الدين والطبيعة وفهم العلاقة بين الإحساس والوجود.


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7945 - 2024 / 4 / 12 - 15:28
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

يقول الفيلسوف الطبيعي ماكس مولر أن إحساس الإنسان الأول بالطبيعة وإنفعاله بها وتفاعلا معها، لذا فقد ألبسها لباسه وأضاف له نمط حياته، فجعلها كائنات حيه مثله ووصفها بأنها تملك وجودا قائما بذاتها، فقال النهر يجري والنار تستعر في مقاربة مجازية لفكرته عنها، فالنهر حقيقة لا يجري ولكن الجغرافيا هي التي جعلته يتحرك، من هنا أفتكر علاقته بالوجود خاصة للكائنات البعيدة التي لا يصل لها، فمنحها التعظيم ثم التقديس ثم العبادة، ولأنها بأعتقاده أنها حية وتمارس وجودها من بعيد فتعلق بها وحاول أن يخاطبها ويتقرب منها ومع الزمن تحول الظن إلى حقيقة وصارت جزء من عقيدة الإنسان ان الرب أو الإله هو أبعد الكائنات الحية عنه.
العامل النفسي في بناء النظرية الطبيعية عند مولر يلعب دورا في تشخيص النظرية كلها، بأعتبار أن الحس والإحساس بالما حول هو من حرك العقل للبحث عن معنى عن قيمة للمعنى عن وجود حقيقي للمعنى، فلا قيمة ولا أصر بالا محسوس المباشر والذي من خلال المباشرة التلقائية تطورت وتعمقت إحساساتنا لأبعد من الحس، للشعور والتأمل والتفكر والبحث ما بين تراكم المعاني عن أشياء أخرى قد تكون تحمل أكثر من معنى وأكثر من وجود، عندها تزعم العقل مهمة الحس وصار التفكير يأخذ مجرة ممنهج أو ربما منضبط بقواعد ما.
بالرغم من كم الأنتقادات التي وجهت للنظرية أما بسبب من دوافع دينية أو يكون النقد مبنيا على عدم فهم لجوهرها المتسق أساسا مع قوانين الوجود، من حقي أن أقول ما طرحه مولر بالأصل فكرة دينية قديمة وحتى لها جذور ايمانية بمعتقداتنا الغيبية، فعندما اكتشف الانسان الأول هذا العالم المدهش الواسع بلا حدود اصابته الحيرة فعلا، كيف لهذا الوجود المدهش ان يكون بدون سبب؟ أو غاية أو فاعل له، انها لغة الفطرة حين تتحدث عن نفسها، فأمن بالنتيجة انه من صمم هذا الوجود أكيد رب ذكي، ولأنه لم يعرف حدود ماهيات الرب وشكله ووجوده الحقيقي عبد ما بعد الوجود كرمز للمجهولية، هذا منطق عقلي حقيقي يؤيده القران في كثير من النصوص لعل ابرزها قصة سيدنا ابراهيم
ففي نظريته هذه يتكلم عن واقع تأملي للإنسان الاول عندما كان وحيدا وبدأ يكتشف العالم ويسجل اختراعاته، فمثلا هو اخترع صنع النار لكنه لم يخترع النار لأنها موجودة أصلا وحاضره في حياته، لكنه أخترع الطريقة التي يسيطر بها على ما يريد من النار لا عن أسباب النار ولا سؤال هل هي مخلوقة مثله أم نتاج طبيعي، ففي نظرية الدين عند مولر الانسان البدائي كان لا يتكلم عن لاهوتيات ما بعد المعرفة بل يكتشف ظاهر ويسجل ملاحظات قادته بالنهاية أن يكون أمام حقائق عديدة، حقائق مهدت لمفهوم الدين الذي نضج من خلال الربط بين الأسباب والكليات، ولتتصور نفسك وعندك الذاكرة خام لا شيء فيها ولكنها متحفزة للجمع والتصفيف والخزن، ولا تعرف قبلها لا دين ولا تجربة وفجأة تكتشف هذا الكون العظيم، كيف سيكون تصرفك وما هي فكرتك الأولى عنه، بالتأكيد لا خيار لك أن تختار من عدة حلول إلا ما يمكن أن بقنع عقلك بما فيه من بساطة لتتقبل الأمر.
إذا هو يتكلم عن لحظة زمنية اولى قبل ان يعرف الانسان اصلا معنى وجوده، عندما أنتبه لأول مرة لهذا الكون فأخذته الدهشة والحيرة وأثارت في عقله عشرات الأسئلة، وعندما عجز عن الإجابة طبعا لم يكن غوغل موجود حتى يسأله، ذهب لاختراع مفهوم الرب في ذهنه ونسب له حياة كاملة وعظيمة وبلا حدود تتناسب مع عظمة ما أكتشف، لأنه أساسا لم يكن لديه مسمى ولا ماهية عنه ولا حتى تصور بسيط سوى ما في الفطرة التكوينية عنده، هذا هو المقصود بالاختراع الأول، وليس بمعنى أصطناع رب ليكون إلها للوجود.
من الأنتقادات الموجهة للنظرية والتي يزعم مطلقوها أنها حجج بالغة للرد عليه، قولهم إذا فرضنا صحة القول بأن الروعة أو الدهشة هما علة عبادة الإنسان الأول للقوى العليا في الطبيعة، فكيف نفهم عبادته لقوى تافهة كالأحجار والحشرات ونحوهما؟، أولا مولر لم يقل أن الدهشة والروعة هي علة عبادة الإنسان، بقدر ما وضع الإنسان أمام صورة هائلة أثارت في عقله التساؤل وأجاب الحس على بعض الأسئلة، فصار بين شكوك وظنون يرسم خطوات الفهم، وربط بين الغياب والندرة والدهشة والروعة وبين أنها كائنات حيه لا يمكنه السيطرة عليها فوضع لها تقيما أخر، تقيم عكس المحسوسات المادية التي فهم قوانينها، وحتى اليوم نجد الإنسان مع هذا الثراء المعرفي ينبهر بما لا يعرف ويقف متسائلا وباحثا عن المعنى وعن الوجود.
أيضا من الأنتقادات الواهية لها هو ما يقولون عنه (كيف نفسر الفصل التام لدى هذا الإنسان بين الأمور المقدسة والأمور العادية طالما أن دواعي الرهبة والدهشة مبثوثة في أرجاء الطبيعة؟)، الحقيقة هذا سؤال متفرع من السؤال الأول وجوابه في جوابه، فكل طبيعي متكرر لا يلفت الأنتباه إلا مرة واحدة فهو خارج دائرة التقديس لأنه معتاد والمعتاد يكون ضمن ما يعرف بالمألوف الغير مثير للدهشة، وتبقى وحدها الأشياء الصعبة على الفهم هي من تملك القدرة على إصارة دهشة الإنسان وإن تكررت وتوزعت في الوجود.
وأخيرا البعض يوجه تساؤلات أنتقادية مفادها (كيف نفهم استمرار الأديان ورسوخها عبر التاريخ وصولاً إلى اليوم على الرغم من أن معرفة الإنسان بالطبيعة قد تعمقت، ويوماً بعد يوم يملك قدراً من القدرة على توجيهها والتحكم بها؟)، الحقيقة هذا السؤال مبني على جملة من المغالطات، أولها الأديان اليوم خرجت من ثوبها المولري الطبيعي وتحولت إلى منظومة ضخمة من المعارف والدراسات والأسس والمبادئ بعد أن عرف الإنسان طريق السماء، ولم يعد اليوم هناك من يؤمن بالرب على طريقة إنسان مولر إلا بقايا ستنقرض بفعل التواصل المعرفي وتطور عموم المعرفة الدينية، هذه المعرفة وإن كانت علمية في الغالب ولكنها ولدت أصلا من رحم الدين والتجربة الإنسانية، فهو عرف العلم لاحقا وما قاده إلا إيمانه الذي ترجم على مراحل وتطور بشكل تراكمي، فليس من المنطق أن نترك رحم الدين الذي أنجب العلم لأننا عرفنا بعض الحقائق وما زال الوجود ممتلئ بالأسرار التي لا نعرف منها سوا عناوين وأوهام وظنون.