سليمان والعرش ومن عنده علم الكتاب في معادلة الفعل والتشكيك. (ملك سليمان) ح 19


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7881 - 2024 / 2 / 8 - 21:19
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

لقد عرف العراقيون القدماء الله بأسماء عديدة ولكن بنفس الصفة التوحيدية، أولا لتطور اللغة وما تبع ذلك من ملائمة الأسم مع الواقع اللغوي في المناطق المتعددة، فمثلا عندما يستخدم الأشوريين أسم أشور مع أسماء الملوك والشخصيات، هذا يعني تماما عندما نستخدم أسماء الله مع أضافة صفة أو كلمة للاسم ليكون اسما شخصيا مثل عبد الله أو عبد الرحمن، فـ "أشور ناصر بال" لا يعدو أن يكون أسمه "المنصور بإله أشور" الذي هو الله، وحينما نقرأ الأسم صحيحا لا مترجما عن اللغة الأجنبية سيكون " أشور ناصر بله" ليكون اللفظ الصحيح هو "ناصر أشور بالله"، ومثلها أيضا الملك "حمورابي" الذي يعني "حامي الرب" أو "حمايني بالرب"، إن مشكلة الترجمة كما ذكرت في أكثر من مناسبة تفقد الكلام معناه، فالترجمة الحرفية عبر عدة لغات يفقد اللغة مذاقها وجرس حروفها الطبيعي، لاسيما أن اللغة كانت في ذلك الوقت في مرحلة التطوير والتكوين قبل أن تصل لنا بالشكل الذي نتحدث به.
الغريب أيضا عندما نجد أن الكثير من المجتمعات التي سكنت منطقة الهلال الخصيب بشقيها السوري والعراقي مثل الفينيقيين والكنعانيين وما قبلهم وما بعدهم، قد عرفوا أيضا فترات من التوحيد وربما يكون التوحيد هو السمة الغالبة، والتعدد هو لفترات وظروف أملتها الغزوات والحروب بينها، فعندما تنتصر قوة مجتمع على أخر فلا تنتهي المعركة ونتائجها في ساحة الميدان فقط، فهناك أيضا أستحقاقات ثقافية وفكرية ودينية وحضارية ومعرفية ولغوية لصالح المنتصر، هذا هو المفهوم الحقيقي لصراع الحضارات، فالأمم المغلوبة لا تستسلم بسهولة وتبقى تقاوم على قدر إصالتها التكوينية وقوة فكرها وثقافتها، وربما هي التي تنتصر في النهاية، ولدينا أمثلة تأريخية عديدة توضح أن الثقافة والفكر واللغة هم من أخطر الأسلحة وأقواها في المواجهات الوجودية.
من الأمثلة الحقيقية التي تؤكد كلامي هذا لو وضع موضع العناية والفهم الحقيقي للدلالات والمقاصد، سنجد أن ما سيرد كجزء من الموروث الديني المتأصل في المنطقة والمترابط مع الكثير من النصوص المعتمدة في الديانات الإبراهيمية، فعند اكتشاف مملكة (أوغاريت) في منطقة رأس شمرا قرب مدينة اللاذقية السورية في الربع الأول من القرن الماضي، تمّ العثور على عدة ألواح مدونة برموز أبجدية هي من أقدم النصوص المدونة بالمِسمارية في تاريخ المنطقة، وعندما قام عالم الآثار الفرنسي شارل ڤيرللو Charles Virolleaud بفك رموز هذه الأحرف وترجمتها اكتشف عبارة زعزعت العلماء حول أولية كتاب التوراة وإصالة المفاهيم التي جاء بها، من المؤكد إن ما ورد في التوراة لم يكن جديدا على ديانة شعوب المنطقة، على إصالة الثقافة والإيمان التوحيدي عنده، فقد وجدو المكتشف والمترجم عبارة دينية شديدة التشابه مع النص التوراتي، بل يمكننا القول أنها نفس العبارة التوراتية، وردت هذه العبارة في ما يسمى بقصيدة (عرس القمر) الأوغاريتية، والتي أظنها والغالب على نصوصها أنها مبادئ وأفكار وصلوات دينية تشير لعلاقة تعبدية بين سكان المنطقة، حيث تقول العبارة ((glmt-btl-bn-qdsh-shmmu-bn-il))، وترجمتها حسب ما ذكر المصدر (غلمت-بتل-بن-قدش-شممو-بن-ئل (عل / ئل / إل / إيل)، أما الترجمة الحقيقية فهي (غلام بن البتول المقدس سموه بن ال له ).
إذا قد تكون نبوءة سابقة لزمانها أو هي قصة مشابهة لما ورد في التوراة أو هناك أحتمال أن ما يرد في كتبنا الدينية يرجع في أصولها إلى ديانات توحيدية أقدم، ولكننا أسقطنا الحوادث على أزمان عير حقيقية، حيث نجد أن هذه العبارة مستنسخة بنفس سياق العبارة التي ترد في التوراة، بعد زمن مملكة أوغاريت الكنعانية الفينيقية بما لا يقل عن ألف سنة وبكلمات مُشابهة كما وردت في (سفر أصحاح أشعياء 7) "ها هي العذراء تحبل و تلد إبناً وتدعو اسمه عمانوئيل" (و معنى اسمه كما ذكر "ليُكن الله معنا" وهو اسم المسيح أو المسايا العبراني)، و المُلاحظ أن أستخدام المفردات نفسها تماماً في النّصين مثل: (بتل أو بتول) وهو لقب كان يُطلَق في اللغة الفينيقية الكنعانية على الرّبة (عنات أو أناة) وكما يرد اسمها في نصوص أوغاريت مسبوقاً بلقب "البتول" أي (العذراء).
وغير الكنعانيين كان الأموريون أو "العموريون" في نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد وعلى مسرح العالم القديم في بلاد الشام وما بين النهرين عبر مدن الممالك المُستقرة، وقد امتد نفوذُهم من منابع نهري دجلة والفرات شمالاً وصولاً إلى تيماء في شمالي الحجاز جنوباً، ومن شاطئ المتوسط غرباً إلى بادية سوراقيا أو البادية العراقية الغربية و شواطئ دجلة شرقاً، إلى جانب إلههم الخاص "هدد" أو "أحد" أو "أدد" الذي يرد مقترنا في العديد من أسماء ملوك بابل وآشور مثل (شمسي أدد الخامس و أدد نيراري الثالث)، و بسبب إنشار الممالك الأمورية أو العمورية على نطاق واسع، ضمّ مجمع الأرباب الأموري / العموري عدداً مما يسمى آلهة بتأثير جيرانهم السومريين الأكديين والآشوريين والحثيين كما يزعم المؤرخون، مثل إله القمر أو رب القمر "سِن أو سين" وإله الحِكمة ورسول العزيز النبي "نابو" وإله الشمس أو ملك الشمس "شمش".
لكن إله أسلافهم الأكديين و الكنعانيين "أل لَه" كانت له مكانة خاصة عند الأموريين / العموريين، إذ أنهم هم أيضاً رفعوه إلى مرتبة "ربّ الأرباب" أي رئيس مجمع هذه الآلهة "الملوك" كلها (كما كانت عند الأكديين البابليين والكنعانيين الفينيقيين)، وقد عبدوه باسم آخر أو تجلّيه الإله "بعل" و الذي يعني أسمه "السيّد الّرّب"، واعتمدوه كإله رئيسي لهم و أطلقوا اسمه في تسمية آلهتهم من أمثال "بعل شمين" (رب السماء) أو بعل شمايين" (رب السماوات) و "بعل عنت محرثت" (ربّ الأرض المحروثة) إلخ ... لكن المأثرة التي تسجل للآموريين أو العموريين تتمثل في تحويل الآلهة الصغرى المُساعدة للإله الأكبر في المجمّعات السماوية التي عرفتها حضارات العالم القديم (السومرية والبابلية والكنعانية والمصرية والإغريقية اليونانية) إلى كائنات نورانية مُساعدة للإله الواحد الكبير العالي المتعالي "إيل" تحت مسمى "ملائكة"، وأسبغوها أسماء و صفات من لغتهم الأكدية - الآرامية التي كانت، لكمالها و رقيّها سيدة لغات العالم لأكثر من ألفي عام! و أسماء هذه الملائكة ما زالت قيد الأستخدام في كل لغات الأرض حتى اليوم نذكر منها:.
• جبريل (جبرائيل، ناقل الوحيّ): الاسم هو أتحاد بين كلمة "ܓܰܒܪܐ": (جَبْرا) و تعني "رجل"، و كلمة"ܝܶܠ" (إيل) فمعناه: "رجل إيل أو رجل الله / رسول الله / ناقل الوحي الإلهي إلى البشر".
• ميكائيل (ميخائيل، وهو كبير الملائكة والملاك الموكّل بالمطر) اسمه هو دمج بين كلمة "ܡܝܚܐ"(ميخا) وتعني "إشراقة"، وكلمة "ܝܶܠ" (إيل)، فمعنى اسمه يكون: "إشراقة إيل أو نور الله".
• عزرائيل (عزرايّين في اللهجة الشامية، هو ملك الموت): اسمه هو توليف بين كلمة "ܥܰܙܪܐ" (عَزْرا) و تعني "مُساعد"، وكلمة"ܝܶܠ" (إيل)، فيعني اسمه: "مُساعد إيل / مُساعد الله" (في قبض الأرواح).
• إسرافيل (الذي ينفخ في الصور إيذاناً بيوم القيامة): اسمه هو نحت بين كلمة "ܝܨܪܦ"(إيسراف) وتعني "إرادة"، وكلمة "ܝܶܠ" (إيل)، فيعني اسمه "إرادة إيل أو إرادة الله".
هذا الإرص لو تم قراءته كما هو دون تدخل وفرض أوهام وأفكار ومحددات لا علاقة لها بالتأريخ ولا بالأديان القديمة، لأكتشف العالم مبكرا أن شعوب المنطقة التي حددنا لها جغرافية الشرق القديم، من شرق العراق ووصولا إلى وسط شمال أفريقيا وجنوبا حتى البحر العربي، هذه الشعوب عرفت التوحيد وعرفت الله قبل العبرانيين وحتى قبل ميلاد إبراهيم، وأجزم حتى قبل نوح لأزمان أقدم حيث كان نوح على ملة إباءه شيت وأدم، مما يؤكد المقولة القرآنية أن الله خلق الإنسان "على دين الفطرة" وهو التوحيد، أما الإشراك والشرك فحصل لاحقا ولأسباب عديدة لها مجال في بحث أخر، أما الوثنية الصنمية التي تعني عبادة الأوثان والأصنام لذاتها دون الله، فلم تعرف شعوب المنطقة هذه النوع من العبادة أبدا.