سليمان والعرش ومن عنده علم الكتاب في معادلة الفعل والتشكيك. (ملك سليمان) ح 13


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7861 - 2024 / 1 / 19 - 22:48
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

في المقابل مثلا نجد أن اللغة الامورية لغة عراقية قديمة تشبه اللغة الأكدية وذلك لان كلتاهما من أصل واحد، وهي كذلك تشبه اللغة الكنعانية الجنوبية والغربية مع اختلاف بينها في (النطق)، وكلتاهما من فرع كتلة اللغة المسماة لغة الناجين من الطوفان بنطقها الغربي الشمالي كما نجد اليوم نطق أهل حديثة مثلا في العراق وحلب في الشام والموصل، بينهما مشتركات بالنطق بحرف أو مجموعة حروف لكنها أساسا ي عربية الجوهر والمفردة والنظام والنحو، ولكنهم أي الآموريين لم يدونوا بلهجتهم الامورية المحلية بل دونوا باللهجة البابلية المنحدرة من الأكدية، ولم يترك الآموريين لنا تراثا لغويا أو كتابات يعتد بها باستثناء أسماء الإعلام وبعض أسماء الإلهة.
من الثابت الذي عرفه المنقبون والآثاريون والذي أكدته الشواهد التأريخية المنقوشة على الحجارة، والتي لا تكذب بقدر ما كذب المترجمون والناقلون عنها، أنه من المؤكد "لا تختلف الديانة الأمورية عن الديانات العراقية والجزرية وعموم أديان المجتمعات الاخرى في المنطقة" والتي كانت شبه شائعة أيضا بين البدو الرحل في بادية الشام وحواليها، والتي دارت حول عبادة قوى الطبيعة وتشخص الآلهة بهيئة ذات صفات آدمية، وكان العمود المقدس يمثل إله القبيلة حيث تقام هذه الأنصاب في أماكن محددة كالكهوف مع مذبح أو حجر تقدم عليهم القرابين.
وأيضا في عصر سلالة أور الثالثة (2113-2006 قبل الميلاد) ازداد تواجد الآموريين في سوريا وجنوبا نحو الصحراء وشرقا نحو الممالك العراقية، واصبحوا يشكلون تهديداً على المملكة حتى اضطر الملك شو- سين إلى بناء جدار بطول (280كم) لصدهم اسماه سور المارتو، ويقع الجدار أو السور بالقرب من أور الحالية بين السماوة والناصرية، وفي عهد أخر ملوك سلالة أور الثالثة ايببي سين، جاءت موجة جديدة من الآموريين تمكنت من اختراق السور واستطاعت مع العيلاميين أن تسقط سلالة أور الثالثة، وعلى أثرها كون الأموريين خلال العصر البابلي القديم في بلاد الرافدين عدد من السلالات الحاكمة اهمها "ايسن، لارسا، اشنونا، ماري، اشور، بابل، سيبار، اوروك"، أما في سوريا كونوا ايضا عدة كيانات سياسية منها "مملكة يمخد، وقطنا، والالاخ".
كم هذا يتضح أن الآموريين لم يكونوا من خارج سكان المنطقة ولا يعرفون أصلا ولا لغة ولا ثقافة ولا دين غير أنهم جزء من عالم الشرق القديم بأصوله التاريخية وديانة المنطقة ولغتها وعاداتها، إن الإشارة إلى الآموريين على أنهم ساميين أو غير سامين تنفيها الوقائع الحقيقية على الأرض خاصة، وأن هذه التسمية أبتكرها وروجها ورسخها عبلا فعل ديني غيبي يراج منه أن يكون جزء من ذاكرة تاريخ مزيف ومحرف لأهداف لا إنسانية، ما كانوا أولئك إلا مجموعة من الأخلامو أو العبيرو المرتحلين بين الأقوام والجماعات بحثا عن ملاذ أمن لهم ولليوم يتشبثون بكل كذبة من هذا التاريخ الملوث بالكراهية التي لا تعرفها شعوب وجماعات الشرق القديم، فهم وما يسمون بالكنعانيين والفلسطينيين والفينيقيين والعبرانيين وحتى ما عرف لاحقا من ممالك وأقوام في جنوب الجزيرة العربية غربها وشرقها وجنوبها هم في الأصل جذر جنسي واحد أصلهم بقايا شعوب نجت من الطوفان أو لم يصلها وكانوا هم وقوم نوح مجموعة عرقية واحدة تفرعت من مصدر واحد.
نبدأ بحثنا بعد الآموريين بالكنعانيين أو سكان "كور كنع" الذي سكنوا قديما "أرض كنع" أو أرض الجنوب أو الأرض المنخفضة، وهو تعبير جغرافي أطلقه السومريون على مناطق جنوبهم الجغرافي، وهناك فرضيتان حول اصل تسميتهم هي: أن "التسمية أصلا اشتقت من الكلمة السومرية القديمة ذات الجذر كنع والتي تعني الأرض المنخفضة أو الواطئة، فيكون معنى الدلالة والإشارة إلى الكنعانيين بأنهم أهل الجنوب، ما يعزز هذه الفرضية ليس فقط أن السومرين ذكروا ذلك، بل أن المصريين القدماء يطلقون مصطلح (بي – كنع) الجغرافي للدلالة على المناطق الجنوبية والغربية لبلاد الشام بطل ما فيها من أقوام وتجمعات سكانية، وأصبح لفظ كنعان والكنعانيون يطلق على المنطقة السورية - الفلسطينية لاحقا قبل مجيء الآراميين إليها.
أما ما ساقه البعض بالرغم من قوة ورسوخ الأحتمال الأول وثبوته، هو أن التسمية اشتقت من أصل غير خارجي دخيل من لغات وثقافات أخرى بما يعني لو صحت الدلالة فهي رؤية وفكرة الأخر البعيد وليست من بيئة المكان والزمان، فهم يفترضون أن كنعان مشتقة من الكلمة "الخورية" كيناخي/ كيناخني التي تعني الصبغ الأرجواني (القرمزي) *، مع أن الكنعانيين أقدم تأريخيا في المنطقة من الأقوام الخورية ولا رابط بينهما لا في الواقع ولا في التواصل الحضاري، فيكون الأشتقاق مع ضعف دلالته اللغوية التي تشير لمعنى ما، فالأشتقاق هذا لا يوحي بشيء من خلال اللون القرمزي على ما يخص الكنعانيين، أو صفاتهم أو شيء يرتبط بهم ويشار له باللون الأحمر أو القرمزي.
يرى الدكتور أ. د. زيدان عبد الكافي كفافي من قسم الآثار- كلية الآثار والأنثروبولوجيا جامعة اليرموك إربد - الأردن في بحثه الموسوم (فلسطين بين التوراة والآثار في العصر الحديدي الأول)، من أنه (يجادل كثير من الباحثين أن الكنعانيين خرجوا من الجزيرة العربية إلى شماليّها، لكن وحتى الآن، لم تؤكد هذا الأمر أو تنفيه المصادر والوثائق التاريخية المكتوبة(Lemche 1991: 25) ، غير أن النصوص التوراتية أشارت إلى ان الكنعانيين كانوا العنصر الأساسي بين سكان فلسطين (يوشع 13: 4 ؛ العدد 13: 29). وأطلقت التوراة، على سبيل المثال، اسم "ملك كنعان" على حاكم مدينة تل وقاص "Hazor ،الواقعة في سهل الحولة بشمالي فلسطين (القضاة 4. 2 : 23-24 )، كما يذكر عمر الغول (2016:15) أن عدد الشواهد التاريخية على وجود الكنعانيين لا تزيد على الأربعين شاهداً متفرقة زمانياً ومكانياً، مما دفعه للقول "ولا توافينا بصورة واضحة المعالم عن حضارة ذات شخصية متكاملة الهوية في اللغة، والديانة، والعمارة، والفخار، وبناء المدن) .
هناك الكثير من الحقائق والدلائل التي تساق من أجل تعزيز هذا الأعتراض أو نفيه، لكن لا يوجد هناك رأي حازم وحاسم معزز بالدليل الذي لا يقبل النقض أو يعطي قرارا قطعيا ونهائيا، يؤكد أن الكنعانيين أو ما عرف لاحقا بالكنعانيين هم أبناء حام بن نوح أو هم من غير سلالة سام، هذا الفهم والنسب صنعته المخيلة المريضة للفكر الديني العنصري، فملا من سام وحام هما أولاد نوح ونوح من سلالة آدم **، وكل ما عدا ذلك هي أوهام وخيالات لا تجد لها ما يعزز من كون حام أو أولاد حام يجب أن يحملوا تحولا جنسيا ووجوديا مغايرا عن السيرورة الطبيعية لقوانين الوراثة والسيرورة التي وصفها الله بـ "سنة الله"، فكلنا أولاد نوح خصوصا من الذين نجوا من الطوفان، حتى وإن كنا أبناء أخرين لنوح بالنتيجة كلهم تفرقوا من مكان واحد وأنتشروا في الأرض المجاورة بسبب رغبة أبيهم في إعمار الأرض أو نتيجة للتزاحم الطبيعي على الملكية والحاجة ونوازع البقاء، فمنهم من عاد لأسباب عدة منها المجاعات والظروف المناخية والنزاعات ومنهم من بقى وأسس وجودا مستقلا له في مكان أخر.
الملخص الذي نريد أن نصل إليه قبل أن نعتمد على كتابات تأريخية هي بحاجة للدليل بكونها حقيقة أو بكونها مجرد كتابات أستغلت غياب التدوين الحقيقي والمحفوظ لتنشر أفكارا منحرفة ومريضة وليس لها هدف سوى بث الكراهية والأحقاد بين الناس، في حين أننا نجد الكتابات التدوينية على النصب والصروح والحجارة وغيرها من وسائل التدوين القديمة والتي كتبت في تأريخها دون أن تحمل أهدافا غير التوثيق، تكذب الكثير مما أوردته التوراة والتاناخ والتلمود من تزييف وتحوير وتحريف إيديولوجي أو فكري مستهدف لذاته.
عموما المراحل التأريخية المشتركة في المنطقة تشير بما لبس به ولا شك، من أن "حركة الشعوب" في المنطقة الممتدة اليوم من شمال شوريا والعراق ووصولا لأواسط الجزيرة العربية وجنوبها، ومن جبال زاجروس شرقا حتى حدود النيل غربا، كانت تشير لحركة مستمرة من الانتقالات والتبدلات المكانية المتبادلة من هنا إلى هناك وبالعكس، هذا الأمر ليس حكرا على طبيعة المنطقة وسكانها بالذات، بل هي سنة بشرية ومجتمعية تحدث تحت ضغط وعوامل ومسببات تبدلات المناخ، وتبدلات الواقع السياسي والعسكري في مناطق عدة، كما أنها مرتبطة أولا وأخيرا بالحاجة للغذاء والماء والكلأ الذي هي أهم متطلبات الحياة لمجتمعات خرجت أصلا من حالة البداوة إلى مرحلة التحول الحضاري المستقر نوعما.
يرجح بعض المؤرخين وبناء على متبنياتهم إن مبدأ ظهور الكنعانيّين الواضح كشعب أو مجموعات متماثلة ذات سمة تاريخية خاصة في بداية عصور ما قبل التاريخ، في الفترة التي تُعرَف باسم العصر الحجري النحاسي المُمتدّة من عام 4000- 3000 ق.م، أي أنّ هذه المرحلة استمرّت قُرابة ألف عام، ومنهم خزعل الماجدي الذي يرى في الهجرة الكنعانية من الجزيرة العربية كأكبر هجرة تأريخية حدثت نحو الشمال والشمال الغربي، بالطبع هذا التأكيد له دوافع وأصول تعزز من مبدأ أن الكنعانيين ليسوا من أهل المنطقة ولا من سكانها وأنهم قبائل غريبة لا يحق له أي إدعاء تأريخي مقابل حق العبرانيين الذين في رأي خزعل هم سكان المنطقة الأصليين.
أما المرحلة الكنعانيّة في نظر بعض المؤرخين هي المرحلة التي بدأت في الفترة المعروفة باسم العصر البرونزيّ، الممتدّة من عام 3000-1200ق.م، وقد بدأت هذه المرحلة بهجرة الكنعانيّين إلى بلاد الشام وبشكل خاص الجهة الشرقيّة من البحر الأبيض المتوسّطـ، أي هجرة داخل المنطقة التي أستقروا بها بعد خروجهم من الجزيرة أو ساحل الخليج، حيث استقرّوا جنوب بلاد الشام في أرض فلسطين في أول الأمر قريبا من الصحراء وعلى أطراف سكن أقوام أخرى سبقتهم، وعندما تكاثروا وأزدادوا عددا وتوسع مجالهم الحيوي ولم يعد المكان يسع، قرروا بعد أن أمتلكوا القوة المادية والعسكرية والعددية أن يتنافسوا على المكان الأكثر رفاها والأكثر قدرة على تلبية حاجاتهم الأساسية.
هناك من المؤرخين من يشير إلى تحول في جزء من تأريخ الكنعانيين عندما سكنوا شواطئ المتوسط وقد غلبوا على سكانها الأصليين أو أندمجوا معهم، فشكلوا وجودا أخر أشار إليه البعص بمسمى "مرحلة الفينيقيّين"، حيث أصبح بعض الكنعانيّون في هذه المرحلة يُعرَفون باسم الفينيقيّين إشارة للصناعة التي أشتهروا بها أو لما كان يرفعه هؤلاء من رايات على سفنهم التي تسيدت منطقة شرق المتوسط ، حيث ملكوا وأسسوا حضوريا أجتماعيا وبشريا ونقلوا حضارة وثقافة وطوروا وأندمجوا مع حضارة وثقافة الشواطئ الشرقيّة للبحر الأبيض المتوسط، وقد وافقت هذه المرحلة العصر الحديدي الذي امتدّ بين عامَي 332-1200ق.م.
أما ما يقال عن مرحلة التوسع خارج إقليم الشام والأراضي العالي وهي ما تعرف بالمرحلة البونيّة والقراطيميّة، والتي يقصد بها المرحلة التي هاجر فيها الفينيقيّون الغربيّون من بلاد الشام إلى سواحل وجُزر البحر الأبيض المتوسّط في أوروبا وشمال أفريقيا، وقد كانت هذه المرحلة معاصرةً وأمتداد للمرحلة السابقة مرحلة الفينيقيّين، إذ امتدّت بين عامَي 146-1200ق.م.
من خلال قراءة بعض ما كتبه المؤرخون المهنيون وما يمكن أستنتاجه حتى من كتابات التوراة أو المصادر التي جعلة منها أساسا للرؤى، نجد بعض الحقائق التي لا بد أن تثبت هنا ونقولها بثقة مطلقة، أن ما يمكن قراءته من طيات التأريخ هو المنطق الطبيعي لسيرورة الأحداث ومتلازماتها الطبيعية ومنها :.
• أن غالب التسميات التي أطلقها البعض على أمم أو جماعات على أنها عناصر بشرية مختلفة الأصول والروافد الجنسية، ما هي إلا قبائل وجماعات ترتبط بأب واحد أعلى وليسوا شعوبا مختلفة *** ، فالكنعانيون والعبرانيون والآمورين وغيرهم قبل أن يشكلوا المجتمعات الكبيرة، هم قبائل وأجزاء قبائل، تتحالف فيما بينها مرة وتتقاتل فيما بينها مرة لأسباب كثيرة ومعروفة، ولكنها جميعا تعود لأب واحد، وهؤلاء الأباء جميعا من نسل واحد غالبا أما ممن نجوا من الطوفان مع نوح أو من الذين لم يمر الطوفان في أراضيهم، وكلا المجموعتين من أصل وبيئة واحدة، لاسيما إذا علمنا أن الطوفان كان محدودا بقوم نوح وعشيرته التي عاصرت وجوده فقط، ولم يتعدى الطوفان حدودهم الحضرية ولا المكانية، وبالتالي فهو حدث محلي وليس ظاهرة كونية أو واسعة حتى تمحوا أجيالا وأمما أخرى.
• كان الكنعانيون وغيرهم من القبائل المتنقلة وقبل أستقرارهم الدائمي، ينتظمون في جماعات صغيرة على رأس كل منها رئيس أو جل أو زعيم وصل إلى رئاسة المجموعة والحكم لأنه ينتسب إلى كبار الإشراف أو الملاكين، ولذا كانت طبيعة دولهم أو ما يعرف بالممالك الصغيرة المنتشرة في أماكن متفرقة، تشبه نظام دويلات المدن في الحواضر الثابتة، الفرق بينها أن دويلات المدن تنتسب للمدينة أما ممالك القبائل فتنتسب للجد البشري، اذ كانوا منقسمين إلى وحدات أو دويلات صغيرة تتنازع وتتشارك وحسب المصالح التي يراها الحكام، وكان التطور الأهم بعد الأستقرار في مراكز سكانية محمية، هي أن مركز كل دويلة صار مدينة مهمة محصنة ذات قلاع وحصون لدفع الخطر، وعندما كانت المدن الكنعانية مثلا تواجه خطر خارجي أو تتعرض لهجوم عسكري، تُنشأ تعاون فيما بينها وتشكل أحلاف تتزعمها أكثر المدن قوة المدن، كما هو الحال في زعامة مدينة اوغاريت في أواخر القرن السادس عشر قبل الميلاد، وزعامة مدينة جبيل في القرن الرابع عشر**** .
• يقول الباحث التأريخي فاضل الربيعي في مقالة له منشورة على موقع الجزيرة بعنوان "التاريخ المسكوت عنه" بتاريخ 10/9/2017 عبارة جدا بليغة تفسر ما أقوله الآن، ولماذا يسكت البشر عبر هذا الزمن الطويل على الافتراءات التاريخية التي دونها كهنوت ورجال دين عن تاريخ أمم وشعوب لم يعاشروها ولم يطأ أرضها ولم يكلفوا أنفسهم بالبحث الميداني الموقعي، وكل مصادرهم هي أفكارهم الظنية وتأملات ذات وقع أيديولوجي مختار ومطلوب بذاته، العبارة تقول " لقد جرى تمرير خدعة كبرى، هيمنت على عقول ملايين البشر طوال القرن الماضي، ولا تزال رجاتها الأولى، تشيع الذعر من أي محاولة لكسر الصمت وكشف التضليل"، فالتضليل المقصود عندما نسبوا الحضارة إلى جنس البشر دون أن يقدموا رؤية بحثية عملية عن سبب أختلاف هذه الحضارات، أو الأسباب التي جعلت من هذه الحضارة تختلف وتتميز عن تلك الحضارة، وقالوا أن ذرية سام مؤهلين خلقيا للحضارة وما عداهم مجرد مقلدين أو مستنسخين، الحقيقة التي لا يريدها هؤلاء أت تظهر كقاعدة العامة أن أسباب الأختلاف بين الحضارات البشرية يعود لثلاثة مرتكزات أساسية، هي "الدين" و "اللغة" و "البيئة" وما عدا ذلك تكون الحضارة مشتركة ما لم تتفرق للأسباب أعلاه.
فالحضارة الفارسية مثلا التي جاورت الحضارة العراقية القديمة كانت رمز عبادتها ومحور الفكر الديني فيها "النار" في ثنيوية النور والظلمة، بينما عبادة العراقيين كانت مشخصنة بآلهة سماوية وعبر معبودات أرضية ترمز لها وتمثلها، إضافة إلى أختلاف اللغة بينهما وتضاريس الأرض بين المنبسطة السهلة التي لا حواجز طبيعية فيها وبين هضاب ومرتفعات وصحارى ممتدة، تماما كما تختلف عن الحضارة في شبه القارة الهندية التي تتجلى فيها عبادة الحيوان "البقر" رمز البقاء والنماء والتنوع والتلون وتعدد الأعضاء عند الآلة المعبودة، أضافة لعنصري اللغة والبيئة المختلفة التي فرقت بينهما، هذا المثال والأسباب لا نجدها في ما يعرف تزويرا في الحضارات التي نشأت في المنطقة منذ سومر وبابل وأشور وأكد والكنعانية والآمورية والآرامية وحتى ما عرف بالحضارة العبرانية*****، اللغة واحده بلهجات متعددة والدين يقوم على مبدأ إله أو ألهة في السماء تتحكم في سكان الأرض وتفرض إرادتها عليهم ، والإقليم واحد متواصل من البحر جنوبا حتى الجبال شمالا في تنوع بسيط وأمتداد غير صعب ولا مقطوع.
هذه الحقائق لا يمكن تجاوزها أو التساهل بها من أجل أفكار وتأمرت وتدوينات يقال أن الله كتبها أو أنزلها لتكون مرشدا أخلاقيا، في الوقت الذي تحتوي هي على الكثير من التجهيل واللا أخلاقية والظلم والكذب، بينما الدراسات المقارنة والمقاربة للحضارات وبناء على أسس علمية منهجية تنفي تلك المزاعم والأكاذيب وتسير إلى أسس منهجية لا تقبل الأعتباطية والانتقائية القائمة على التمييز العنصري على أساس عرق أو دين أو فكرة ما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الخوريون هم من شعوب الشرق الأدنى الذين عاشوا في العصر البرونزي (4000 – 1500 قبل الميلاد) و كانوا يتكلمون اللغة الخورية. عاشوا في الأناضول وشمال بلاد ما بين النهرَين، أصبح الخوريون جزءً من الحضارة القديمة في الشرق الأوسط في حوالي منتصف الألف الثالث قبل الميلاد. لقد وصلوا الى بلاد ما بين النهرين من الشمال. تم إكتشاف نقش مختصر باللغة الخورية، يعود تأريخه الى زمن نهاية فترة الأكديين. كما تم إكتشاف نقشٍ آخر يعود للملك (أريشن Arishen) أو (أتالشن Atalshen)، ملك مملكة (أوركيش Urkish) و(نَوار Nawar)، مكتوب بالخط المسماري الأكدي.
أنظر مقالة تأريخ الخوريين للدكتور مهدي كاكه يي/
https://www.facebook.com/barzanirebaza/posts/734896033285203/?locale=ar_AR
**. امتاز الكنعانيون بالصناعة فكانوا أول من اكتشف النحاس الطري والقصدير في صناعة البرونز، وقد أصبح استعمال البرونز شائعاً في المدن الكنعانية منذ أواسط الإلف الثالث قبل الميلاد. كما وصنعوا الفخار الذي بلغ طوراُ عاليا من الإتقان، واستعمل الفخاريون الكنعانيون دولاب الخزف الذي انتقل إليهم من بلاد الرافدين. وبرعوا ايضا في صياغة الذهب والفضة، وصناعة العاج، والزجاج، والأقمشة. أما أشهر الصناعات التي أصبحت علامة دالة عليهم فهي صناعة الأرجوان (الصبغ الأرجواني) الذي يستخرجونه من صدف (الموركس) الذي كان أشهر الاصبغة الذي يتطلب إعمالا شاقة من تقطير وتنقيط، وقد احتكروا صناعة الأرجوان لأنفسهم.
***ويرى هيرودوتس أن الفينيقيين قد نزلوا من خليج العقبة قادمين من منطقة البحر الأحمر، بينما اشار بعض الباحثين الى ان هجرة هؤلاء قد جاءت من شبه الجزيرة العربية ووطئت بلاد الشام في نهاية الألف الثالث ق.م وهم ينتمون الى نفس القبيلة التي جاء منها الأموريون معتمدين في ذلك على التشابه اللغوي والقومي بين الأموريين والكنعانيين، عن داود، أحمد، تاريخ سوريا القديم، (دمشق، 1986)، ص 780.
****. يعتبر الخطر الخارجي أهم العوامل التي توحد تلك المدن للوقوف بوجه الأعداء وذلك لمصالحها المشتركة حيث كانت أحد المدن تتزعم تلك الوحدة المؤقتة وقد حصلت على مثل تلك الزعامة اوغاريت في اواخر القرن السادس عشر وجبيل في القرن الرابع عشر وصيدا بعد القرنين الثاني عشر والحادي عشر وصور بعد هذا القرن وطرابلس في القرن الخامس(19) ومن الأمثلة على نشوء مثل تلك التحالفات بين المدن ذلك الحلف الذي تزعمته قادش والذي تم سحقه من قبل الفرعون المصري طوطمس الثالث في موقعة مجدو الشهيرة عام 1479 ق.م، انظر باقر، طه، مقدمة، ج 2، ص 243.
***** من ناحية الديانة فلم تختلف ديانة الكنعانيين عن الديانة الأمورية وغيرها من ديانات المنطقة، فقد قدسوا مظاهر الكون المختلفة وعبادة الطبيعة، فالبحر كان يمثل في نظرهم الإله الأب، بينما تمثل الأرض الإلهة الأم، أما الإله الأعلى فكان يعرف باسم أيل ويلقب بالعلي، ويوحد هذا الإله احيانا مع الاله بعل، وزوجته الالهة اشيرات. كما وأن معابدهم عبارة مذبح صخري ونصب مقدس قائم إلى جوار عمود أو شجرة مقدسة وغرف تحت سطح الأرض ومصاطب يغسل عليها المتعبدون إقدامهم قبل تأدية الطقوس تماما كما هي معابد السومريين والأكديين والبابليين والأشوريين، وكانوا يستخدمون تماثيل صغيرة كتمائم يعتقدون بان لها قدرة سحرية، واعتقدوا بالبعث، إذ عثر على بعض أواني الطعام والشراب وأدوات الزينة والأسلحة مع الموتى.