الدرس الرابع من دروس رمضان لهذا العام


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7919 - 2024 / 3 / 17 - 02:48
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

السماء والسموات في القرآن
مما ورد في سورة الصافات والذي لم يحظى بأهتمام جاد ودراسة تفصيلية عند المختصين قوله (إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ)، فالمعروف أن لفظ السماء ورد في القرآن الكريم بمواضع عدة، مرة يشير فيها بالجملة لواقع فلكي واحد وهو غير الأرض ، ومرات يشير فيها لتعدد هذه السماء تعدد عام غير محدد ومرات محصورا بالعدد سبعة، فقد وردت كلمة السماء 120 مرة في القرآن الكريم، بينما وردت كلمة السموات 190 مرة، منها نحو ستة وعشرين موضعًا يشير إلى أن الماء منزَّل من السماء، وأن الله وحده هو الذي ينزل من السماء ماءً، أو يرسلها على الناس مدرارًا، وذلك الماء ينزله الله تعالى من السماء، أي من السحاب بقدر، فيسكنه في الأرض برحمته، بعد أن تقوم الرياح بأمر الله بدورها في إنزاله إلى الأرض، فيحيي الله بالماء الأرضَ بعد موتها، ويخرج به أزواج النبات والثمرات، فتصبح الأرض مخضرة، في آيات عديدة ﴿ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾ البقرة 22، و﴿ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ ﴾ البقرة 164، و﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾ الأنعام 99، و﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ﴾ المؤمنون 18، و ﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا﴾ الأنعام 6.إلخ.
ومن الإشارات القرآنية للسماء ما ورد عنها أنها كما كانت مصدر خير وحياة للأرض والكائنات الحية والنبات، أيضا فهي مصدر العذاب والرجز على من يعص ويتجبر ويكفر بالله وآياته، فمنها ما يعرف بالصيب، والرجز، والآيات القاهرات، والصيب هو المطر من السماء في حال ظلمات، والرجز العذاب والغضب، والكِسف القِطَع من السماء، والحسبان مرامي من السماء، واحدها حُسبانة، والحسبانة السحابة، والحسبانة الصاعقة، وصدق الله تعالى حيث قال ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ البقرة 19، ومثلما جعل منها مصدر الخير والحياة والرزق جعلها مصدر للموت والعذاب أيضا، لكن الملفت هنا أنه أيضا جعل منها محل الأستواء والأستقرار من ظاهر القراءة، فقد قرأن في النصوص كيف أستوى إليها الرب العزة، ويقول المفسرون أن الاستواء هنا بمعنى القصد والإقبال لأنه عُدي بـ "إلى" "فسواهنَّ" أي جعل خلق السماء سبعًا، والسماء جهة القصد لتحقيق الأماني، فأنزل الله قوله في حق الرسول ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ البقرة 144.
ومن معاني السماء وتعدادا لها ذكر القرآن محدد لها تفريقا عن غيرها من السموات ووضع تعريفا لها وهي السماء الدنيا التي تُزينها الكواكب والنجوم والأقمار ﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ الصافات 6، ومن خلال التعريف الحصري هذا يمكننا القول وبناء على ذلك أن السموات الست المتبقية ليس فيها كواكب مثل الكواكب التي في سمائنا الدنيا ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ الطلاق 12، والتي نراها ونتعرف وعرفنا أكثر ما فيها من أجرام سماوية، أو يمكن لنا أن نجدد بشكل أقل من ذلك وحسب مفهوم النص أن السماوات الست الباقية يمكن أن تكون فيها كواكب ولكن لا تصلنا رؤيتها وبالتالي فلا تزين سماءنا، وحينما يشير لها النص لقرآني بالعموم فهو يقصد بها السماء الجِرم المستقل بذاته، فهي بناء مسواة لها أبواب، وهي سقف محفوظ، وهي ممسوكة، وفيها كسف أي "قطع"، أصلها دخان ذات طرق، بُنيت بأيد وموسعة، مرفوعة، ذات الرجع.
فالسماء عندما تذكر في القرأن بهذه الصيغة التي تبدو فيها أن اشارة لشيء منفرد واحد، لا تعني أن الله يقصد فيها أن حقيقة السماء واحدة لا ثانية لها، بل يؤكد أن السماء وإن ذكرها مرات متعدد وسبع سموات فهي بالحقيقة النهائية واحدة كجنس نوعي، تماما مثلما يقول الناس ويقصد بهم بني انسان أو انسان كجنس، والناظر في آيات السماء كما وردت في القرآن الكريم، عليه أن يميز بين ما هو خاص بسماء جو الأرض من سحاب وما إليه من زرقة الطبقات العليا من هوائه، وهو عادة أول ما يفهم من لفظ السماء ومن وصفها، وبين ما هو عام يشمل الكون بما فيه من نجوم ومجرات لا متناهية ولا يمكن حتى إدراك شعتها، وما يدرك منها بالطبع هو ما تراه العين المجردة وتسمى السماء الدنيا، أما ما يدرك بالعين المسلحة أو من خلال مركبات الفضاء مما لا يمكن ملاحظته للكل، فهو السماء الثانية، وقد يتهيأ للإنسان أن يصل حدود السماء الثانية ويخرج من السماء الدنيا فيرى السماء الثالثة، والتي قد لا نتصور حتى شكلها ووسعها، فالسماوات السبع هي مجموعة من الأقطار والأفلاك المنتظمة من جهة رؤيتها في المركز الأفتراضي عندنا وهو الرائي أو المشاهد (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان).
بعد ان عرفنا بشكل تقريبي مفاهيم القرأن عن السماء والسموات والدلالة الخاصة بكل واحد من المعنيين، نعود لنسأل لماذا لك يجعل القرأن المفهوم واحد بدلا م تعدد المفاهيم لشيء واحد، فالسماء هي مطلق ما يحيط بالأرض أو الأرضين القريب المدرك المحسوس والبعيد الذي حتى لا ندركه، وسماها السموات وسماها السبع وعبر عنها بالأقطار للدلالة على التداخل أو التوسع القطري من السماء الدنيا للسماء القصوى، في رأي المتواضع ذلك يعود لسببن:.
الأول _ للتفريق بين ما هو قريب وفيه مشاهدات الإنسان وإحساسه بها من خلال ما يرى من نجوم وكواكب وأجرام، وجعلها آية له كجزء من وسيلة الإيضاح الربانية لتقريب المفاهيم، وهذا يسهل على الإنسان التعامل مع ما يحس ويدرك من خلال المحسوس والمفهوم والمباشر، وبأن الله وضع هذا النظام وأداره بموجب معادلات وقوانين وجودية ليكون النظام الإلهي نظام محكم ومترابط وموحد.
الثاني _ أراد من خلال توسيع مفهوم السماء وجعلها طبقات وأقطار وسواهن سبع، ليثبت للإنسان أن وجوده في الوجود ما هو إلا جزء ضئيل مما خلق الله، وأن عليه أن يعرف أن قدرة الله ليس لها حدود ولا مدى ولا يمكن حتى تصورها بالظن والتصور الذهني، فيعلم الإنسان حجمه الوجودي وأن لا يغتر بنفسه أولا، وأن يحاول أن لا يحصر أفقه العلمي والمعرفي في حدود ما يرى، هذه التعمية أو الإيغال في وصغ العظمة جزء مهم من أستراتيجية الله جعل الإنسان مستعدا لأن يخرج بعقله عن نمطية الواقع الذي يعيشه كما عبر عنها في سورة فصلت (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) 53.
الناظر في آيات السماء، كما وردت في القرآن الكريم، عليه أن يميز بين ما هو خاص بسماء جو الأرض أي السماء الدنيا بالتعبير القرآني وما فيها من سحاب وما إليه من زرقة الطبقات العليا من هوائه، وهو عادة أول ما يفهم من لفظ السماء ومن وصفها، وبين ما هو عام يشمل الكون بما فيه من نجوم وكواكب ومجرات وهي تبدو عندئذ كما بدت لملاحي الفضاء سوداء حالكة، تلمع فيها الشمس والنجوم كأجسام مضيئة من غير أن يكون لأضوائها أثر في تخفيف ذلك الظلام، فلولا ما يحمله الهواء في جو الأرض من جسيمات دقيقة لبدت السماء للناس حالكة السواد في وضح النهار حين تكون الشمس ساطعة، ولكانت الظلال على سطحها سوداء مثل ظلال القمر وسمائه، إذ هو قد فقد هواءه "غلافه الجوي" منذ زمن بعيد، فشتان بين نهار الأرض ونهار القمر، وشتان بين سماء الأرض تضيء جوها الشمس فلا تلقى العين منه إلا نورا، وبين السماء الكونية إذا تجاوزنا جو الأرض نهارا، فلا تقع العين منها إلا على ليل مظلم تبدو الشمس فيه قرصاً مضيئاً لامعاً.
من هذه الحقيقة التي سطرها التفريق بين السماء والسموات يمكننا فهن الكثير من القضايا التي أثارها القرأن وفهمها الناس بشكل مبسط وساذج، وخاصة عندما ركزت النصوص على دور الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار، وكثيرا من الظواهر الفلكية التي أثارها النص القرآني دون أن ندرك المعاني البعيدة منها، ومثال ذلك قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ﴿٥ يونس﴾، هنا أشار الله إلى ظاهرة الضياء والنور والتي تتركز فقط في السماء الدنيا لسبب خاص طبيعيا، ولكن من الناحية الوظيفية الجعلية من الله كانت سببا (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ)، هذا الأمر مرتبط بالإنسان وهو المخاطب بالنص القرآني، بينما لا تأثير لأي ضياء أو نور من خارج السماء الدنيا عليه، أولا لعدم إدراكه لها وثانيا ولعدم جعلها من الله أن تكون كذلك، مع عدم جزمنا من أن الله قد يكون قد خلق أوضاعا شبيهة أو مختلفة عن وضع الإنسان في سماء أخرى أو رتب أمرا ما.
فقد كان البشر وقبل الأكتشافات العلمية الفلكية بعد غزو الفضاء والخروج من فلك الأرض، ليكتشفوا أن سماء الأرض أو السماء الدنيا بعظمتها لا تساوي شيئا مهما مع أتساع الكون وامدده وتوسعه المضطرد، فقد كان فيما مضى يظنون أن نور النهار ممتدا إلى أقصى الكون الذي يعرفونه، وهي السماء الزرقاء التي تضيئها الشمس نهارا وينيرها القمر والكواكب ليلا، فكيف لهم أن يتصوروا سماء حالكة والشمس فيها ساطعة لا حجاب دونها؟ قال تعالى "أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها* رفع سمكها فسواها* وأغطش ليلها وأخرج ضحاها" النازعات 27 : 29 .
الملفت للنظر أيضا في موضوع السماوات طريقة رسم الكلمة في القرآن، ومعلوم أن كل لفظ مرسوم بشكل ما يدل على محدد خاص به دون أن يتعدى لا في المعنى ولا في الدلالة لغيره، وهذا ما هو ثابت على الأقل عند فقهاء ومختصي القراءات القرآنية والكتابة في النصوص، لمرات التي رسمت فيها الكلمة بغير حرف الألف (ٱلسَّمَٰوَٰتِ، سَّمَٰوَٰتِ) يجد أنها تعني الكون كله بما فيه من فضاء خارجي يحتوي على النجوم والكواكب في مجراتها العديدة، والآية الواردة من سورة البقرة والتي تذكر أن الله تعالى خلق للإنسان جميع مقدراته في الأرض (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (29) ، بظاهر الحال يفهم منها أن الأرض خلقت قبل السماء ل يعني أن الفضاء الكوني تمت (تسويته) سبع سموت بعد أن قدر الله تعالى ما في الأرض للإنسان، ولكنه كان قد خلق الكون قبل خلق الأرض ولكن دون أن يسويه سبع سموت، ولذلك نجد الآيات تذكر خلق السموت دائما قبل خلق الأرض في مثل قوله (بديع السموت والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون)، وكذلك في قوله (إن فى خلق السموت والأرض واختلف اليل والنهار لآيات لأولي الألباب)، وفي قوله (وهو الذي خلق السموت والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق) ، أما المرة الوحيدة التي وردت فيها (سموات) بإثبات حرف الألف فقد جاءت في آية 12 من سورة فصلت كما يلي (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).
في النص 12 من سورة فصلت ندرك الفرق تماما بين السماء بمعناها المحدود والذي يشترك في المطلق (ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ) بمعناها قبل التسوية، فهنا اللفظ يشمل كل السماء الدنيا وغيرها، أي يمكن أن نقول أنها السماء الخام قبل التقسيم والتسوية، والمقيد عندما تخصص اللفظ من خلال المعنى بالدلالة بسماء الأرض التي نعيش فيها (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم)، وبين معنى السماوات التي هي منظومة مركبة متعددة لا حدود معلومة لها ولا أفق يمكن حصرها فيه بالإشارة إلى تعدد نظم العمل في كل سماء وأختلافها في أمرها (وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا)، أما الإشارة المهمة الأخرى فهي في قوله تحديد للسماء الدنيا ورسم حدودها بما يمكن رؤيتها بمفردة الناظرين (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ۚ) و (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) الحجر 16.
هذا الفن اللغوي والدلالي والمعرفي والعلمي الذي جاء من خلال كلمتين فقط وأستعمالها، يبن للقارئ والدارس العلمي أن الكلمة برسمها يمكن أن تؤدي إلى أختلاف كبير في الأستخدام الدلالي أو المعنى القصدي، خاصة وأن القرآن ومن خلال تدبرنا المستمر لآياته لا يمكن أن نجد الخلط الفظيع الذي يقع فيه الكثير ممن جعل نفسه وصيا على مفاهيم القرآن والمعرفة التامة بما فيه، فالدقة والحرص على الموازنة بيم مفاهيم اللفة وأستعمالاتها العادية وبين لسان القرآن ومنهجه اللغوي يكشف لنا العمق والقوة المعرفية التي غابت عن عقول الكثير من الأجيال في سبر الدلالات والمقاصد فيها.