تأريخ الخرافة ح 14


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7974 - 2024 / 5 / 11 - 20:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

3. خرافات عقائدية أم حلول خرافية.

التأطير المفهومي للخرافة وبالذات الدينية صار عند الباحثين والكتاب والمؤرخين ودارسي الأديان، يتعلق بكل ما هو ضد الإيمان أو ضد المنطق ايماني السليم، أي أن الخرفنة الدينية بكل أنواعها وأشكالها تنسب للجهل بالدين وقواعده الأساسية، هذا التأطير فيه الكثير من التجني على الحقائق المعرفية، ومنها أن الذهاب للخرافة لا بد أن يكون عن غياب الحضور الفكري لمعلم الدين وللفكرة الدينية السليمة، أن صعوبة التأطير المعنوي والتحديد المفهومي للخرافة عائدة في جوانب أساسية غير الكفر والجهل بالدين وأصوله وفروعه ومبانيه العامة والخاصة، هناك الأسباب النفسية التي تحاصر الإنسان في مراحل ضعفه وأحواله العامة حينما لا يجد من يفهم هذه المخاوف والهواجس والانشغالات، فيذهب بعيدا للبحث عن أحتمالات الإستقواء بها، فيلجا للقبور والمعابد وللسحر أيضا عندما يخلط بين السحر والدين، كذلك يلجأ للغيبيات التي يتصور أن لها القدرة على الوقوف معه سواء عن طريق مباشر أو بالواسطة.
كذلك يمكن إعادة تبرير الإيمان بالخرافات وأنتشارها على مدى وعي العقل البشري إلى الاستغلال الكبير من قبل المعبد الذي يصور نفسه للناس بـ "صانع الأحلام والحلول" وفي الحقيقية ما هو إلا صانع أوهام وضلالات، والذي بات يشكل الأساس في تفعيل استخدام نمط “التخريف” والتطرف في التعامل بين التفكير الفردي والجماعي والتوجهات الفكرية المختلفة التي تشكل ظاهرة الخرافة الدينية، ومما يثير الدهشة أن وجود تعدد قراءات متنازعة ومتضادة في دين واحد راحت تتبادل فيما بين مؤيديها هذا الخطاب أيضًا، وترمي كل منها الخصم بصانع الخرافة والأسطورة المجانبة لأصل فكرة الدين المشتركة، هذا ما يحصل بالفعل بين الاتجاهات الدينية التي هي من جنس قريب جدًّا أو ما يعرف بالمذهب والتحزب والطائفية الدينية.
إن الانشداد الإنساني نحو الله أو الرب لا يمطن عده أمر غيبي أو متعلق بالغيب لأن الفطرة العقلي والعقل الفطري الأول الذي هو طبيعي وتكويني وحقيقي يؤكد هذا الميل الشعوري العميق والأصيل ويجسده بالوعيين، هذا الإنشداد للكمال المطلق والتوق العارم له هو طريق عقلي ومنطقي نحو الخروج من ضيق الأطر المادية والحسية الجامدة، تلك الأطر التي تجعل الوجود أيضا مجرد علاقات جافة ويابسة فاقدة لكل ما هو روحي وإيماني، ومن هذا الإحساس أستشعر انسان منذ البدء وتأكد يشكل لا متناهي من أن الطبيعة وحدها لا تعالج طموحاته بماديتها وحسيتها وصرامتها، ولا يمكنها أن تحقق آماله وأن تجلب له سعادته الحقيقية، ولا تكون مقنعة وكاملة الأركان من خلال الاكتفاء بما تحسه ظواهر القدرات الإدراكية الإنسانية.. لذا فإن كل ذلك يحتاج بشكل دائم البحث عن سبل الفضيلة والخير والحب والجمال والأمان لخروج الإنسان مما هو فيه من هذه المآزق.
هنا أنقسم أهل التصانيف والمعنى حول ما يمكن أن نعرفه بحدود معنى الخرافة وبيان إطارها "المعنى" عند من يعتبرون أنهم مثاليون أو اللا ماديون، فقد بينا موقفهم كما سلف أما المدارس المادية والليبرالية والعلمانية والتي عادة ما تصنف على أنها نقيض لأصحاب الإطار الأول، فقد ذهبوا غالبا نحو اتجاه معاكس مبني أساسا على قاعدتهم في تأطير المفهوم وتحديد المعنى بقدر ما يشغل حيزا في المادة أو يؤثر عليها بشكل محسوس قطعي وليس ظني أو أفتراضي خيالي، فسنجدها ترى إلى الأعتماد في التقييم من حدود المادة وأن الاعتقاد بما وراء الطبيعية بالوصف عند المثاليين أو المدرسة المعنوية ما هي إلا مجرد خرافة صافية، وما تقول به الأديان والرسالات السماوية وما فيها من عقائد تخص الله والملائكة والجن والمبدأ والمعاد (وفقا لهذا التقويم) مجرد مجموعة من الخرافات استولدها المخيال البشري لمأرب في سيكولوجية أو لأهداف مادية سلطوية طبيعية أو غرائزية.
المثاليون يردون على الماديون ويعرفون الدين على أنه (سلسلة من الأفكار والرؤى المتكاملة التي وضعها الديان لتنظيم حياة البشر مرتبطة بتحقيق نتيجة الخير والصلاح وحث الإنسان على العمل الإيجابي من خلال مبدأ المكافأة التحضيضية أو مبدأ الوعيد في حالة أن الإنسان لا يساهم في تحقيق ما يطمح إليه مشروع الديان)، أذن فهو عندهم مشروع أصلاحي وليس طوقا أو مجموعة أغلال في عنق الإنسان لتبقيه في دائرة الشك والخوف والرهبة، بمعنى أن الدين جاء كحل مقابل تلك الدائرة التي تضع الإنسان حيث لا يجد سبيلا لفهم الوجود إلا من خلال التوهم والتصور الخيالي الهروبي بالنتيجة في أن يكون مرتهنا إلى نتائج لا يدركها في وجوده، لذا فهم ينفون صفة اللا معقولية والا عملية عندما يشيرون إلى أن الدين يقول (أعملوا) و (أعقلوا) و(تدبروا) و(تفكروا) ولينظر الإنسان مم خلق، وبهذا المنطق العملي العقلي فهو يحث الإنسان على الإنجاز العملي والعلمي وليس على اليقين بالإعجاز الظني الغيبي، فمن يريد الحياة إيجابية لا بد له من العمل الإيجابي المنتج ولا بد من وسائل تساهم في خلق هذا المنتج المطلوب، أما العبادات المفترضة فهي جزء من عملية جعل الأستقرار النفسي بالإستطاعة التكليفية الميسرة وسيطا لطمأنة الإنسان على وجوده وصنع سلامه الداخلي المرافق للعمل الوجودي.
هذا الصراع بين الماديون والمثاليون أنسحب إلى دائرة المعرفة وجعل الكثير من الأفكار البشرية والتي هي في واقعها ليست مادية أو حسية ولا حتى منطقية بالتفسيرات الموضوعية مخل شك، فمثلا علاقات البشر الشعورية كالحب والكراهية ليس لها تفسير مادي بقدر ما هي أستشعارات محسوسة بالشعور الداخلي فقط وليس لها مظهر خارجي مادي، هل تفسر هذه المشاعر على أنها مثاليات ملحقة بالخرافة أما أنها إنفعالات وجودية لديها حضور عملي لكن ليس لها حضور مادي، الكثير أيضا من السلوكيات البشرية لا تخضع لاتفسير المنطقي ولا للقوننة المادية بالوقت الذي لا يمكن إنكارها ولا يمكن عدها خرافة ظنية أو وهمية.
الملخص الذي نريد أن نصل له أن الخرافة لها حدود معنوية مهمة قد تنطبق على وصف فكرة أو مجموعة أفكار ولا يمكن أن تنطبق على مماثل لها وإن أشترك بعنصر منها أو أكثر، فالخرافة تستند في وجودها المعرفي والمعنوي على ما يلي".
1. أنها فكرة مصنعة عقليا أو نفسيا عن حدث يبدو أنه وقع في زمن ما أو مكان ما أو حال ما أو أفتراضا أنه وقع، فلابد من ترابط جوهر الفكرة مع الحدث برباط علة ومعلول أو سبب ومسبب.
2. هذا الحدث الفكرة مركب من صورة وغاية فكرية أبعد من ذات الفكرة المطروحة، فالأفكار الصورية التي تصف أو ترسم ذهنيا لمداعبة غريزة أو ذوق أو الهدف منها الأستمتاع دون أن ترتبط بغاية فكرية لاحقة لا تعد خرافة.
3. عند وضع الفكرة خارج هدفها وغايتها تبدو للدارس لها أو الناظر لتفاصيلها أن غير متحققة بأي شكل، ليس لعدم حدوثها بل لأن حدوثها ممتنع طبيعيا أو علميا أو عمليا، هذا يعني لو عمل الإنسان فعلا على تجسيد الفكرة بأي وسيلة عدا الغيب أو الخيال أو الظن لم ولن ولا تتحقق بما يشبه المحال.
4. شرط الخرافة أن يؤمن بها البعض ويؤمن بوقعها وأحقية وقوعها دون أن تخضع للنقد أو النقاش، فقصص وروايات الخيال العلمي وأفلام الكارتون لا تخضع لهذا الشرط لأن صانعها ومن يشاهدها يعرف ومتيقن أنها وسيلة إيصال فكرة ما، وليس غايته تأكيد أحقيتها أي الفكرة المصورة أو المسرودة وضرورة الإيمان بها.
5. وأخير لا يمكن عد أي فكرة غير عقلية ولا منطقية كنوع من أنواع الخرافة ما لم يمر عليها زمن، تتطور فيه أو تبقى في دائرة التعامل بها كواحدة من مفردات المعرفة عند الأشخاص المؤمنين لها.
هذا التأطير التقريبي لمفهوم الخرافة أو الفكرة الخرافية أو حدود العقل الخرافي تضع جدودا بين ما يمكن عده صناعة كما يصفها ابن خلدون، وبين تطور الفكر المعرفي وولاداته المتكررة في طريق النضوج، فالعقل البشري ليس أداة مبرمجة على قوالب جاهزة، بل أن فيمته الكبرى أنه عقل تجريبي متعدد الوجوه في صناعة الأفكار أو قبولها أو حتى بسطها في الواقع، هذه الحرية التكوينية للعقل البشري هي التي نقلته من لحظات الدهشة والمفاجأة والغربة والحيرة والخوف إلى كائن متحدي وصانع وخالق ثاني للوجود، لا يهم كيف يصل للمعرفة بقدر ما يهم ما يصنع بهذه المعرفة، فالدين جزء أساسي من وسائله الصناعية للأفكار وللتحول والتطور، وخاض فيه تجارب وألام وإشكاليات وتحديات كثيرة ومتشعبة، لكنه تجاوز القدر الأكبر منها بواسط آليات التعقل والممارسة التجريبية الفذة، إذا لا يمكن عد الدين وإن أعتمد في كثير من تفاصيله على الماورائية الغيبية فقد حقق بها الكثير، نعم لا ننكر أن رحلة الدين في وجود الإنسان رافقها الكثير من الخرافة، هذه الخرافة جزء طبيعي من تعامل الإنسان الوجودي حتى مع العلم المجرد، فمن غير المستساغ تجريد الدين من واقعيته والأعتماد على مادية مجردة تحيل الوجود إلى عوالم صامته بكماء ليس فيها من روح تحرك الجوهر الطبيعي للأشياء.