مدى موضوعيته، بل اكاد أقول أنه بهذا المنشور قد مس واحدا من الأمراض الأجتماعية التي تعصف بنا.
الحقيقة التي تفرض نفسها في الواقع العراقي أن الثروة والمال والسلطة كمخرجات طبيعية للتطور والتنمية الفردية، لم تتشكل في الغالب بالطريق الطبيعي، أي أن المال في غالب الأحيان لم يأت عن طريق دورة أقتصادية طبيعية، فهي أما أن تأت عن طريق الأستحواذ القهري أو وضع اليد الغير قانوني خاصة مع غياب القوانين المنظمة والرادعة، هناك عوامل أستنزاف الثروة وخاصة عندما تكون تحولات عميقة في السلطة تغيرية أو أنقلابية نشاهد تبدل غير طبيعي في ميزان توزيع الثروة، فبعد العهد العثماني في أوائل القرن الماضي ظهرت الطبقة العشائرية الإقطاعية المتحالفة مع المستعمر البريطاني، الذي وزع الأرض بأعتبارها مصدر المال الوحيد والثروة في مجتمع متخلف خارج للتو من تحالف أخر عشائري ديني ترعاه قيم القوة والسلكة والمال، فجاء التصرف الأستعماري لهدم البناء القديم وتكوين طبقة أستغلالية جديدة تعاضده وتناصره وتعد لتكون السلطة البديلة والمطيعة للاستعمار البريطاني,
بعد أحداث تموز 1958 وبروز الطبقة اليسارية والاشتراكية وظهور مفهوم إعادة توزيع الثروة، ظهرت بوادر تشكيل طبقات جديدة من المجتمع أبرزها كبار الموظفين وضباط الجيش وبعض القوى البرجوازية الوطنية التي أستثمرت التحول الأشتراكي وتغلغلت إلى مصدر السلطة، هنا حصل التصادم بين القوى السياسية الصاعدة والقوى الأقتصادية الناشئة لتعلن فشل ثورة تموز والأنقلاب عليها من قبل قيادات ناشئة وصاعدة ولها خلفية عشائرية وسياسية مختلفة في التفكير والممارسة، قاد هذا التحول لصعود نموذج أنتهازي للسلطة فرخ معه قيادات مما توصف بحديثة النعمة والتي ترى في المال وسيلتها للسلطة والسلطة طريقها للمال العام، منذ هذا التاريخ وما بعده لم نشهد تحولات لا فكرية ولا أجتماعية تخرج المجتمع العراقي من هذه المعادلة المغلوطة، والتي مع كل الثراء الوطني لم تستثمر وفق قوانين وخطط ناجحة في النهوض بالمجتمع العراقي، والسبب ليس في قصور المنظومة الأقتصادية بحد ذاتها، بل بالمنظومة الفكرية التي تشغل الماكنة الأقتصادية.
حتى مع تجربة التنمية الانفجارية ما بعد عام 1973 وتأميم النفط لم تنجح الخطط الأقتصادية في إعادة عجلة الأقتصاد العراقي للسكة الصحيحة، والسبب يعود أيضا لنظرة السلطة لمفهوم المال ودوره في تعزيز السلطة، فقد أختطت الحكومات المتتالية طريق اشتراكي يؤمن بمركزية التخطيط والتمويل والأنتاج وتركيز السلطة في يد جهة سياسية متفردة في صنع القرار الأقتصادي بناء على نظريات وتجارب لا تنتمي للواقع العراقي، وأيضا غاب عنها أن البناء الأقتصادي يحتاج للحرية والحركة ضمن أطر واسعة ومتنوعة من الحلول، لذا فأول ما تقلص المدد المالي ودخول العراق حرب الثماني سنوات أنهار الأقتصاد العراقي سريعا ولم تنفع معه كل الحلول الترقيعية، لأنه أقتصاد أحادي النظرة وأحادي التوجه.
التجربة الأخيرة والتي بدأت بعد عام 2003 تثبت هي الأخرى مقولة هشام العيسى، حين صارت معادلة المال والسلطة على المحك التنفيذي، فشرعت القوى التي هيمنت على السلطة بنهب المال وجمعه بأي صورة مع القانون وضد القانون لترسيخ مبدأ سلطة الفساد، الفساد الذي نتج عن نهب المال العام والخاص من طبقات مسحوقة لا تفهم ولا تقدر دوره في البناء الأقتصادي، بقدر ما أستخدم المال لتزويق الظهور السياسي السلطوي وسد الجوع التاريخي لرجال العهد الجديد للمال والسلطة، فظهرت هذه الطبقة بمفهوم البرجوازية القذرة، البرجوازية التي لا تفهم من المال إلا بريقه ومحاول الكسب غير المتناهي له بأي وسيلة ولأي غرض.
فكلام الصديق العيسى وإن كان مقتضبا ودقيقا ومكثفا إنما يؤشر لهذه الحقائق من جهتها الأقتصادية والنفسية في رسم ملامح عراقي السلطة وليس الشخصية العراقية بشكل عام، وإن لا ننكر أن هذه الشخصية بدأت تطغي بشكل عام لتعطي ملامح فترة سياسية وأجتماعية وأقتصادية مهمة من تأريخ العراق المعاصر، لذا وكان رأي أنا في تعليق عليه هو أن (المال في طريقة توظيفه يقود للسلطة والسلطة تقود لمزيد من المال، هذه المعادلة الجدلية اذا استخدمت بشكل منطقي تبني سلطة فنية قادرة على البناء، أما اذا كانت غبية وتسعى لذات المال ولذات السلطة فتصبح مثل السرطان الذي يأكل جسد المجتمع وتنهكه، وبالتالي تنتحر في الوقت الذي لا يمكن للمجتمع ان يعيش معها ولم يعد قادرا على ان يلبي طلباتها.)..
إن التصدي لمثل هذه المواضيع أصبح اليوم بمثل بداية وعي ومواجهة خلل بنيوي في مفردات أعتقاد الشخصية العراقية عموما، نحن نتذكر جميعا أن السرقة كانت عار وجريمة مخلة للشرف ويتطير منها الناس، تحولت بفضل الأفكار التي يشيعها سراق مرضى نفسيين بوهم السلطة وكفاية المال، على أنها أستغلال ذكي ومحاولة تبرير السرقة والنهب والخراب الأقتصادي مرة بنظريات وأفكار دينية، ومرة بسطوة السلطة وقوة السلاح والعنف المتساهل معه إن لم نقل مدعوم من أعلى السلطات في البلد، مرة تحت واجهة الأستثمار والحقيقة هي عمليات تبيض للمال المحرم والمال القذر التي يأت من طرق كلها غير قانونية ومجرمة وتقع تحت طائل المسئولية، من تجارة المخدرات والجنس والأغذية والأدوية الفاسدة، إلى تجارة العملة الصعبة وأستغلال غياب الرقابة والتدقيق وعمليات الفساد المالي والإداري، حتى أن غالب الثروة المالية ورأس المال المتحرك في السوق حاليا هو رأسمال فاسد ومشبوه وغير منتج ولا يؤثر في حركة التنمية ولا يساهم في الدخل الوطني ولا يدعم التنمية والبناء الأقتصادي السليم.