سليمان والعرش ومن عنده علم الكتاب في معادلة الفعل والتشكيك. (ملك سليمان) ح 18


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7879 - 2024 / 2 / 6 - 10:27
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

إن الإشارات التوحيدية في النصين لا تدع أي شك في أن الأسماء التي ذكرت أما أنها حرفت عن اللفظ الحقيقي الذي ورد في النصوص، أو أن النطق بها غير مطابق للنطق القديم، فمصطلح بطل الآلهة هو تحريف لمعنى إله الآلهة أو خالق الآلهة، فلا معنى للبطولة مع أن القمر سين أو يا يزعن أنه إله القمر سين لم يكن هو الإله الرئيسي كما يترجم في المدونات القديمة، فكيف يكون بطل الآلهة وكيف يكون هو الذي أنجب أو خلق كل الآلهة وهو المعظم في السماء وهو من يقرر المصائر إلى نهاية الأزمان، إن القراءة الموضوعية الدقيقة تكشف لنا تهافت الترجمة وتحريفها للنص نحو أهداف وغايات لا علاقة لها بالتاريخ ولا بالبحث العلمي.
وحتى عندما تطور النظام السياسي والأجتماعي والحضاري في بلاد الرافدين وبعد الفصل بين السلطتين الدينية والزمنية، لم ينفصل الحاكم الزمني تماما عن المعبد والهه، فهو يستمد شرعيته من اعتباره المفوض من إله المدينة الدارة شؤونها، ففي عصر فجر السلالات (2800 ـ 2370 ق.م ) ظهر الحاكم الزمني المفوض من قبل اله المدينة الدارة شؤون دولته الأرضية واطلق على هذا الحاكم "إنسي" Ensi واعقبة ظهور مصطلح مقارب لما يعرف اليوم بالملك وهو "لوكال Lu ـ Gal " أو الو كال بالكاف المعجمة أي ال جل وهي جذر كلمة الجليل كما في جل جلاله (جل _ جلاله)، عندما كان يتسنى للحاكم بسط نفوذه واخضاع مدن (اخرى لسلطانه) من باب الدعوة للدين وتنفيذ إرادة الله بنشر دينه التوحيدي.
فـ "الجل" و "الجال" بالفظ العراقي القديم سواء أكان بالكاف المعجمة أو بالجيم المعربة المفخمة مصطلح عراقي لغة ومنشأ ويراد به التعظيم والتفخيم، وهو عندما يستخدم مع أسماء ما يعرف بالملوك فيقصد به تماما مدلول العزيز الذي ورد في سورة يوسف ويقصد به عظيم قومه، وأيضا هذا مذكور في التاريخ الإسلامي عندما خاطب الرسول ملوك العالم، لم يخاطبهم بصيغة الملوكية وإنما بصيغة عظيم الفرس أو هرقل عظيم الروم، وهذا يرجع إلى أن عقيدة التوحيد لا تعترف بالملوكية التي تعني أمتلاك مطلق للوجود للشخص، وأن الله هو مالك الملك وحده وما بيد الناس من سلطة هي تخويل منه فقط.
إذا الجل أو الجال في اسم "جل خامس" المعظم البابلي أو ما يعرف بجلجامش ليس اسما شخصيا بقدر ما هو لقب ملكي تعظيمي تفاخري أكتسبه من خلال تولي الحكم وهو الخامس في سلسلة الحكام العظماء في بابل، والجل لفظ أسهب أصحاب الفهارس والقواميس في شرح المعنى للأصيل، مما يدل منها على أم هذه الكلمة لفظ شائع عند العرب ومنهم العراقيون القدماء، ففي قول ابن أَحمر الذي ذكر بن منظور في لسان العرب:
يا جَلَّ ما بَعُدَتْ عليك بِلادُنا وطِلابُنا، فابْرُقْ بأَرضك وارْعُدِ
نكتفي بهذا القدر من الأمثلة لنؤكد أن لو جال أو لوكال لا تلفظ للدلالة على إله أو رب وإنما تطلق في الأدب السياسي العراقي القديم على الزعيم أو الرئيس أو السيد في قومه، وعادة ما تتغير أسماء هؤلاء الزعماء عن أسمائهم الحقيقية فتغلب الكنية على الاسم وتبقى المشكلة قائمة لمن لا يعرف النظام المعرفي واللغوي في العراق القديم.
هذه المشكلة أيضا ظهرت مع كلمة "نابو" التي أوردها الكثير من المختصين على أنه من أهم آلهة بلاد الرافدين، وقيل أنه كان أبن الإله مردوخ حسب الأفكار والعقائد العراقية القديمة، وكان أيضا إلهاً للكتابة والحكمة وكان في بداية عبادته إلهاً خاصاً بالزراعة، ولم يقل أحد الحقيقة أن نابو لم يكن إلها ولا معبود إنما هو كاتب ورسول لإله القلم والعلم والرقيم وحامي الأدباء والمنسوخات "الكتب السماوية"، فقد كتب اسم الإله نابو بشكل مقطعي بـ (نابي و م) وقد وردت هذه التسمية في معظم العصور التي ظهر بها اللفظ، ونادراً ما كتب بشكل (نابوم)، إذ يعتقد إن تسمية (نابيوم) قد عرف بها منذ العصر الأكدي، وقد ظهرت هذه التسمية في وثائق عصر أور الثالثة والعصر البابلي القديم ويعتقد أنها تحولت إلى (نابو) في عصور أحدث، كما ظهر اسم (Nabiām)، وهو اسم جاء متأخراً في نصوص الأدعية والصلوات ونصوص المزامير.
وقد زعم البعض أن الإله نابو ذكر بالتوراة (العهد القديم) باسم (نيبو) (Nebo) وهو الاسم العبري للإله نابو، أما في الآرامية فقد ظهر بشكل (Nbw) وكذلك في التدمرية والسريانية والمندائية وظهر في اللاتينية بشكل (Nebus) واسم العلم نابو (Nabu) مشتق من الأصل السامي، أو الجذر السامي (Nbi)، أي بمعنى (ينادي)، ويرجح أصله إلى الديانة العراقية ما قبل عصر العبيد، ويمكن أن يفسر بالمعاني الآتية (الرسول، المذيع، المنادي، المعلن، المبلغ)، طالما أنها تتوافق مع إحدى الوظائف التي يؤديها الشخص المعني، كونه وزير الإله أو رسول الإله، أو بكونه صفة مشبهة مع الاسم العام، وهو (المنادي) وفي حال دعم التفسير الثاني فهو صفة للشخص "نابو"، أما معنى الاسم باللغة الآشورية فهو يعني (نادى) وهنالك معاني أخرى لأسم الإله نابو ومنها (اللامع)، وحسب رأي الأستاذ طه باقر فأن تسمية الشخص نابو تعني (المظهر أو المتكلم) ومنها جاءت كلمة (نبي) من كلمة (نبو) باعتبارها درجة دينية عظيمة ترتبط بالدين والإله والرسالة منه.
إن مجرد وجود كلمة نبي أو نابو في التراث الديني العراقي القديم يلغي تماما فكرة الوثنية والشرك عن طبيعة التدين العراقي القديم، وبالرغم من كل التحريف التوراتي وجهود المؤرخين والباحثين المؤدلجين في قضية محددة، لكن هذا لا يمنع الأجيال القادمة من معرفة الحقيقة مهما أدلس فيها المدلسون وحرف فيها المحرفون، حتى اسم الجلالة وباللفظ العراقي السومري الأكادي القديم قد تم تحريفه كب لا تظهر حقيقة معرفة العراقيين القدماء بالله، فالأقوام العراقية كانت تلفظ "إني أنا الله" كما تلفظ طلمة "أسم الله" باللهجة الدارجة العراقية حاليا، اللفظ السومري والأكادي كان "أنله" على وزن "أصمله"، فنقله المترجمون والباحثون الأجانب إلى "أن ليل" ليكون هذا المسمى هو الإله الرسمي الأكبر للعراقيين.
فقط نظره سريعة لما يتعلق بالآلهة أنليل كما ورد في الويكيبيديا العالمية تظهر لنا مدى التحريف والتزوير الذي طال فكرننا الديني، دون أن يكون هناك دليل أو حجة لها من اليقين والثبات ما يعزز أفتراضها وطرحها للجمهور كمسلمة ((كان «آن» بالسومرية، والمعروف لاحقًا باسم «آنو، أنُّو» في الأكدية، هو الإلهُ الأعلى و« مُحَرِّكُ الخَلْق الأوَّل»، ويُجَسَّدُ بالسماء أو هي مظهره، وإنَّه الأصل (السَّلف الأعلى) الأوَّل والأكثر بُعدًا وترفُّعًا، الذي كُوِّنَ عنه تصوُّرٌ لاهوتيٌّ على أنَّه إلهُ السماءِ في «كُنْهِهِ أو إبهامه المُتعالي أو المُتسامي»، وكان يُعتقد في بعض النظم اللاهوتية، أنَّ جميع الآلهة تنحدر من «آن» وزوجه أو قرينته «كي»، بيد أنَّ آنو وصف نفسه بأنه سليل للعديد من الكائنات البدئية في نصوص مختلفة (قوائم الآلهة، التعويذات، إلخ)، بينما كان لإنليل غالبًا شجرة عائلة خاصة به والتي هي مستقلة عن شجرة آنو، وفي أثناء ما وُصِفَ آنو بأنَّه الإله البعيد والقصي، على الأقل بحلول وقت أقدم السجلات المكتوبة، كان الإله الرئيسي من حيث العبادة الفعلية هو إنليل، وبالتالي فإنَّ تفوق آنو كان «دائما اسميَّا أو رمزيَّا إلى حد ما» وفقا لويلفريد لامبرت، كان «لولودانيتو»، وهو حجر متعدد الألوان (الأحمر والأبيض والأسود)، مرتبطا بآنو. عدده السري أو الرمزي هو «٦٠»، الذي يُعد أكمل الأعداد في النظام الرياضي الستيني السومري)).
من المعروف مثلا أن لله أسماء عديدة تشترك فيها الأديان أما لكون الاسم جامع كما هو لفظ الجلالة الله ويا هو عند المسلمين واليهود، أو كصفة عامة كالرحمن والخالق والعظيم وغيرها من الأسماء، لكن حتى في داخل دائرة الدين المنزل هناك بعض الأديان تنكر اسما محددا ومعينا، فاليهودية مثلا تنكر الرحمن إلا ومقترنا بإله بني إسرائيل ، بينما نجد أن بعض الموحدين من الأقوام القديمة يعتبرون الرحمن هو الإله الأساسي مع غياب تام للفظ الجلالة "الله"، وقد ذكر هذا الأمر في نصوص قرآنية عديدة، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ۩)، { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ } أي وحده الذي أنعم عليكم بسائر النعم ودفع عنكم جميع النقم.{ قَالُوا } جحدا وكفرا { وَمَا الرَّحْمَنُ } بزعمهم الفاسد أنهم لا يعرفون الرحمن، وجعلوا من جملة قوادحهم في الرسول أنهم قالوا، ينهانا عن اتخاذ آلهة مع الله وهو يدعو معه إلها آخر يقول "يا رحمن" ونحو ذلك كما قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } فأسماؤه تعالى كثيرة لكثرة أوصافه وتعدد كماله، فكل واحد منها دل على صفة كمال.
القصد من هذا الكلام أن تعدد الأسماء لله الأعلى رب الأرباب مع تغير اللهجات وأشكال العبادة، لا يتغير من حقيقة التوحيد فالله هو الرحمن وهو الخالق وهو الحي الذي لا يموت، أما ما يشار بهم بأنهم آلهة موازين أو ثانويين يعبدون بفترات زمنية أو أمكنة حلية فالحقيقة أن هؤلاء الآلهة المزعومين ليسوا إلا ملائكة أو القوى التي يستخدمها الله أو عن طريقا يتم تنفيذ إرادته، فكما هنالك الروح جبرائيل الملك الموكل بالوحي وإسرافيل الملك الموكل بالريح وخازن النار وغيرهم، كان العراقيون أيضا يعرفون هؤلاء ويقدسونهم ويتشفعون لله بهم، وحتى عندما يكتب العراقيون أسماء الله بالصيغ المتعددة تختلف الإشارة ما بينها وبين هؤلاء الملائكة.
إنليل، وعرف لاحقاً باسم إلِّيل، هو إله الريح والهواء والأرض والعواصف وسيد الآلهة كلها، رأى السومريون إنليل وتصوره إلهًا خيِّرًا وأبويًا يرعى بني الإنسان ويحرص على رفاهِهم، وقد وصفت إحدى التراتيل الدينية السومرية إنليل بأنَّه ذو جلالٍ عظيمٍ للدرجة التي جلعت باقي الآلهة لا تجرؤ على النظر إليه، ارتبطت عبادته ارتباطًا وثيقًا بمدينة نيبور المقدسة، وبعد أن سلب العيلاميون نيبور عام 1230 قبل الميلاد أخذت عبادته بالانحسار، وفي نهاية المطاف تماثل أو قُورِنَ في دوره كإله رئيسي مع مردوخ، الإله القومي للبابليين، ومع آشور، الذي أدى دورًا مشابهًا بالنسبة للآشوريين.