الدرس الثاني عشر من دروس رمضان لهذا العام


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7930 - 2024 / 3 / 28 - 19:41
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون
لو حرف أمتناع لأمتناع وسبقها بحرف الواو يجعل منها أداة إمكان لإمكان، فلو شاء ربك أن يكون الأمتناع الظاهري لغيره ممكنا له لفعل، ولكن الحكمة تقتضي أن يبقى الممتنع كما هو حتى يشاء الله مثالا (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) الأنعام 35، ومن يقول غير ذلك يصفه النص بأنه من الجاهلين لأن ما بيد الله ليس بيد غيره ولا متعاجزا ولا معجزا عنه (وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ۖ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ۖ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ) ٥٣ يونس، هنا أرتباط أداة التمكين (ولو) مع لفظ ودلالة الإشاءة يخرج الممتنع من دائرة الأمتناع ليدخل في دائرة الممكن، وبذلك فما يأت بعدها من كلام هو من سنخ القدرة والقوة والجعل الطبيعي.
لكن ما الإشاءة التي علق عليها النص أداة التمكين؟ هل هي إشاءة الفعل أم إشاءة التقدير، بمعنى أن الإشاءة التي جاءت في النص تعني أن الله ممكن له وعليه أن يفعلها لو أراد ذلك وقرر، لكنه لا يفعلها الآن ولا سابقا ولا حتى بالأحتمال أن يفعلها بالمستقبل لأنها خارج قواعده وقوانينه مع أنها ممكنة، فالأشاءة هنا قدرية، أما المعنى الثاني الذي يدور السؤال حوله أن المنع هنا تقديري بحسب الظروف وبالتالي من المحتمل جدا أن يفعلها بالرغم من أنها لا تتعارض مع قدرته بل تؤكد مقدرته عليها بشرط أن يكون ذلك مرهونا بالحاجة لها، من خلال قراءة النص وتفكيكه وإعادة بناء الهرم الفهمي أظن وأجزم أن كل التساؤلين وارد وممكن ولا تعارض بينهما، مع أن الله يقول أن الأشياء بأسبابها وأسبابها مرتبطة ومرهونة باليقين في أنها مضت كسنة في الأولين وكلمة ثابتة لا تتغير ولا تتحول ولكنها عند الله بميزان.
هناك الكثير من النصوص التي وردت في القرآن الكريم ووفق هذا المعنى الإمكاني، سواء أكان الجعل الرباني قدري أو تقديري بما لا ينفي أن الله قد يفعلها، مع أنها جاءت على سبيل الأفتراض والإعجاز منها هذا النص (قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا) 95 الإسراء، هنا جاءت أداة الأمتناع لو لتعمل عملها الطبيعي مربوطا بأمر أخر وهو لا ولن ولم يحصل عمليا وهو (لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا)، نفهم إذا من النصين أن الله عندما يقرر جعلا ما بأي هيئة كانت بشرا أو ملائكة طالما أنها تملك عقلا وتتصرف ومأمورة في العبادة، فاللازم والحتمي أن يبعث لهم رسولا من ذات الصنف، هذا الموضوع وإن جاء في سياق أخر لكنه يشير فقط لإمكانية الحدوث والجعل عند الله الذي هو بالأول والأخير جزء من منظومة الإشاءة المرتبطة أصلا بقوانين ومعادلات وأسس الوجود الكوني الشمولي الأزلي الأبدي الذي لا يتغير ولا يتحول ولا يتبدل.
الغريب والي يثيره الكثير في موضوع الإشاءة ما يرد في النصوص مره باسم المتكلم الحاضر ومرة إخبار عن الفاعل الغائب، مثلا مرة يأتي بصيغة (نشاء) ومرة بصيفة (يشاء)، ولا أريد أن أدرج النصوص الكثيرة كمثال بل لا بد أن أستعرض ما يمكن فهمه من خلال قراءة النصوص، البعض يقول للتفريق بين نشاء أو يشاء بأن الأول إقرار من الله بصيفة المفرد المتكلم، أما الصيغة الأخرى يشاء فتتعلق بالإخبار عنه، ويقولون هذه مسألة تقنية فقط تتعلق بطرائق التعبير في العربية ولا إشكال فيها، أنا أقول إشكال فيها إذا أردنا أن نسلم بهذا التخريج ونسير على ما قاله الأولون، والدليل أن كل الآيات والنصوص التي ورد فيها لفظ يشاء لا تتعلق بالله وحده ولا هي خبر عنه كما يزعم الزاعمون.
فلقد ورد لفظ يشاء في القرأن عموما وحسب ترتيب الآيات في القرآن من كل سورة آية كما يلي:.
• (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ) ﴿٩٠ البقرة﴾.
• (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ﴿٦ آل عمران﴾.
• (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا) ﴿٤٨ النساء﴾.
• (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ﴿١٧ المائدة﴾.
• (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ۚ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ۚ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) � الأنعام﴾.
• (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۚ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ۚ ) � الأعراف﴾.
لقد أوردنا مجموعة من النصوص تشترك في كلمة (يشاء)، وبالرغم من أن المعنى والقصد لا يختلف من حيث كونية الإشاءة أنها بيد الله، ولكن من خلال الأستخدام التوظيفي نجدها تشير إلى ثلاثة أستخدامات فقط، وهي بحسب ما يلحقها من لفظ أخر وتركيب الجملة الخبرية:.
1. مثلا النص التالي (مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، هنا الإشاءة ليست فقط من رب العالمين بل تلحقها شرط الأستجابة والأشاءة من المقصود، فالنص الأول ومعناه أن الله ينزل على من يشاء ليس جبرا عليه أي على من ينزل عليه الله فضله، لكن لتتم المعادلة لا بد أن المنزل له أن يشاء هو الأخر حتى تتم العملية بشكل تام، والدليل أن النص يشير إلى الكافرين الذين رفضوا أن يشاؤوا مع إشاءة الله بأن لهم عذاب مهين، وهذا ايضا ما جاء في النص الثالث تحديدا وأمثاله كثر (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ).
2. تأت كلمة يشاء دون لاحقة لتشير فعليا إلى إشاءة الله المنفردة وحدها وهي بالعموم إخبار عنه ومنه، كما في النصوص التالية وأمثالها (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ)، (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ)، (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ).
3. الأستخدام الثالث الإشاءة المعلقة والتي تعني أن الله لم ينفذ إساءته الآن أو قبلا ولكن من الممكن أن تكون حاضرة وممكنة وجاهزة في أي وقت بتحقق شروطها ومرادها، من هذه النصوص (إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ)، أيضا (مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ)، فهذه الإشاءة عادة مسبوقة بأداة أستثناء تعطس معنى الأحتمالية والإمكان والتحقق على اليقين لو أراد الله (أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ)، أدوات الأستثناء والتعليق مثل "لو" أو "إلا" تدخل على افظ الإشاءة فيتحول المفهوم من الجزم مثل قوله (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ)، إلى مدار الشرط والأستجابة له (إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَدًا).
أما اللفظ الأخر نشاء فهو أسلوب المتكلم المباشر الذي يخبر عن نفسه بنفسه دون واسطة عكس الأستخدام الأول، بمعنى أن ورد لفظ نشاء هذا بعلق الأمر كلي على صاحب الإرادة والأشاءة دون أن يربط الأمر بمتعلق أخر (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)، هذا فزا حاسم وجازم لا معلق بشيء أو أمر أو مرتبط بقضية سوى أن الله وجد الأمر مستحقا فشاء كما يشاء، وحتى عندما يسبق اللفظ أداة التخيير أو الترديد "لو" يبقى الأمر كليا بيد الله :لو نشاء" وهذه تفرق كثير عن "لو يشاء" الترديدية في المعنى القصدي الوارد في 3 من الفقرة السابقة (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ۚ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)، الفرق تماما بين لو يشاء لهدى الناس جميعا هو خروج عن علية الخلق الأولى والتي تعتبر قانون إلهي وجودي (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) هود 118 ، فهو هنا لم ولن يشاء مع أنه قادر عليها، أما في نص (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ) ٦٦ يس، هنا الفرض قد تحقق وكثيرا ما طمس الله على أين البشر المعاندين والكافرين، ولكن من سياق النص أن هذا القول مخصوص لجهة محددة جاء النص من باب التهديد والوعيد فقط، إذا الفرق بين الصيغتين مع حرف لو الأمتناعي أو التخييري بين نشاء أو يشاء هو أرتباط الإشاءة بالقدر المسبق وهو قانون الوجود الثابت التي تسميه النصوص القرآنية السنة.
بعد أن أستغرقنا كثيرا في الإشاءة والإرادة نعود للنص الذب غيه محور الدرس وهو موضوع الملائكة وقدرتها أن تكون في الأرض أولا، والشيء الثاني أن تتناسل وتخلف كما هو حاصل مع البشر أو الكائنات الحية، هناك أمر مهم قد لا يلتفت إليه البعض، وهو أن كل الكائنات الحية الموجودة على الأرض تحديدا، مع عدم نفي أن تكون هناك في مكان أخر بلا علم أو دليل، تكون القاعدة الأولى في وجودها هو التكاثر والتناسل طبيعيا ومتواصل، هذا من الناحية الطبيعية وليس من الناحية العقائدية كعلة وجود، فكل الموجودات الحية لولا صفة وخصلة التناسل والخلافة جيل بعد جيل، ما كان لها ضروريا أو بديا أن تكون موجودة، خاصة إذا علمنا أن وجود جنس حيواني أو نباتي لا يخلف وباق بذاته هنا يشترط لتحققه أن يكون ذلك خالد أو مخلد، وهذا الموضوع فيه نفي مطلق من الله.
إذا وجود الملائكة أفتراضا بالجعل في الأرض فعليها أن تخضع لنفس قانون الوجود الحياتي، وهو أن تتناسل وتتكاثر وتخلف، وبالتالي فمن هذا المفهوم نعرف أن الملائة ولكونها لا تخضع لقوانين الوجود الأرض فهي لا تتناسل ولا تتكاثر ولا تخلف لأنها تخضع لقانون وجودي أخر ربما لا يشترط ذلك، مع أننا نؤمن أن الله خلق من كل زوجين أثنين بما فيهن الملائكة، ولو شاء الله أن يجعل منها من يسكن في الأرض طبيعيا، لطبق غليها قانون الوجود في الخلافة، وبالتالي عليه أن يعلمها ويرشدها بمجموعة من الأوامر والنواهي "دين" بما يعني أنه يرسل لهم رسول (قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا) � الإسراء﴾، إذا عندما ينص الله في مكان أخر من القرآن هذا الشرط (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) � الزخرف﴾، إنما يؤكد هذه الحقيقية الوجودية التي تعني أن كل من في الأرض كعلة وجود أن يكون بالقوة وطبيعيا من الذين يخلفون، أي يتركون ورائهم خلف من بعد خلف ويحكم عليهم إتباع الشهوات (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) كريم 59.
فإتباع الشهوات ليس جريمة بحد ذاتها ولكن ما تسببه من الغي هو الذي يحرف بعلة وجودها الأولى (إلا ليعبدون)، وحيث أن الملائكة وبالجعل الرباني مخصصين لغائية محددة ومرسومة بدقة سببت لأن يكونوا من غير شهوة، لذا يكون أمر وجودهم في الأرض وأنطباق قانون الوجود الأرضي عليها خرقا للناموس الإلهي الذي هو من ضمن سلسلة قوانين الوجود الشيئي الكلي المطلق والشمولي التي سنها الله ونظم الوجود من خلالها محافظا عليها من الفناء والعدم، فالملائكة من قبل وجود الأرض ويعدها كانوا على حال واحد (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وهذا يتنافى أصلا مع أفتراض أن يكونوا من أهل الأرض أمنين كا جاء في النص.