الدرس التاسع من دروس رمضان لهذا العام


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7926 - 2024 / 3 / 24 - 00:48
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا
نظرية الصبر ومفهوم المصابرة في القرآن الكريم دائر في أفهام الناس بين من يجعلها عذر للتهاون والتكاسل، وبين من يرى فيها منع فوقي من الله عن الفعل والأخذ بالأسباب الطبيعية وبعدها أنتظارا للغيب لعل أن يحدث بعد ذاك أمرا، السؤال هنا دوما ما يتردد عن الكثير من الناس فحواه، هل الصبر دوما مرتبط بالتأجيل والأنتظار لعلم الأمر بالصبر بعاقبة الأمور؟ أم مرتبط بالعلم الحضوري وأتخاذ الخطوة الواجبة بناء على ذلك وبناء على بينة من الأمر؟، الحقيقة أننا نسمع دوما كلاما عموميا يتحدث عن فضيلة الصبر وأن الله مع الصابرين وعدم الخوض في الأسباب والعلل لأن الله يعلم وأنتم لا تعلمون.
من المأثور الديني وأقول المأثور وليس من الدين أو من فلسفة الصبر القرآنية، أن هذا الأثير يميل دوما لترجيح الرأي الأول، بأعتبار أن الصبر فضيلة وأن الله مدح الصابرين وأن الله وحده هو من بيده الأمر إلى أخر السلسلة الرتيبة من التبريرات والأعذار، دون أن يحاول التقرب من النص وفهمه بما فيه وما عليه، وأن مدح الصابرين في القرآن لم يأت من خلال هذا الفهم تحديدا، بل من خلال أتباعهم الفلسفة الحقيقية للصبر القائمة على العلم والإحاطة بقوانين العمل والتوكل، فلو قرأنا مثلا جزء من هذا التبرير نجد أن الوجهة دوما تعلمنا أن الصبر مرتبط فقط بعلم الله، وأن على الإنسان الذي يجهل المجهول لا بد أن يخضع بلا تردد ولا نقاش لأمر الصبر في الصغيرة والكبيرة.
في كتب البعض شارحا الصبر وفوائده ومنزلة الصابر عند الله، فيقول (ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺼﺒﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﺍﻟﺮﺃﺱ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﺴﺪ ﻓﻼ ﺇﻳﻤﺎﻥ ﻟﻤﻦ ﻻ ﺻﺒﺮ ﻟﻪ، ومقام الصبر من أعظم مقامات الإيمان لأنه يكف عن اجتراح السيئات والوقوع في الشبهات وبحمي العبد عن سلوك قبائح العادات، ويقويه على فعل القرب والطاعات ويثبته عند نزول المدلهمات، قال تعالى (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، وقال أخر (وقد كان رسول الله ص سيد الصابرين في القيام بالفرائض واجتناب النواهي، والصبر على الشدائد وكان من أصبر الناس عند نزول البلاء، وضرب أروع الأمثلة في صنوف الصبر وأحواله فصبر على أذى قومه حين جهر بالدعوة، وصبر على حصارهم له بالشعب وصبر على هجرته وتركه بلده وقومه وماله في سبيل الله، وصبر على مشقة الجهاد وصبر على الزهد والتقليل من ملذات الدنيا، وكان ص في ذلك محتسبا الأجر من الله مفوضا أمره لله لم يشكو حاله لمخلوق ممتثلا قوله تعالى (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).
هذه الصور التي قدمناها من الأثر الفكري عند المسلمين والتي تعطي تصورا عاما عن الصبر وفضله لا أظن أنها تنطبق مع مفهوم الصبر القرآني القائم على حقيقتين، هما أو الحبس وثانيا الفهم، فليس كل حبس صبر وليس كل صبر بدون فهم هو ممدوح، فلا بد من الترابط بين الحبس وبين الفهم كما ورد في الآية المفتاحية لهذا البحث والواردة في سورة الكهف (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)، فقد كانت جوابا على تساؤل ستبق من السائل للمسئول (قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) ، مع أن السائل من أو العزم والذي مدحهم الله بكونهم من الصابرين (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون).
إذا الصبر الذي تتحدث عنه الآية ليس الصبر الذي يتحدث عنه الأثر فيما لو أخذنا النص المتقدم معيارا معرفيا للقياس المعنوي عليه، إذا فلنعود للغة وللنص القرآني ونكتشف ما نريد، فقد ورد في المعنى في معجم المعاني كمت يلي (صَبَرَ (فعل)، صبَرَ/ صبَرَ على/ صبَرَ عن يَصبِر، صَبْرًا، فهو صابِر، والمفعول مَصْبور – للمتعدِّي، صبَر الشَّخصُ رَضِي، تَجَلَّدَ، تَحَمَّلَ، اِحْتَمَلَ، انتظر في هدوء واطمئنان دون شكوى ولم يتعجَّل، وأصبروا على ألهتكم بمعنى استمرّوا على عبادة آلهتكم، صبَر فلانٌ عن فلان، حبس نفسَه ومنعها عنه، ويُصبِّر الفواكِهَ لتحفظها من الفساد أي تحفظها مُعلَّبَة، صبَّر الجُثَّةَ :حنَّطها، وضع بها ما يقيها الفسادَ إلى وقت ما، أما صِبر كــ (اسم) فالجمع أصْبارٌ، والصِّبْرُ من الشيءِ "أعلاهُ" الصِّبْرُ من الشيءِ ناحيتُه، وملأ الكأسَ إلى أَصْبَارِها أي إلى رأْسِهَا، وَأَخَذَ الشيءَ بأَصْبارهِ أي تامًّا بأَجمعِهِ).
من المعنى اللغوي العربي بعيدا عن الأستعمال المأثور نجد أن معنى الصبر يقوم على فهم اللغة كون الأستعمال الأصلي للكلمة هو بمعنى الرضا وتحمل هذا الرضا بشكل خاص، أي أن الصبر قناعة عند الإنسان بقرار قبله وأرتضاه، ولا بد أن يكون بالمنطق أنه فهمه تقريبا إن لم يكن كاملا وعرفه وأحرز خبره أولا، فلا يقوم الرضا بالخضوع الغير مفهوم ولا بالخضوع دون معرفة بسبب القبول، هذا الخضوع الذي يتحدث عنه الأثر الفكري والذي أستعرضناه ليس صبرا بل كرها، فأنت تقبل أمر دون أن تعرف لماذا وكيف ومتى وإلى أي حد سيكون القبول ومداه، ففي كل الحالات التي سقناها في الشرح نرى أن الصبر المذكور قريبا من العبودية الغبية المكره عليها، نقل عن ابن تيمية قوله (الرضا بالمصائب كالفقر والمرض والذل مستحب في أحد قولي العلماء وليس بواجب، وقد قيل إنه واجب والصحيح أن الواجب هو الصبر)، وذلك لأن الرضا حسب ما يرى (أمر زائد على الصبر بحيث يكون المبتلى غير كاره لوقوع المصيبة راض بالقضاء، لا يتألم به يستوي عنده الأمران البلاء والعافية ليقينه بالثواب، وأن الخيرة له ما كتبه الله عليه وأنه في عبادة، وأن الله يصرف العبد على ما يشاء، وأن جميع أحواله مخبتة وتابعة لمراد الله، وهذا من مشاهد الإخلاص قال تعالى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
هذا الفهم السلفي الأعتباطي لا يقترب ولو بالمحاولة من فهم النص وقصده ودلالاته عن الصبر، فلو رجعنا للقرآن الذي هو وحده من يحدد السياق العام للكلمة ومعناه من خلال نمطية الأستخدام والتعريف، نجد أن ورد المفهوم في نحو من تسعين موضعًا، وأضاف إليه النص أكثر الخيرات والدرجات كنتائج أو نهايات حتمية، وجعلها ثمرة له فقال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)، وورد في نص أخر (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ) وذكر القرآن أيضا النتائج البعيدة المتحصلة من الصبر والتصبر بأنها جزاء طيب (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وقال (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ).
ومادة (صبر) وردت في القرآن في ثلاثة ومائة موضع (103) جاءت في واحد وأربعين موضعاً بصيغة الاسم، من ذلك قوله عز وجل {واستعينوا بالصبر والصلاة} (البقرة:45)، وجاءت في اثنين وستين موضعاً بصيغة الفعل، من ذلك قوله {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} آل عمران:200، وأكثر ما جاءت مادة (صبر) بصيغة الفعل الماضي المفرد، حيث تكررت تسع عشرة مرة، منها قوله {واصبر على ما أصابك} لقمان:17 وتكررت بصيغة جمع المذكر السالم ثماني عشرة مرة، منها قوله {إن الله مع الصابرين} البقرة:53، وتكررت بصيغة المبالغة أربع مرات، منها قوله {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} خُتمت بها أربع آيات هي (إبراهيم:5) (لقمان:31) (سبأ:19) (الشورى:33)، من طل هذه المعاني نجد أن الصبر فعل مسؤول ومرتبط بالإرادة وهو فعل إيجابي وليس أستجابة لأمر مكره عليه، فهو مثلا يرتبط بالصلاة كوسيله من وسائل التحمل الواعي لما في قضية التصبر.
كما أن المخاطب به دوما هم المؤمنون الصابرون (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) ﴿١٥٣ البقرة﴾، فالإنسان الجاهل والغير مؤمن غير معني بالصبر والتصبر (أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ۚ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) ﴿١٧٥ البقرة﴾، هذا يؤكد على أن صفة المؤمن مع الصبر تدل على تفهم المؤمن للقضية وإدراك أبعادها على أنها طاعة أحتمالية وليس طاعة إكراه وقبول لا واعي، فالمؤمن كما يقول أهل الدين قلبه مليء بالنور ويرى الأمور في البصر وفي البصيرة التي تعني النفاذ غي المعنى الحقيقي والجوهر دون الصورة الشكلية، والمؤمن عاقل يبحث عن اليقين ولا يبحث عن التسليم المجرد من دليل أو برهان لذا فهم الممدوح عند الله بالصبر (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) ﴿٤٥ البقرة﴾، فالخاشع لله ليس هو الخائف السلبي الجاهل بما في الأمر من معنى، بقدر ما هو العارف الحقيقي بالأمر ومتبعه بكل جوارحه بما فيه عقله.
ومن خلال النصوص أستهدف منها أن يجعل من الصبر واحدة من وسائل التهذيب وتقوية الشخصية المؤمنة بالله، وليس تجريدها من قوتها وإضعافها على أن هذا الإضعاف والتذلل يرضي الله، أبدا القرآن عندما يأمر بأمر أو ينبه لوسيلة الغاية منه أن يربي الإنسان ويمنحه القدرة على أن يكون عنصرا إيجابيا في محيطه (أُولَـٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) � القصص﴾، فالصبر هنا وسيلة يناء للشخصية الفردية وعلى هذا المنوال جاءت تقريبا كل النصوص تدور في ذات الهدف والغاية (فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ۖ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ) � طه﴾، فالرضا الذاتي عن الحال لا يتلاءم مع التسليم الإلجائي الذي يزعمه البعض ممن كتب عن الصبر ومعناه وغايته (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) � النحل﴾، هذا النفي في هذه الصورة رد حاسم على من يزعم أن الصبر هو حبس النفس وقهرها لأجل رضا الله لأنه هنا في المعنى متعلق بالشرح والفرج.
فعندما نقرا النص التالي (قَالَ هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) � الكهف﴾ والذي يشرح عملية الفشل في الصبر والتصبر، فقد علل النص السابق ذلك لأن من فشل في فهم الصبر وممارسته لم يحط به خبرا كما جاء في النص (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)، فلو كان الذي فشل قد عرف الأمر أو أحاط بصورة من القضية ما كان فشل حتى مع تأكيده الجازم أنه سيصبر (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)، إذا العلم والفهم المقترن بالصبر هو المطلوب من الصابر أن يلازمهما حتى يكون من الفائزين، لذا نجح الصابرون عندما أخبرهم الله بالحقيقة والموضوع لأنهم أقدموا على شيء لهم به علم وخبر (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ﴿١٥٥ البقرة﴾.
هناك نقطة مهمة في تعقل المؤمن عندما يطيع الله، وهذه النقطة تتمثل في حصوله على البينة من أي أمر أو نهي، فعندما يأمر الله بالصبر لا يعني مطلقا أن يتجاوز موضوع البينة وينصرف لتنفيذ الأمر دون إدراك، لأنه أصلا ضمن وصف كامل ومطلق سماه الله دين القيمة، أو دين القيام به على اليقين والفهم والتعقل (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة)، والبينة في الأصل هي الحجة و الدليل(وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) ﴿٤٢ الأنفال﴾ وعن بينة يقصد منها وبها عن آية فاصلة بين الحق والباطل تقوم عليه بها الحجة وتلزمه العقوبة (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ....فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ) ﴿١٧ هود﴾ ،البيّنة هنا اليقين القاطع والبرهان الواضح، فمن ليس لديه بينه ويفتقد على الدليل الواضح وإن صبر بمفهوم عامة الناس فقد خضع بجهل وأطاع بلا علم وربما يكون قد أضر نفسه دون أن يدرك ذلك.