البناء اللغوي وعلاقته بالمفهوم القصدي ح1


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5915 - 2018 / 6 / 26 - 23:03
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

البناء اللغوي وعلاقته بالمفهوم القصدي ح1


يشكل الفهم بمحتوى النظام اللغوي والبنائي للأفكار النقلية النقطة الجوهرية لأدراك القصد المطلوب منها على سبيل اليقين التام وليس الأحتمال الظني أو التقريبي لها,فالفكر الإنساني المنظم والمبني على قواعد معرفية وبحيثيات محددة له تعطيه صورة تشخيصية محددة الملامح والخطوط وينتظر من مكونات هذا الفكر أن يكون متسقا بعضه مع بعض على أساسية وحدة الفكر وتكامل منهجيته الممهدة لأن يكون متجها صوب غائية معينة يستهدفها ويسعى لأجل أيجاد هذه الغائية وبالصورة التي يبنيها نظريا ويحدد لها الوسائل الكفيلة بالتحقيق والتحقق من صوابيتها.
هذا في مجال الفكر الإنساني الذي يستند في تكوينه على رؤى وحاجات ونظم وضعية بعيدة تمام البعد عن الكمالية ولذلك نرى أن التاريخ الوجودي الزمني للإنسان يكشف عن توالي النظريات الفكرية والأفكار المجردة التي تتداعى ويقوم بعضها على أنقاض البعض كما لا يخلو التاريخ الوجودي للبشرية من بيان ذلك الصراع المحتدم بين أفكار البشر وبين النظريات الفكرية ,مما جعل الكثير من الأفكار التي كانت في ما مضى مصدر أفتننان وفخر لا تعد اليوم إلا كبقايا تدرس وكأنها متحجرات تاريخية تعرض في المتاحف وقاعات الدرس والبحث الأكاديمي.
وهناك الكثير من الأفكار والنظريات الفكرية التي كانت في يوم من الأيام محل أدانه وأنكار وتجاهل وتعرضت للكثير من المزاحمة والرفض أضحت في وقت أخر محل أهتمام وقبول وأثبت جدوى منطلقاتها النظرية ومؤدياتها التكوينية,وكان العامل الزمني هو الحكم في الكشف والتقدير ثم كان عامل الحرية والتطور عاملا للتقرير.
إن الفكر الإنساني وإن بلغ ما بلغ من درجات الرقي والتطور والأنتعاش في أجواء الحرية والتحفيز يبقى عاجراً عن الأتيان بفكر متكامل متطور قابل للتعايش مع الزمن والمكان دون من قهرية له على التبدل والملائمة مع الحولية ولا قهرية في التعاطي معه على أساس أنه الفكر الأصلح والأنسب للأستجابة للحاجات المتجددة والمستجده,ولا يمكن أن نرى فكرا إنسانيا بمعنى المصدرية لدية القدرة على التكيف مع الحدود الوجودية ويكون متهيأ ومتحفرا ولدية كل الحلول لكل المشاكل الوجودية بدأ من دقيقها بالحجم إلى أكبر الأشكاليات التي تمتد من العقل وتحيط بالوجود ثم ترجع إليه ليرى العقل أنه عاجز من التعاطي مع هذا الكم الهائل والمستحدث والضروري من حاجات الإنسان مادية كانت أو معنوية.
فالتاريخ والممارسة الفكرية بأمتداد رحلة الإنسان الأدمي من خروجه من الجنة ونزوله إلى الأرض شهدت صراعا وجوديا بين فكر آدم التائب وبين عدوه الدائم يتبدل الصراع ويتنوع حسب القواعد الناظمة للصراع نفسه,فمرة يتجه الصراع بين الأثنين في أحقية الوجود تجاه الأخر ومرة على أساس المسئولية في الخروج والأخراج من الجنة وأخرى ترتقي بمدايتها في هل أن وجود آدم في الجنة كان حقيقيا أم كان تخليا تعويضيا عن الأحباط والفشل في أن يكون آدم مشروعه الفكري الناجح على الأرض وتحميل عدوه مسئولية الفشل , وتفرعت من هذه الصراعات أنماط دون مستواها تتعلق بماهية الإنسان الذاتية المكونة له ومحاواة البحث عن الذات على حقيقة كونها وهم متخيل أم وجود حقيقي ضمن وجود شامل, وكان السلاح في كل هذه الصراعات مستخلصات عقلية أدراكية أستقاها من مزج الـتأمل مع الخيال مع التجربة الحسية لينتهي لبناء هيكل من المفردات الذهنية التي صاغها الضمير الحسي بجميع مؤدياته وصوره التكوينيه وطرحها من خلال اللغة بشقيها الأبجدي الكتابي أو الأبجدي الصوتي وأخذ يدافع عن هيكل أفكاره وكأنها من البديهيات التي لا تقبل المحاكمة أو المقايسة وفق عقول وهياكل ضميرية عند الأخر.
إن عملية صياغة المفردات التكوينية الفكرية وأفراغ مضمونها وفق اللغة وهو ما يسمى أعادة الهيكلة الفكرية الذهنية في ضمير الإنسان إلى هيكلة لغوية وفق منظور رمزي ناقل لتلك المفردات وأعطاءها حرية الأنتقال من أنا المفكر إلى الأخر المتلقي لابد لهذه الأنتقالة أن تأخذ صور متعددة وهي:
1. أن يكون الأنتقال مطابقا لمقاصد المفكر ووفق ما يتكون في ذهنيته فتتوحد الصورة الذهنية بين المفكر والمتلقي وهذا يسمى إحكاما في النقل,وهو أسلوب قادر على أن تكون الفكرة المراد نقلها بواسطة اللغة أو الصوت قد بلغت هدفها بالصورة المثالية.
2. أن يكون الأنتقال تصرفيا من المتلقي وفق مقدماته هو وليس وفق المفردات التكوينية للمفكر ,فهو يتلقاها على أنها صور ذهنية قابلة للألتقاط من زاوية هو يحددها أو تنطبق مع زاوية ميله الفكري,وفي الصورة هذه ليس من الضروري أن يكون هناك تطابق بين أصل الفكرة وبين صورتها عند المتلقي,وقد تختلف الصورة أصلا لأن المفكر عندما أفرغ مفرداته الذهنية وفق قالبها الأبجدي تصور لها صورة أراد لهذه الصورة أن تنطبق في ذهنية المتلقي كما يريد هو وليس كما هو حاصل ,فيعد بذلك أن الفشل يعود لسببين هما:
• فشل من المفكر في صب الفكرة في قالبها الأبجدي المناسب الذي بدوره يكون قادرا على أبلاغ الصورة الذهنية كما يريد المفكر.
• فشل الأبجدية بأحتواء وصياغة الفكر من خلال القصور في الوسائل والأساليب المناسبة والقادرة على التصويل ,ويعود سبب ذلك لعدم قدرة الأبجدية على التفاعل مع الجديد وعدم قدرتها على الأستيعاب اللازم للصور الذهنية للمفكر.
• فشل المتلقي في أدراك ماهية القصد الفكري للمفكر لعلة من العلل المسئولة عن الفهم والأستيعاب والأدراك أو ضعف في قابلية ممارسة التلقي أصلا أما لكون الأبجدية لم تساعده على الفهم والأدراك أو كون الفكرة أساسا نقلت إلية بالمتحسسات الذاتية ليس كما يريد المفكر.
3. أن لا يكون المفكر قاصدا أن تكون الصورة الذهنية عند المتلقي بالكيفية التي هي في المكونات الذاتية الذهنية لدية وإنما أراد طرحها ليفهمها من يفهما بموجب ما يترسخ بذهنه من صورة قد تكون مطابقة أو تقريبية أو حتى مخالفة وقد تكون أكثر من ذلك أن لا تترك أثرا ذهنيا في ذهن المتلقي ,وهذا ما يطلق عليه فكريا عبث ونفسيا هذيان وكلا المصطلحين أشارة إلى الفشل في أن يكون للفكر هدف وبذلك يخرج من كونه نشاط إنساني ذي غاية دافعة نافعة للوجود الكوني وتتحول بذلك إلى أن تكون لغوا غير حقيق أن نسميه فكر إنساني.
إن بيان القصد ونجاح اللغة والأبجدية الصوتية في نقل الأثر الذهني بين الفرد والأخر أو بين المفكر والجماعة وبالصورة التي يريدها المفكر وبالطريقة الذكية والمناسبة ومن خلال أستخدام الوسائل المناسبة في حالات متناسبة مع القصد والهدف ووفق رؤية متكاملة وواحدة,ينجح من خلالها المتلقي بأستلام الرسالة الفكرية كما صيغت في ذهن المفكر وسار بمقتضاها فكريا.
إن أهمية أن تصل الأفكار إلى المتلقي بموجب قصد المفكر هو حجر الزاوية في تطبيق المقدمات الفكرية والمنطلقات النظرية لها مع الممارسة على الواقع الوجودي,فيكون العمل بالأفكار مناسبا ومتسقا مع روح الفكرة وقصدها الغائي,وبخلاف ذلك لابد أن نشهد فصاما بين أسس الفكر وبين الممارسة التي قد تبتعد أو تقترب من أصل الفكر بقدر ما ولكن من المؤكد والمحتم لا تتطابق مع القصدية الأصلية,فينشرخ الفكر حسب التطبيقات إلى شروخ عديدة قد تسبب بتفرق وأفتراق عن روح النظرية الفكرية والأبتعاد عنها ,منشئتاً لها خط نظري أخر ليس هو بالتأكيد الخط الأصلي الذي أنطلقت الممارسات العملية منه لتحقيق غاياته وهذا يفسر الأختلاف الفكري بين التيارات الفكرية التي تنطلق من نظرية واحدة بقصد واحد لتصل في النهاية إلى عالم متعدد الأفكار المتناقضة والمتصارعة فيما بينها وقد كانت واحدا في الأصل.
إن الأشكال التبعي بالصورة التي صارت إليها الممارسات العملية لا يمكن أصلاحه إلا بالرجوع إلى فهم القصد بمقام اليقين التام من كونه هو القصد ومن ثم تقويم الممارسات على الأسس الأصلية والتراجع عن كل الأجتهادات التي أبتعدت عن القصدية الأصلية بأجراء المقايسات العملية وتحكيم أصل وجوهر وروح القصد من الفكر أو الفكرة والبحث عن هذه الجوهرية من بين رؤية كلية متكاملة لها,وليس من خلال ما أرى أو أنطلق من مقدمات أنا متمرس على أستعمالها بمقاصدها وأسقاط هذه المقدمات على مباني لغوية أو صوتية صاغ بموجبها المفكر القصد الفكري لكي أكون مجردا تماما من ذاتيات المتلقي والأنطلاق من نفس مقدمات ومفردات التكوين الذهني لصاحب الفكرة أو من أتى بالنظرية الفكرية ,وهو ما يمكن أن نسميه النظر بعين وعقل وفهم وإدراك المفكر لنعيد رسم الصورة الذهنية في أدمغتنا نحن المتلقين لها.