سليمان والعرش ومن عنده علم الكتاب في معادلة الفعل والتشكيك. (ملك سليمان) ح 15


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7873 - 2024 / 1 / 31 - 00:53
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

ملك سليمان بين وهم التحريف وشيوع التخريف

قبل إعادة بناء الرواية كما هي حدثت ووفقا لما جاء أولا بالنص الديني التوراتي والقرآني، لا بد أن نفك الأشتباك الحاصل بين النصين، ثم فك الأشتباك بين الخرافة والحقيقية ثم الفصل ما بين التحريف والتزييف وبين ما هو عقلاني ومنطقي، لنبدأ بعدها فك الأشتباك والتناقض بين المدونات الآثارية وما ذكرته الدراسات من قراءات وتحليلات بعيدا عن الأهداف الأيديولوجية والرغبات الشخصية، وبين جملة من الحقائق المنطقية التي ينبغي للبحث العلمي التقيد بها، وهي، أولا _ ليس كل ما وصل إلينا يعد نهائي وتام وكامل، لأن ما أكتشف حتى الآن أقل من القليل الذي لا يغني، ثانيا _ أن ما وصلنا لم نقرأه بلغته الأصلية نطقا وتهجيا ودلالات ومفاهيم، ثالثا _ كل ما وصلنا حقيقة ستبقى قراءات ظنية بالغالب أو أحتمالية بقدر عال جدا لم يجمع عليها من بحث ودرس وقرأ، ولم تحصل على أتفاق عام لا على المضمون ولا على الحدث وسيرورته وأشكاله، إذا نحن نسير في أرض ملغومة لا يمكن الجزم بالنجاة منها ما لم نتأكد تماما أن لا وجه أخر للحقيقة غير ما وصلنا، وهذا شديد المحال حتى تخرج الأرض أثقالها.
من المحزن جدا أيضا أن الكثير مما يمكن أن يفصح عن جزء كبير من الحقيقية ما زال متحفظا عليه في الجامعات الغربية ومراكز البحوث ومحتزن المتاحف، هذا يحرمنا من الإطلاع على نسبة عالية من الأحداث والتواريخ والشخصيات التي لو تم قراءتها جميعا قد نجد أنفسنا أمام حقيقة مهولة ونطق تأريخي فريد، أما القضية المحزنة أكثر فهي أن البلاد التي حملت كل هذا الإرث التاريخي المجيد ما زالت أمية في قراءة تأريخها والبحث عنه بروح الأنتماء للأرض، وحتى من قرأ منها فهو يقرأ بلسان الغير وينظر بعيون أخرى لا تنتمي للأرض، ويتعقل بعقل من زرع في عقله أوهام وخرافات لها جذر إيماني قديم يريد أن يمحو تأريخ حقيقي ويصنع تأريخ بديل، هذا الأمر ليس حكرا على الباحثين اللغوين ولا الأركولوجيين، بل يتعدى في شموله حتى رجال الفكر الذين يقرأون القرآن بعقلية توراتية تلمودية، ويحرفون الفهم لأجل أن لا تسقط التوراة في حقيقتها الزائفة.
المقدمة الثالثة التي لا بد لنا من المرور بها وإدراكها جيدا وهي أن الدين والأنبياء والرسل من الحقائق التأريخية التي يحاول البعص إلغائها من قوائم التأريخ، بحجة أن أسماء الأنبياء والأحداث التي ذكرت في النصوص الدينية لا وجود لها في المدونات المنقوشة، أو على المنحوتات والكتابات الآثارية التي أستخرجت من مواقعها ومن الدفائن، مثلا لم تذكرها الأحداث التأريخية ولم يشتهر العالم القديم إلا بالديانات ذا التعبدات القائمة على تعدد الآلهة، هنا لا بد لنا أن نثبت النقاط التالية تفسيرا وتعليلا لما حصل:.
• لو لم يكن الدين موجودا وخاصة ما يعرف بالأديان السماوية فكيف ولدت تأريخيا ووصلت إلينا، فمن يزعم أن هذه الأديان كتبت أو رتبت في وقت أخر فليتفضل ليدلوا بدلوه العلمي مع الحجج والأسانيد التأريخية، فلا يكفي الإنكار بلا دليل مقنع، ولا يمكن إلغاء تاريخ عميق لمجرد أننا لا نريد أن يكون ضمن رؤيتنا التي لم نشهدها أصلا، ولم نكن جزء من واقع تأريخ مضى وترك لنا إرثا ثقيلا محملا بالكثير الذي لا يحتمل.
• إن ما كتبه المؤرخون في الماضي غالبا جاء لتمجيد الملوك والسلطة ودين الطبقة العليا وثقافتها وشكل إيمانها، وعلى مر التأريخ كانت السلطة دوما ضد حركة الأنبياء والرسل، ودخلت معهم في صراع إقصائي، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تسمح هذه السلطة الطاغية والمتجبرة أن تدون وجود ظاهرة الدين السماوي، وحركة الأنبياء والمصلحين وأفكارهم ونضالهم من أجل الحق والعدل وإشاعة عبادة الله وحده، هذا لا يعني أبدا أن بعص المدونات جميعها لم تتطرق لبعض الحالات عنهم وأرخت بعضا منها، زمنها ما ذكرته الكتابات البابلية والمدونات عن شخصية "مسلم أو مسيلم" في تأريخ العراق والتي حرفها البعض على أنه ملك بابلي قديم، لقد ذكرت وجود إبراهيم النبي والمصلح الذي كان شخصية دينية محترمة ليس في بابل وحدها وتعدى أثرها إلى خارجها.
• والأهم في كل ذلك أن اللغة والترجمة وقراءة الحرف بلغات الباحثين قد شوه الكثير من المسميات وأخرجها من دائرة المعنى الحقيقي، لتحل محلها تسميات ودلالات أعتباطية غير حقيقية، فمثلا الملك البابلي العظيم جل خامس، أي العظيم الخامس فكلمة "جل" أو "كل" بالكاف المعجمة ومثال كال أو جال مفردة عراقيلا قديمة أنتقلت من اللغة العراقية إلى الكثير من اللهجات والألسن بمعناها ومنها لفظ جل جلاله _ التي تقترن مع أسم الله العظيم، لتعني العظيم المعظم، حيث لم يعرف النظام السياسي العراقي وفي المنطقة عموما لفظ ملك أو أمير، بل الكلمة السائدة والمنصب المرموق هو "الجل أو الجال" كما هو وارد في كل الكتابات والنقوش السومرية والأكادية والبابلية والأشورية، فتحول الجل الخامس أي عظيم بابل الخامس إلى "جلجامش" تحريفا عن جهل وربما عن قصد.
• أيضا هناك مشكلة التأريخ وحساب السنوات بالطريقة التوراتية، وتحديد المدد التي بنيت أغلبها على الرواية التوراتية التي أرخت أحداثا وأزمانا لتتوافق مع منهجها في تحديد ما تريده، بالرغم من بعض التواريخ من الغير المسلم بها أو المقبولة عقليا ومنطقيا أن تكون بهذا الشكل، أيضا هناك تحريف متعمد فيما يخص سرد الأحداث وتفاصيلها والوقائع الأمكنة التي ما زال الباحثون ومنهم من ينتمي لنفس مدرسة التوراة ومنهجها، لم يحصل على دليل واحد على صدقيتها أو واقعيتها، منها مثلا عدم وجود أثار حقيقية لملك سليمان في القدس ولا للهيكل المزعوم ولا للصرح الممرد من قوارير، ولا حتى لوصف ملك سليمان وسعته وأمتداده وتطابقه مع حدود الدولة اليهودية أو الدولة العبرية الموحدة، لا وجودا ولا تأريخا ولا حتى أي دليل يثبت قيامها بالشكل الوارد سردا في نصوص التوراة والأسفار الملحقة به، ومنها أيضا بالتحديد ولادة داوود النبي والملك ولا سليمان ولادة ولا وفاة ولا مدة حكم ولا أي تفاصيل يمكن الوثوق بها.
• من المهم أيضا التفريق في المصطلحات والأسماء والشخصيات وردها للدلالات الحقيقية التي أستخدمت من أجلها، فمثلا التفريق ضروري جدا بين العبرانيين واليهود وبني إسرائيل على مستوى الدلالة والإشارة، ولماذا يفرق هؤلاء أنفسهم عندما يتسمون بإحدى التسميات، فالعبرانيين هم فقط ذرية من أخوان يوسف الذين جاؤوا من البدو بالقصة المعروفة، فلا يعقوب ولا أخوته ولا أبناء إبراهيم عبرانيين، فقد أسماهم المصريون بالعبرانيون لأنهم وفدوا لهم من العبيرو التي هي القبائل البدوية التي تعبر الحدود مع المصريين أو الذين يمتهنون مهنة السلب والنهب وقطع الطرق، هذا لا يعني أن كل القبائل البدوية يجب أن يقال لهم عبرانيون على رأي أحد الباحثين، لأن التسمية محلية فقط لمن يدخل أرض مصر من جهة العبيرو أو الخبيرو.
ثانيا بني إسرائيل هم ليسوا أبناء يعقوب بالمطلق وفقا للرواية القرآنية وحتى الرواية التوراتية، ويعقوب ليس إسرائيل ولم يسميه الله كما تزعم التوراة بإسرائيل، الموضوع في مجمله أن إسحق قد أنجب ولدين هما يعقوب الذي جعل الله فيه النبوة بالنص عليه وببشارة الله لجده إبراهيم (وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) ﴿١٣٢ البقرة﴾، وسماهم النص القرآني بأل يعقوب حصرا وتفريقا عن بني إسرائيل (وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ﴿٦ يوسف﴾، والأبن الأخر هو المسمى "عيسـو" الذي خصه الله وذريته بالنقابة والوراثة من أل يعقوب بعد إنقراضهم، وهي منزلة دون النبوة التي حصرها الله بذرية يعقوب، والدليل في الآيات التالية (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ ...) ﴿١٢ المائدة﴾.
(مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ .....وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) ﴿٣٢ المائدة﴾.
(لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ۖ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) ﴿٧٠ المائدة﴾.
هذه النصوص التي تخص بني إسرائيل لا يمكن أن تتوافق مع الجعل الرباني الذي خص به أل يعقوب وتزكيته لهم وعهده إياهم (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) ﴿٢٧ العنكبوت﴾، من هنا علينا إذا التفريق بين بني إسرائيل وأل يعقوب ومن يدمج الأثنان بمسمى ودلالة واحدة، فنسأله أيضا ما حكم أبناء "عيسو" الأخ الشقيق ليعقوب وهو من ذرية إسحق أيضا، ولم يتم لهم ذكر أخر خاصة وأن إسحق وإسماعيل الشقيقين قد فصل الله ذكرهما وبين للناس منزلتهما وتأريخهما.
أما موضوع اليهود فهي التسمية الدينية لكل من أمن برسالة موسى وبقي على دينه وهاد لله بعد أن أضلهم السامري، أما قبل ذلك فلم يكونوا يهودا بالمعنى الحرفي، فاليهودية هي العقيدة التي أتخذها الملأ من بني إسرائيل بعد الخروج من مصر وقصة السامري والعجل، وما قبل ذلك فقد كانوا على ملة إبراهيم حنفاء لله مسلمين.
• النقطة الأخيرة والتي يجب مراعاتها بحذر وتدقيق بالغين هي أن نستخدم أسلوب المسامحة مع الأخطاء البسيطة خاصة فيما يتعلق بوقائع تأريخية ليس لدينا فيها أو عليها دليل حاسم أو جازم، فهناك الكثير من القضايا مرت من تحت عباءة المسامحة، ومنها مثلا أن بني إسرائيل جميعا أمنوا بموسى وخرجوا معه، والحقيقة التي لا ينكرها نص التوراة وأكد عليه القرآن أن ن خرج مع موسى هم الأقلية التي كانت تمتلك حرية الخروج، أما الأكثرية من بني إسرائيل بقوا في مصر (فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ۚ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) ﴿٨٣ يونس﴾، وهناك الكثير من القضايا التي غيرت مجريات الحدث التأريخي نتيجة هذه المسامحة أما إفراطا في تقديرها أو تفريطا في أهميتها.
إن الأهتمام بالنقاط أعلاه يمح لنا الفرصة الجيدة لنرى الحدث وتصوره وفقا لأثرب الصور عن حقيقته إن لم تكن مطابقة بالشكل والمضمون، على أن يستمر البحث العلمي والتاريخي الجاد لتحسين هذه الرؤية وإكمال النقاط الغير واضحة تماما فيها، هنا علينا أن نؤمن بحقيقة إيجابية أن العقل الإنساني لا يمكنه الركون لصورة ما حتى يبحث ما حولها وما فوقها وما تحتها فضولا وزيادة بالمعرفة، هذه الروحية ستبقى المحرك الدائم للعقل البشري ليفهم ويتسامى في فهمها، حتى يصل إلى درجة من اليقين التي قد لا يستطيع العقل تخطيها |لأسباب تتعلق أصلا في إمكانية العقل البشري ذاته أن يستحضرها في جميع المجالات، خاصة التأريخية والتاريخ التي والذي لا يمكن أن نعيده بنفس الصورة والمضمون والأشخاص لأنه ذهب وترك لن الأثر فقط.