سليمان والعرش ومن عنده علم الكتاب في معادلة الفعل والتشكيك. (ملك سليمان) ح 17


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7878 - 2024 / 2 / 5 - 16:15
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

لوجال ... ونابو وديانة التوحيد العراقية القديمة

في كتابي الذي سبق هذا الكتاب بفترة وشقيقه المسميان "الديانة العراقية القديمة" و "اللغة العراقية القديمة" أستعرضت بالأدلة العلمية واللغوية وبالبحث التاريخي أن غالب الديانات العراقية القديمة كان أساسها التوحيد الرباني، فقد عرف العراقيون الله الجليل العظيم، كما عرفوا الأنبياء والنبوة مثلما عرفوا نوح النبي وإبراهيم مؤسس الحنفية التوحيدية الحديثة، كما أن أرض العراق كانت دوما حافلة بالكثير من الأنبياء والمصلحين والرسل، حتى أن مفهوم الدين التوحيدي لم يعرف خارج أرض العراق أبدا إلا عن طريق العراقيين ومنهم.
البعض ممن يروج لفكرة أن العراقيين كانوا عبدة المظاهر الطبيعية وأن التعدد في وضع الآلهة عندهم وتغيرات الإله المعبود هما جزء من ديانة العراقيين كما هو الحال مع المجتمعات الأخرى، هذه محاولة تزييفيه وتحريفية جاءت لتؤكد هدف زائف وغير حقيقي على أن بني إسرائيل هم أول من عرف التوحيد ومارسه في التأريخ، ولو أنا عدنا إلى ما بين أيدينا من عبادتهم خارج التوراة الغير محرفة، نجد أن هذه الديانة في غالبها شركية تعددية منحرفة، لا تعرف الله الذي يعرفه العقل السوي بأنه رب العالمين وخالقهم وراحمهم، إضافة إلى ما أرتكبه بني إسرائيل من جرائم دينية وأخلاقية عبر التاريخ، وتمردهم على الله وحتى طلبهم عبادة وثن لهم أسوة بالأقوام التي تعبد الأوثان، المهم في هذا البحث نسلط الضوء على توحيد العراقيين وديانتهم ومعرفتهم بالله والأنبياء والرسل.
فيما يلي أنشودة دينية وجدت في مكتبة اشوربانيبال وهي تتحدث عن الله صفة ومعنى ودلالة نتعبد بها إلى اليوم، النص كما يلي:.
" اللهم الذي لا تخفى عليه خافية في الظلام
والذي يضيء لنا الطريق بنوره
انك الاله الحليم الذي يأخذ بيدِ الخطاة وينصر الضعفاء
حتى ان كل الآلهة (الأرباب) تتجه انظارهم الى نورك
وشياطين الهاوية تلتهم انظارهم وجهك
حتى كأنك فوق عرشك مثل عروس جميلة تملأ العيون بهجة
و رفعتك وصلت عظمتها اقصى حدود السماء" .
هذه الترانيم أو الأدعية أو المناجاة لا يمكن أن تصدر ممن يعبد المظاهر الطبيعية، ولا يمكن فهم كيف أنه يشعر بعظمة الإله الحليم وهو يذكر حقيقتين، أن هناك رب عظيم وهناك أرباب ترنو له، وهذا الأمر موجود في الديانات التوحيدية عامة ومنها الإسلام وبين ذكره للشياطين، فالعراقي القديم بعقله ووعيه الديني كما هو العقل الديني التوحيدي الآن، يفرق بين عالم الرحمن الذي هو نور ولا يخفى عليه شيء في الظلام، وبين عالم الشياطين الذين يجرون الإنسان للهاوية ويريدون له شرا، هل من الممكن أن يعطينا أحد من الذين يزعمون أن العراقيين القدماء كانوا على دين الشرك، أن يقدموا لنا نصا شركيا وثنيا تعدديا يشبه هذا النص أو قريبا منه؟.
الوثنية كديانات تختلف عن الشركية وهذا خلط عند البعض لأنه لا يفهم المعاني الحقيقية ودلالاتها الخاصة والعامة، فالوثنية كمفهوم أوسع من عبادة مسميات دون الله (وإنما نجدها أيضا متضمَّنة في كل شكل من أشكال تقديس العالم والكائنات المخلوقة، ونجدها حاضرة في توقُّف الفكر الديني على "أنماط" من التصورات العَقَدِيَّة الجامدة التي لا تتحرك من نقطة البداية التي كانت عليها، والتي تُعطِّل سعي العقل للبحث عن معانٍ وأفكار جديدة، فتقديس الأجداد والرموز والمسميات المتعلقة بالدين أو الأحداث التاريخية ومنها عبادة الأسلاف هو شكل من أشكال الوثنية، التي نجدها لدى كثير من أتباع الأديان والمعتقدات في القديم والحديث، كذلك تقديس اللغة وعبادة حروفها هو شكل آخر من أنماط الفكر الوثني لأنها بالأخر تصرف القدرة من الخالق للمخلوق، فهذه الأنماط التعبدية مع الإيمان بوحدة الله أكثرُ خفاءً وتعقيدًا من تلك الوثنية الأُولى، فالخروج باللغة من كونها إبداعًا إنسانيًّا إلى لغة مقدسة سبقَت الخلق والتكوين، لا يَخرج في مضمونه عن معنى تقديس الكائنات والمخلوقات).
أما الشرك فهو وثنية أخرى عندما يؤمن المشرك بأن الله هو الخالق وهو المعبود الواحد وأنه خول بجزء من صلاحياته وقدرته لمخلوق أخر على سبيل المعاونة أو على سبيل التوسط، فالمشرك هو من تنطبق عليه مضامين الآية التالية (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) أو الذين أتخذوا من دون الله أندادا (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ)، هؤلاء المشركون لا يرون في المشروك به مع الله قدرة مستقلة أو طريق منفصل عن الله، وإنما يجعلون الشرك هذا وسيله من وسائل التقرب إلى الله ظنا منهم وليس جزما، إذا الفرق بين الوثني وبين المشرك يتجلى في طبيعة الأعتقاد ومصدره وشكله، وعندما نقول مثلا أن الأقوام العراقية كانت وثنية ننفي عنهم معرفة الله بالصورة التي نعرفها نحن اليوم، أما أن نقول عن ديانتهم شركية فهذا يقتضي أنهم يعرفون الله ويعرفون دين التوحيد ويعرفون الأنبياء، لكن أختاروا طريق المشاركة لسبب أو علة تعود لطبيعة فهمهم الخاص.
الوثنية إذا تتجلى في أن معتنقيها لا يتفقون على مبدأ واحد طالما أن مبدأ العبادة عندهم متعلق بأختيارات وليس بمبدأ كما في الشرك، وهم عادة لا يتوجهون نحو قوة واحدة لعبادتها خاصة إذا كان الرمز المعبود لا يحظى بمشاركة كبرى وعامة، وبذلك يمكن للجماعة أو المجامع تقف مرة واحدة عند منطقة أو نقطة مشتركة لتنطلق منها، فطالما أن الأمر يرجع في كل مره إلى الفردانية في تكوين أطر الإيمان، وبالتالي تتفرق الجماعة وفقا لتفرق المفاهيم داخلها، وهذا لا يحدث في المجتمعات الصغيرة والمتقاربة عادة لكنه ممكن الحدوث في مجتمعات متباعدة ولها نظم ورؤى وأفكار تتأثر بعوامل شتى.
هذا المنطق يتساوى ولا يتعارض أيضا مع منطق أخر يقول أن (الدين ليس مجرد فكرة تولد عند أشخاص وقد لا تكون قابلة للأنتقال إلى غيرهم، بل هي في الأصل تراكم معتقدات لها من الصحة والقناعة بها نصيب يجعل التعامل معها مقبولا ومنطقيا أيضا)، بمعنى أن الدين إرث جماعي للمجتمع ساهم الجميع في تكوينه وإحداثه بعيدا عن البذرة الأولى، فالوثنية التي نعرفها كمفهوم ديني ولغوي ينحصر في الديانات الطوطمية التي بقيت ملازمة وثابتة على ديانتها الأولى دون أن تفكر أو تمتحن المعتقد مع التبدلات الكونية الفكرية والعلمية، هذا ما يجعلها محصورة في مناطق وحدود ضيقة ثابتة لا تتغير ولا تساعد على التغير والتطور، مع أنها أشتركت في الأصل مع مجتمعات تطورت وتغيرت وبنت حضارات وقيم ومعارف إنسانية على مر العصور.
في العراق القديم ومنذ فجر الحضارة العراقية ما قبل عصر العبيد وبروز السومرية كواقع ثقافي وحضاري وديني ولغوي وأجتماعي كان العراقي القديم مؤمنا بأن الله الذي هو في السماء البعيدة خالق ومتحكم وصانع للمصائر، دون أن يمروا بمرحلة الطوطمية الوثنية مثلا، أو لم يتخذوا من أسلافهم ألهة كما عند بعض المجتمعات، بل كانت عبادتهم تعرف الله وتعرف أن الله يتصرف معهم من خلال أدوات وأجهزة وكائنات ومخلوقات، فقرروا التقرب منها ليس لعبادتها للأجل عبادتها الذاتية، لكنها كانت الوسيلة المتوفرة عندهم لطلب رضا الله، طبعا هذا التأويل بالرغم من أنه في كثير من زواياه جاء أسترضاء للذين يقولون أن الأقوام العراقية مثلا عبدت الشمس أو القمر أو الريح، مع يقيني الجازم أنهم لا ولم ولن يعبدوها بهذا العنوان، إنما عبدوها كمخلوقات أقرب لهم منهم لله، هذا بالتأكيد موجود في كل النصوص الدينية التي دونها شعب العراق القديم.
فلنقرأ النص التالي مع الإشارة أيضا إلى أن الترجمة توراتية، يعني أن من نقل لنا النص أيضا دس أنف التوراة فيها ليحرفها عن المعنى الحقيقي وبالقراءة العراقية لفظا ومنطقا:.
في العُلى عندما لم يكن للسماء اسم بعد
و في الأسفل عندما لم يكن للأرض اسم بعد (قبل التكوين)....
صنع مردوخ "........" منازل الآلهة (منازل النجوم)....
وخلق الابراج
ثبتها في أماكنها و حدد الازمنة
وجعل السنة فصولاً
وجعل لكل شهر من الأشهر الاثني عشر أبراج
وحدد الايام بأبراجها
و ثبت الابراج
فلا يجهل نجم عمله ، ولا برج وظيفته
وإلى الشرق والغرب فتح بوابة ( انليل و آيا)...
وسلط إله القمر على الليل (كوكب القمر)...
وجعله زينة في الليل
به يعرف الناس موعد الايام
و عندما يبدأ الشهر، يطل القمر ويحدد الاسبوع
و بعد اسبوعين وفي نصف الشهر
يواجه الشمس فيكون بدراً
و ينحسر ضوء الشمس عن وجهه و يصفر،
يدركه المحاق فيعود ثانية إلى الارض....
هذا النص بما يحمله من معاني مع أن عمره يزيد على أربعة ألاف سنه قبل الميلاد وقبل أن يعرف البعض معنى الأديان التوحيدية، نجده يطابق تماما النصوص الدينية المنزلة وحسب أعتقادنا من السماء على أنبياء ورسل، بما فيها نصوص القرآن الكريم .
هذا ليس نموذجا متفردا ولا هي حالة أستثنائية بقدر ما كان ذلك كله عبادة شائعة ومتأصلة عند كل الأقوام العراقية القديمة، ولنعود إلى نص أخر أشار له الباحث غراس السواح ضمن مجموعة أخرى من الإبتهالات الدينية التوحيدية، مع يقيننا الدائم بأن الترجمات لها كانت غير موضوعية وغير مطابقة للنص خاصة عندما يشير إلى أسماء الأعلام، فقد أور السواح هذا النص المفعم بروح التوحيد والأعتراف بالله (فقد عثر المنقبون على ترتيلات دينية تمجد المعبود "سن" والغريب أنها تضمنت نفسا توحيديا تعود إلى عصر أور الثالثة السومرية ومنها ما عرفت بأسطورة "نانا") :
أيها الرب، بطل الآلهة... "إله الآلهة"
ومثلك المعظم في السماء والأرض.
أيها الرب "نانا" رب أنشار بطل الآلهة.
أنت الوالد المسامح الرحيم في قضائه.
أيها الأب الذي أنجب "خلق" أو "جعل" الآلهة والبشر.
أنت من يقرر المصائر إلى نهاية الأزمان ....
وفي ترتيلة أخرى عثر عليها في مكتبة آشور بانيبال نسبت إليه وهي صلاته كانت تتلى في الثالث عشر من كل شهر قمري لجلب البركات والغفران تضمنت هي الأخرى روحا توحيدية مجدت المعبود "سن" أي "سن" ـ أي " نانار"
أيها االله الممجد ...
يا " سن" ـ الفريد "الواحد" الذي يزود البشر بالنور ...
ويوجه خطى ذوي الرؤوس السود ...
نورك يملأ الأرض الواسعة ...