سليمان والعرش ومن عنده علم الكتاب في معادلة الفعل والتشكيك. (ملك سليمان) ح 12


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7860 - 2024 / 1 / 18 - 22:15
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

حقائق عن الكنعانيين والعمالقة والفلسطينيين

شيء جميل في نظر البشرية أن تكون مؤرخا جيدا وأمينا على حضارات أمم سادت ثم بادت، ولكن الأجمل منه أن تكون قارئا جيدا للتاريخ.
الكنعانيون أبناء الجنوب الذين شوه التأريخ التوراتي حقيقتهم ودينهم ووجودهم بتشويه الجغرافية وتحريف النص الديني والأركولوجي ليثبتوا أن العبرانيين هم وحدهم الفرع السامي العظيم الذي أنجبه الله لنفسه من نوح، في حين أن الحجارة التاريخية وما دون فيها من نقوش وكتابات تفضح هذا المسعى، بل تثير الكثير عن حقيقة شعب العبيرو أو الخبيرو الذي حرف إلى عبري وهو يعني الغرباء المتجولون حسب مدرسة وليام فوكسويل اولبرايت 1891-1971 (وهي جماعات كانت تعيش على هامش المدن وتضم خليط من الشرائح الاجتماعية الهامشية. فـ الخابيرو المعروفون في النصوص الرافدية منذ اواخر الالف الثالث قبل الميلاد، والذين تدعوهم النصوص السورية بـ العابيرو، هم بالنسبة لـ اولبرايت يمثلون العبريون الواردين في التوراة، الذين ابتدأت تحركاتهم مع ابراهيم العبراني القادم من اور) *.
فما يعرف بالعبرانيون اليوم وفق الفكرة التوراتية التي رسخها الأعتقاد بأن التوراة وما يلحقها من كتابات هي أقدم وأوثق مدونة تأريخية لا يرقى لها الشك، في حين أن البحث العلمي الذي شارك به الكثير من اليهود خاصة ممن أكتشفوا زيف هذه المقولة، صرحوا بأن أغلب ما في التوراة هي مجموعة من الأفكار والكتابات التاريخية المسروقة والمزيفة والمحرفة، التي سرقها كهنة وكتاب يعرفون حقيقة أنهم ليسوا أكثر من أغراب متجولون لا وطن لهم ولا وجود ثابت في أي مكان، لذا كان الهم والغم الأساسي لهم يتمثل في أختراع تاريخ ومسمى ووجود خيالي، وإلباسه لباس الرسالة الدينية ونشره على أنه حكمة الله ووعد الله وقرار الرب العظيم، خاصة وأنهم في كل تأريخهم توزعوا في بلاد الله العريضة، يحترفون المهن الدقيقة جدا ولعبة المال والتجارة والكتابة والتنظيم، لذا فلا غرابة على تأثيرهم العام على ما تسرب الى أفكار وثقافات الشعوب التي أستضافتهم أو تلك التي أحتموا بها، خاصة وأن لا خطوط حمر عندهم ولا يمكن أن يقف شيء في وجههم من كذب وتدليس وتحريف في سبيل الخلاص من الفكرة التي اطاحت بهم تأريخيا بأنهم دوما (شعب بلا وطن).
من هذه الشعوب بالتأكيد والأكثر تأثرا بما أفسدوا وخربوا وحرفوا التاريخ هم الفلسطينيون والعراقيون وشعوب الجنوب العربي أو ما يسمون تأريخيا شعب "كنع" أو شعب الأدنى مقابل شعب "أمورو" أو شعب الشمال أو الأعلى أو الغرب، وكلها إشارات جغرافية تدل منذ الكتابات والتدوينات السومرية والأكادية على تقسيم سكان الشرق القديم بين خطين أساسيين هما، أما الفرات شمالا وجنوبا أو غربا وشرقا، أو بناء على معيار الصحراء الممتدة من منطقة سومر وأكد التأريخية وأيضا جنوبا وشمالا، فشعب أو وجود "كنع" يشار له أما الجنوب من النهر أو الصحراء حتى البحر ويسمون الكنعانيون، في الوقت الذي يشير إلى القسم الأخر المجاور لشعب سومر شمالا أو فربا باسم "الأموريين"** .
وحتى التقسيم التوراتي اللا منطقي والذي تعتريه اللا علمية واللا عملية من أن أبناء سام شكلوا أجانسا مختلفة لا رابط ولا صفات مشتركة بينهما، لا لغوية ولا حتى رابطة دم، فقد قسموا العالم ما بعد نوح مثلا إلى حاميين وساميين وبني يافث وأشوريين، والحقيقة العارية التي كتبت عنها في كتابي شعب العراق القديم والكتاب الثاني لغة العراق القديمة، أنهم جميعا أولاد نوح أو الناجون من الطوفان أخوة من دم وعنصر واخد ولغة واحدة ومشترك واحد، إلا أن انتشارهم الجغرافي والمكاني اللاحق هو الذي أعطى لبعض المجموعات صفات فرعية خاصة، ونتيجة البيئة والتطور والتلاقح مع أمم أخرى أنشأ بعض الفروقات البسيطة في اللغة والمعارف والعادات والعقائد، ولكنهم جميعا ينحدرون من جنس واحد هم النوحييون أو الناجون من الطوفان، وكلهم عراقيون أصلا ولغة وأديانا، أما التسميات التي كانت تطلق على بعض المجموعات فهي تسميات مكانية لا جنسية تتعلق بالسكن والأنتشار والحضور الحضاري لهم، فالسومريين مثلا والبابليين والأشوريين والعبرانيين جميعا هم من نوح، لا فروق جنسية ولا أصول مختلفة.
لو تمكن علماء الأجناس التأريخيين من التخلص من فكرة السامية واللا سامية وأعادوا البحث عن أصول التجمعات البشرية التي سكنت منطقة الشرق القديم خاصة ما يعرف منها بالهلال الخصيب والجزيرة العربية واليمن وسواحل الخليج الكبير وبحر العرب والبحر الأحمر والضفاف القريبة، وفق آليات ووسائل علمية معتمدة، لوجدوا حقيقة علمية واحدة، هي أن نسبة عالية جدا من هذه الأقوام ما هي إلا مجموعة متجانسة من المشتركات الجينية والروابط الثقافية والحضارية وحتى العادات والأسماء، هذا إذا ما أشارت تلك الأبحاث فعلا على أن سكان هذه المناطق هم عنصر جنسي واحد.
لقد أساء الفكر الديني بخلفيته الأيديولوجية ولا أقصد الدين طبعا للإنسان أكثر مما أضرته الطبيعة وتقلباتها، حتى أنها فرقت بين الأب والأبن وبين العائلة الواحدة وبين القبيلة وأفرادها وصولا إلى تمزيق الأخوة الإنسانية بعظمتها، هذا الفكر الديني المريض هو المسئول الأول والأخير عن بحور الدم وغيوم الكراهية وعدم التقبل والرفض والمقاطعة بين الناس، والفاعل الرئيسي دوما هم الكهنة ورجال الدين الذين أستحمروا عالم البشرية من أجل أفكارهم وطموحاتهم المريضة والمدمرة، وأكثر هؤلاء وأشدهم إجراما كانوا كهنة بني إسرائيل التلموديين التوراتيين تحديدا.
لقد قسمت التوراة شعب المنطقة إلى شعوب على أساس عنصري هذا ابن ذاك وذاك ابن هذا، وأختصوا لنفسهم بسام بن نوح كأفضل سلالة بشرية ووصفوا انفسهم "شعب الله المختار" بكذبة لا يعلم بها الله ولا سام بن نوح، كما أخصوا أرواحهم تخصيصا من بني سام فرع إبراهيم وحده بالجلالة والعظمة، ومن إبراهيم قالو أنه أستولد عدة فروع منها الفرع الماسي والمقرب من الله وهو "شعبه" أولاد ساره، أما البقية فهم مجرد عبيد لأبن السيدة سارة وأن غيرهم مجرد نطفة فاسدة، لذا فلا بد أن سيكون شأنهم مجرد ظهور للركوب والأستحمار، أما أبناء سارة فهم السادة والقادة ولعنة الله التي أرسلها على بني البشر، بهذا الكذب الذي لا دليل له سوى "قال أبي عن أبيه" وكلاهما كان أخرس أبكم أصم صنعوا لنا تأريخ وأمم وحدود وأجناس ومسميات لشعوب، هي ذاتها لا تعرف هذه التسميات ولا تدركها ولا تعام كيف صارت ومن أين جاءت؟.
لو عدنا مثلا للتسميات القديمة التي وردت إلينا قبل أن يبدأ التحريف التوراتي الديني الكهنوتي، سنجد في المصادر المسمارية يطلق على موطن الآموريين مصطلحي كور- مارتو (Kur-Martu) كور بمعنى ناحية أو أرض وتستخدم في اللغة العربية قديما وحديثها وكل جذورها أي ناحية أو جهة مارتو، أو مات- اموروم (Mat Amurrum) أي ارض اموروم أي أرض الأموريين، إذا لم تطلق عليهم كجنس أسمهم الآمورين لأنهم يسكنون تلك البقعة أو الكور، لذا لا نعرف الاسم الذي كان الأموريين يطلقونهم على أنفسهم نظرا لافتقارنا الى نصوص كتابية آمورية تشرح لنا ذلك، لاحقا توسع مصطلح اموررو ليشمل رقعة جغرافية كبيرة في سوريا التي تعد غرب وشمال بلاد السومريين، الذين هم من ذكروهم بالجغرافية لكنهم لم يقولوا عنهم انهم ساميين أو غير ساميين، ولم يعد يطلق على مجموعة معينة من القبائل بل أصبح آمور إقليم محدد، ليصبح بعدها البحر المتوسط أو "البحر العلوي" كما كان يسمى لاحقاً يطلق عليه "بحر اموررو العظيم".
ورد ذكر الأموريين/ المارتو في النصوص المسمارية القديمة لأول مرة في عقود تجارية لمدينة شوروباك تعود الى حوالي 2600 ق.م، ويرد في اخبار ملوك "اوروك" الأوائل كالملك "اين مير كار"، والملك "لو جل- باندا" اشارات عن الآموريين، ومع ظهور الدولة الأكدية (2371-2255 قبل الميلاد) بدأ ذكر الآموريين يزداد في المدونات المسمارية العائدة لتلك الحقبة كما تؤكد ذلك نصوص الفأل الخاصة بالملك سرجون الأكدي.
كما تشير النصوص الأكدية الى تواجد الآموريين في المدن العراقية الجنوبية لاسيما في لگش و اومما و أداب وأصبحوا يشكلون أيدي عاملة في المجتمع فضلاً عن عمل بعضهم وظائف الدولة، وقد نجد في قائمة الملوك الذين حاربوا الملك الأكدي "نرام- سن (النسخة الحيثية) اسم جوارواش ملك اموررو، إما الملك الأكدي "شار_ جل_ شارري" فقد هاجم الأموريين عند جبل باسار وحقق نصر عليهم، فيما أشار الملك - جوديا (2144-2124ق.م) بأنه جلب حجارة الرخام من بعض المدن الامورية الواقعة في جبال المارتو، أما في عصر سلالة اور الثالثة (2113-2006 قبل الميلاد) اخذت ترد أسماء بعض الآموريين في النصوص، ويتضح منها أنهم كانوا يملكون حقولا أو يمارسون وظائف معينة، ويذكر الملك "شول جي" أنه اجبر المارتو(الآموريين) على دفع الجزية إليه.
هذا التواصل والأختلاط الطبيعي والمجاورة والعلاقات التجارية والأنتقال السهل من كور إلى كور في بلاد واحدة دون عوائق ولا مشاكل ولا صعوبة في التواصل اللغوي والثقافي، يؤكد حقيقة واحدة أن تلك الأقوام والمجتمعات لم تكن من أصول متفرقة ولا يمكن أن يكونوا من بيئات أو عناصر جنسية مختلفة خاصة أن لا دليل على إنفرادهم بخصائص مميزة تفرقهم عن بعض وإلا ذكروا كما ذكرت المصادر المخطوطة والمنقولة لنا قبل التوراة الكثير من المظاهر المهمة للدراسة الديموغرافية والحضارية وحتى الثقافية الدينية لتلك المجتمعات، الموضوع لا يتعدى مثلا اليوم عندما نذكر في العراق أهل الغربية أو أهل الجنوب أو الفراتيين، لا نقصد بذلك شعوب مختلفة وأقوام متباينة في جذورها وأصولها، فالآموري يعني الغربي أو الفوقي أو الشمالي، تفريقا عن القبائل والمجتمعات التي سكنت الجنوب وضفاف الأنهار والمسمون سومريين وأكديين وفراتين أوائل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* . ويربط هذا الآثاري بين مصطلح عابيرو في النصوص السورية ومصطلح عبريم في النصوص التوراتية. ويركز اولبرايت بشكل خاص على جماعتين من الخابيرو معروفين من وثائق ماري هما: بنو يامينا أي بني الجنوب، وبنو شمأل أي بنو الشمال، ويرى في بنو يامينا اسلاف قبيلة بنيامين التوراتية، التي يعني اسمها بنو الجنوب ايضا في النص التوراتي. ثم يذهب اولبرايت ابعد من ذلك حين يربط بين خابيرو عصر البرونز الوسيط، وعابيرو عصر البرونز الاخير في فلسطين، والذين نعرف عن تحركاتهم وهجماتهم على الدويلات على الدويلات المدن الفلسطينية من خلال رسائل العمارنة في اواسط القرن الرابع عشر قبل الميلاد. ثم يربط اولبرايت بين عابيرو البرونز الاخير هؤلاء في فلسطين وجماعات العبريين الذين خرجوا من مصر بقيادة موسى، ويضع اولبرايت عصر الخروج حوالي عام 1280 قبل الميلاد أي خلال عهد رعمسيس الكبير.
** . امورو (Amurrum) هو المصطلح الأكدي لكلمة مارتو (Martu) السومرية ومعناه جهة الغرب إشارة إلى القبائل البدوية القادمة من تلك المناطق، ويعني كذلك النجمة الغربية، والريح الغربية، وأرض مستقر الشمس أي الغرب، وهذه المعاني كلها تشير للاتجاه الذي جاءت منه تلك الأقوام الامورية أي من غرب بلاد الرافدين.