تأريخ الخرافة ح 5


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7966 - 2024 / 5 / 3 - 08:15
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

الخرافة التفكير الدين
للذين لم يقرأوا التاريخ المعرفي للإنسان أقول كلمة جدا متمسك بها وهي للدكتور أيمن رفعت المحجوب في واحدة من ألمع الأفكار البشرية أو هو ناقلها لنا، هذه الفكرة أستعراضية أفقية في عالم الفكر المؤسس بشقيه الخياري أو المفترض، وهي (أن مذاهب التفكير الكبرى نوعين، الأول خرافى علمي متحرك ومتبدل بشكل واضح وصريح ومتوافق مع ذاته، والثانى فلسفي ديني قائم على التأمل واليقين الروحي _ عقلي أكثر من أعتماده على الحركة والتحرك في وجودنا المحض)، فالمذهب الأول متحرك لأن موضوعه الأساسي ربط الأشياء بعضها البعض لذا فأي علاقة ربط ممكنة تكون صالحة له لذا فهو حر بشكل ما، ومهمته دوما كشف العلاقات بين الأسباب والمسببات من خلال الك الروابط ونتائجها فهو أيضا تجريبي، أما المذهب الثانى فهو بحث فائض شامل موضوعه غايات الأمور كلها والتي خلقها الله تعالى، فهي تكتسب الثبات من ثبات صورة الله في وعينا العميق الفطري والمكتسب.
إن كان الجهل بشقيه كما قلنا مبرر وجود الخرافة وأساسها التكويني، هذا يعني أن الخرافة في لحظة ولادتها كانت نوعا من العلم ونوعا من المعرفة لأنها جواب على جهل الإنسان، هذا يعني في النهاية أن العلم في جزء كبير منه ولد في رحم الخرافة حين يتسيد الوعي الحسي والوعي التأملي في مواجهة الحقائق والأشياء والمواضيع التي يدركها الإنسان بالتطور، هذا ليس مسا بالعلوم وليس نفخا في الخرافة هذه مسيرة الإنسان في الوجود كما هي، خاصة إذا قلنا بشجاعة أن صورة الرب وهو يمسك بالعصا في يد والكتاب في اليد الأخرى ويعلم الإنسان ما لا يعلم هي بالحقيقة جزء من خرافة كبرى، الله ليس دليل سياحي في الوجود الله أعظم من أن يكون بهذا الحجم الضئيل لينزل إلى هذا المستوى الفكري، الله خلق قواعد وقوانين ومعادلات كلية وجودية مطلقة تامة كاملة لا تتبدل ولا تتغير لأنها مطلقة خارج إمكانية التحول، وخلق الإنسان وجعله بالقوة التكوينية كائنا حسيا وإنفعاليا مكتسب ومنتج وعليه أن يكون قادرا على قراءة ما خلق، هذه هي حكاية علم الله بعيدا عن خرافة الله المعلم الأول.
لماذا نقول أن العلم والمعرفة ولدا من رحم الخرافة؟ في الوقت الذي نقول فيه أن الخرافة هي الأبنة الشرعية للجهل، هذا تناقض لا منطقي وربما وشوشه عقلية نتيجة عدم وضوح الرؤية بشكل حقيقي، ربما يكون هذا الأستنتاج هو تسرع من عدم ربط الأشياء كما قلنا في تقسيم المعرفة قبل قليل بعضها ببعض، أي هو تسرع قد يكون بتفسير لا علمي أو يبدو وكأنه شكلا من التخريف في شكل خرافة مركبة ... لنعد من البداية كمثال (إذا تصادف وإن رأى أحدهم رجلاً يموت ونجماً يهوى في ذات الوقت، فإن العقل الإنسانى البسيط يربط بين هذين الأمرين برابط من نوع ما، علة ومعلول سبب ومسبب... لكنه لا يربطه بالصدفة أبدا لأن عنده كل شيء محكوم بشيء أخر... فنراه يعتقد أن موت هذا الرجل إنما يرجع إلى هذا النجم الذى هوى، وعلى هذا النحو تنشأ الخرافات، فهى طبيعية فى العقل البشرى عند أول عهده بالمعرفة)، السؤال .... لماذا؟. الجواب ذلك لأن الانسان فى أول الأمر (منذ بدء الخليقة) كان لا يعلم إلا القليل من وقائع الكون المعقد بحسب ما أدرك في وعيه المختار أو الوعي النائم بعيدا في ذات الوعي المكنون، وهناك قوة التنظيم فى العقل الإنساني الطبيعي تحتم عليه بقوة أن يجد رابطة بين هذه الحقائق القليلة، وهذه الرابطة قد لا تكون إلا توافقاً عرضياً فى الزمان والمكان محل الواقعة، ومن هنا ينشأ هذا النوع من مذاهب التفكير الذى نسميه "مذهب التفكير الخرافى".
إذا التفكير الخرافي هو بداية العلم الحقيقي لأنه، أولا كان إشغال حقيقيا لقوة العقل في الربط والأستنتاج واليقين وإن كان نسبيا، ثانيا هو تجربة عملية بحد ذاتها تمثل مرحلة من مراحل معرفة العلم وتعليم المعرفة.... لولا التفكير الخرافي لم يجد الإنسان الأول ومن بعده نحن أي طريق للعلم ولا أي منهج للمعرفة، ولبقينا نرى الوجود من حولنا يتحرك ونحن كالبلهاء ننتظر أن ينزل الرب في كل مرة ليعلمنا درسا في ذلك، لكن مشكلتنا أن الرب لا يريد أن ينزل ولن ينزل ولن يفعلها أبدا، إذا الفضل في ما نحن فيه من علم ومعرفة يعود لذلك العقل الخرافي القديم، الذي صور الحيوانات على جدران الكهوف لأول مرة ظانا أنه قد وضعها بين يديه، لا تستطيع الحراك طالما أنها حبيسة الجدران.
هناك عقل ما زال غير مؤمنا ولا مصدقا أن الخرافة مصنع العلم الأول، أو لنقل بشكل أكثر قربا من الحقيقة....... أن التفكير الخرافي هو أول تفكير علمي وعملي في وجود الإنسان، ومنه أنطلقت عربة العلم لتجول في كل مكان في وجودنا المادي بشقيه أيضا المعرفي التجريبي والتأملي التصوري، السبب في ذلك لأن في عقلنا القديم ترك الزمن "عبارة أو جملة" نقلها من ذاك التفكير أيضا، وهي (أن الرب حاول أن يكتب كل شيء في أدمغتنا... لكننا ننسى وما تذكرنا منه هو الذي بين أيدينا الآن)، و (أن الإنسان ما زال وللأبد يحاول أن يستعيد ما نسي من ذلك المكتوب القديم)، نعم هذا هو جزء مهم من خرافة عقل المتدين الذي لا يرى في أي سبب منتجا لشيء، إلا السبب المنسوب للرب، فكأن الوجود عقيم ومن يستطيع أن يجعله جاهزا للتكاثر هي "يد الله الخفية" التي لا نراها ولكننا نستطيع أن نتحسسها من خلال حركتها المستمرة في أشيائنا.
من نتائج يقيني الشخصي من أن الخرافة هي الأم والأب الشرعي للعلم، ولأنها الخطوة الأولى التي قادت الإنسان لهذا العالم الحال، هي أن حقائق التأريخ توكد ما يلي:.
• إنما هى أي الخرافة شىء لا مناص منه فى أول عهود تفكير الانسان وأعمال العقل.
• لا يبدأ العلم الحقيقي إلا من سلسلة من التصورات التأملية الفردية أما لنتائج تجارب أو حتى ملاحظات مارة أو مقصودة، بمعنى أن العلم لا يمكن أن يبدأ من علم سابق له إلا من خلال سلسلة تنتهي بالجهل.
• الفارق بين العلم والمعرفة كونهما نتاج جهد عقلي مستمر ومتواصل ومنظم، والخرافة التي تنتمي لنفس الجهد ومن نفس المورد وبنفس القوة التنظيمية، هو فارق الزمن الذي مر بشكل أساسي، وعمق التجربة فيه.
• هذا الفرق ليس جوهريا بمعنى انه ليس نوعيا بقدر ما هو كمي، فالخرافة التي كانت في الأمس ممكن أن تكون علما في الغد والعكس صحيح.
• أخيرا لم تنتهي الخرافة من حياتنا حتى يصل قطار العلم والمعرفة لنهاية الرحلة، وحيث أن ما من محطة أخيرة على سكة هذا القطار مطلقا طالما هناك فرصة لولادة زمن عبر الوجود مادة وقانون، فستبقى الخرافة تسير بسرعة ما مع سكة القطار بدرجة ما ولسبب ما.