لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون–التمتع بالمازوخية


سامى لبيب
الحوار المتمدن - العدد: 5835 - 2018 / 4 / 4 - 23:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

- لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون (44) .
- تحليل الحالة النفسية والذهنية لأصحاب الفكر الإيمانى - جزء ثالث .

يمتلك الإنسان جهازاً عصبيًا يجعله يحس بالألم واللذة لتتأرجح حياته مابين السعى لتحقيق اللذة وتجنب الألم .. لا يوجد ألم بدون لذة كما لا توجد لذة بدون ألم , كما لا توجد حياة ذات ألم دائم ولا لذة دائمة فحينها لن تكون مُدركة , ولعل هذه هى متعة الحياة الحقيقية .
لو تخيلنا حياة ذات لذة ومتعة دائمة , فلن نفهم أو نحس بقيمتها لإفتقادها للألم .. وكذلك الأمر بالنسبة للألم فلن تكون له قيمة أو إحساس بدون أن نعبر لحظات من اللذة .. إذن من داخل الألم تتولد اللذة ومن رحم المتعة يأتى الألم لتتولد علاقة جدلية بين الإثنين لا يمكن أن ينفصما عن بعضهما البعض .. ومن هنا نحن نبحث بحثاً دؤوباً عن اللذة ولكن بنفس المقدار نبحث عن الألم أو نستحضره حتى ندرك قيمة المتعة .! نعم هى الفطرة الغريبة التى تعلمناها أننا لا يمكن أن نعي ونحس بالمتعة دون أن نعرج ونشاهد ملامح من الألم .!

الإنسان يؤمن بالعقائد والأديان بالرغم أنها تحول من حريته وتفرض عليه قيود تحوله عن الإستمتاع باللذة لتوعده بلذة لاحقه تسرف في صورها الفنتازية .
حرية ممارسة الجنس من التابوهات فى الفكر الدينى , ورغماً عن ذلك فالدينى يلتزم بقدر طاقته الإمتناع عن الجنس خارج مؤسسة الزواج , فما الذى يمنع الإنسان عن فعل إشباع حاجة طبيعية يطلبها الجسد ؟ سيقال أن التحريم الذى سنه الإله هو الذى يحول المؤمن الإندفاع فى علاقات جنسية حرة سيعاقب عليها فى العالم السمائى , ولكن هل هذا الرادع كفيل بأن يحول الإنسان عن الممارسة ؟فالمؤمنون يخوضون تجارب جنسية خارج مؤسسة الزواج فهم بشر يتحايلون لتلبية الوحش الداخلى الذى يطلب الإشباع,

الإنسان كائن رائع قادر على التكيف والتوائم بل هو الكائن الوحيد الذى يتكيف مع واقعه المتغير ولا نقصد هنا التكيف البيولوجى بل التوائم النفسى وخلق فضاء ليعيش داخل أشد الظروف النفسية قسوة , لنرى أن هناك من يتكيف ويستطيع العيش فى زنزانة حبيساً وهو من إعتاد أن يعيش حراً طليقاً .. وهناك من يستطيع العيش فى أسوأ الظروف المعيشية قسوة وهو من إعتاد ترف العيش .
من رحم الألم والمعاناة يتكيف ويتوائم الإنسان مع واقعه ليخلق لذاته حالة من الإستقرار النفسي فلا تكتفي الأمور بالرغبة فى تجاوز الألم وتمريره بل يمكن للإنسان أن يخلق اللذة من رحم الألم الذي يعانيه ليجعل للذة معنى وقيمة .!

الجنس الحر مُحرم ومُغلظ فى الأديان والحقيقة أن الأديان التى تنعت نفسها بالسماوية ليست مُبدعة تحريم العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج بل سبقتها معتقدات وأنساق بشرية شديدة القدم جميعها ترجمت رؤية ومصالح نخب الملاك فى الحفاظ على نقاء الأوانى الجنسية لضمان الحفاظ على الأنساب وعدم إختلاطها مما سيهدر الثروات والأملاك فتذهب لغير مستحقيها .

هذا التابو الذى تم تعميقه فى داخل النفس البشرية ليَحوله دون إشباع حاجته الطبيعية تكيف معها الإنسان وخلق منها لذة !! فقد حول الإنسان الحرمان إلى حالة إحتفاء بالغريزة وتصعيدها ومداعبتها لتخلق فى داخله متعة الحلم والأمل وترقب الإشباع بعد إنتظار .
لقد خلق الإنسان فى ذاته حالة من التوائم مع الحرمان بأن جعله يستمتع بالحرمان إنتظاراً للإستمتاع باللذة .. فنحن لا نشعر بقيمة الشئ إلا عند عدم تواجده , وكلما توافر قل الإحساس به وبلذته , كأن نعتاد تناول وجباتنا الغذائية في مواعيدها المعتادة ليصبح شئ عادى , ولكن الإشباع بعد جوع والإرتواء بعد ظمأ يجعل للطعام والشراب قيمة ولذة , فهكذا إنسجم الإنسان مع حرمانه من الجنس بخلق حالة حلم فى الإشباع لتحتل تلافيف دماغه أحلامه وشبقه بل قل هوسه بإشباع حاجة طبيعية .

لنا أن نسأل لماذا هذا الإحتفاء والإحتفال الكبير بحفلات العرس ؟.. لماذا هذا الإبهار والترف الذى يصل لحد البذخ فى الإحتفاء بتلبية حاجة طبيعية .. فلماذا لا نقيم حفلة عند إشباع الجسد من الغذاء بعد جوع ؟! نحن نحتفى بالغريزة التى تتحقق بعد معاناة ..
محاولاتنا الدؤوبة لرسم خطوط وألوان كثيرة لممارسة الجنس بإعداد أماكن خاصة تتوفر فيها الراحة والمناخ الطيب ولا مانع من ملابس تتسم بإبراز مفاتن الجسد ماهى إلا إحتفالية بممارسة حاجة طبيعية تم حرمانها فأغرقناها بالخطوط والألوان فى أحلامنا العذرية حتى نستمتع باللحظة المستقبلية بإشباعها .. خلقنا من أحلامنا وهوسنا وشبقنا لذة تعوض الحرمان .

فلنلاحظ أننا خلقنا فى داخلنا حلم الإستمتاع بالإشياء لتناظر حلم تحقيقها وربما تفوق , فالإعداد للعيد بشراء الملابس وإعداد الحلوى وكل المراسم التى تسبق العيد تحولت لمتعة فى ذاتها , متعة الإنتظار والترقب .. متعة ترقب اللذة .. متعة تستمد وجودها من مداعبتها .كذلك نحن نعد لرحلة سفر فنخلق متعة بالتجهيز للرحلة لننتظر لحظة تحققها .

لماذا مازال عالقا فى ذهنى ذكرى حب قديم أو ألم قديم ؟ ولماذا أستدعى حزنى وألمى ؟ لماذا تكون ذكرياتى الأليمة حاضرة على جدران نفسى بالرغم من مرور السنين عليها ؟ وبالرغم من عدم جدوى مثل هكذا مشاعر حزينة مبددة . لماذا نعيش تجربة وجدانية لا نحصد منها غير الألم ؟ وما فائدة التمرغ فى أحضانها فلن تمنحنا غير حصاد من الألم والحسرة والفشل ؟.

الأشياء لا يكون لها معنى حقيقى فى لذتها إلا عندما تكون مهددة بالألم , وإذا وجدنا شئ غير مهدد بالألم سنفقد الإحساس به , ولكن لذة الحياة أن الضد حاضر فلا توجد صورة إلا ويكون ضدها حاضراً فى بنيتها ويكون دورنا ككيانات واعية تدرك فى عمقها الإحساس بالألم أن تقوم بتصعيد الألم إذا كان باهتاً ثم تقوم بمداعبته حتى تتحقق المتعة بمذاق خاص .

الصيام فى الطقوس الدينية تكون فى نفس هذا المنحى .. فالإنسان لا يَحرم نفسه من الطعام والشراب لإيمانه بطقوسه والإمتثال لأوامر دينه وإلهه أو هذا الهراء الذى يسوقونه عن الإحساس بالفقير .. نعم قد يبدو فى الوعى المُبْرر هذا الأمر .. وقد نراه يصوم رغماً عن أنفه بغية تحقيق رضى إلهه ومجتمعه , وإن كان مجتمعه هو الأساس فهو لا يرى إلهه حتى تتولد بينهما علاقة رضا وقبول يجد صداها .
نتيجة قهر المجتمع وإعتباره الصيام طقس واجب التنفيذ والإمتثال فقد تأقلم وتكيف الإنسان مع هذا الطقس وخلق من ألمه لذته .. فمتعة الغذاء تتحقق بعد جوع ومتعة الشراب تتحقق بعد ظمأ شديد ومتعة السيجارة تتحقق بعد حرمان منها .. الإنسان هنا يداعب إحتياجاته وغرائزه فهو هنا يمارس عليها قسط من الحرمان والألم حتى يكون إسترداد اللذة لها مذاق خاص .

كنت أندهش من حجم عشقنا لأغانى مطربينا الحزينة مثل أم كلثوم وفريد وعبد الحليم التى تخوض فى الهجر والحرمان والمعاناة أكثر من أغانيهم المرحة الخفيفة القليلة , لنرى هذا الهيام الغريب بإستدعاء الألم , وقد كنت أصف خاطئاً هذه الحالة بأننا شعب نكدى !! .. ولكن الأمور تأخذ منحى آخر , فالعشق المحفوف بالألم يعطى لذة أعلى من عشق غير مهدد بالفقد والنسيان والهجر .

كذلك الإنسان يحترم الأعمال الفنية الدرامية والتراجيدية أكثر من عشقه للأعمال الكوميدية لتجده مشدوداً متعايشياً متفاعلاً مع الدراما فهو هنا يداعب لذته بالألم .. يضع اللذة التى هي أمانه وسلامه أمام ألمه ويستمتع بهذا العراك وهذا التهديد .

الإنسان يعتقد من أجل ممارسة مداعبة ومبارزة لمشاعر الألم واللذة .. فهو تكيف مع الألم فلا يريد المتعة جاهزة متحققة سهلة النيل بل بعد إجراء عمليات تجويع لرغباته وشهواته وغرائزه حتى يكون للإشباع مذاق خاص .. أرى أن الإنسان خلق الطقوس والتحريمات والتابوهات من أجل أن يعزز قيمة اللذة ويجعلها حلم وأمل يتحقق فى إشباعها حينها تتحقق مستويات من اللذة .

نحن نؤمن بالخرافات والميتافزيقا لأنها تحقق لنا مداعبة غرائزنا وتضعها فى سياج يكون من المتعة التحايل عليه والإلتفاف حولها , وخلق حالة من حلم التحقق بعد حرمان نمارسه ليكون للشئ معنى وقيمة .

حلم العالم الآخر الخالي من الألم حلم مثالي , ولكن لتحقيقه لابد من التكيف مع الألم وتجرعه .. فخلقنا طقوسنا وشرائعنا وموانعنا التي هي فى أساسها لخدمة مصالح نخبوية وطبقية حتى نحظى بالألم ونحس بقيمة اللذة المرتقبة .. فمن رحم معاناتنا إستمتعنا بها كونها ستعطى للذة المرتقبة متعة قوية حيث الراحة والسلام واللذة المفرطة .

حلم العالم الآخر والبعث حلماً يستند على الكثير من العوامل النفسية التى تدفع الإنسان بالحلم والتشبث لتصل به إلى اليقين بهذا الوهم الذى لا يوجد ما يؤكده , فالعلم والعقل لن يصنفه أكثر من وهم يجد حضوراً فى العمق الإنسانى بإنتظار اللذة فى صورة الجنه الشديدة التهافت والغباء أو قل هى طفولية نفسية إنسانية غير واعية , فالمتعة الممتدة بلا ألم ستفقد مفهوم اللذة وكذلك الألم الممتد بلا أمل فى الراحة والمتعة لن يحقق الألم , ولكن يتم التغاضى عن هذا نظير مازوخية إنتظار اللذة .

بقدر حرصنا على اللذة نحرص على وجود الألم بل نفتش عنه ونستحضر مشاهده حتى نحظى على قدر هائل من المتعة , فلن أستمتع بشرب الماء إلا إذا كنت عطشان وحلقى شديد الجفاف , ولن أستمتع بالطعام إلا عندما أكون جائعاً أو محروماً من تناول المشهيات منه , ولن أستمتع بذروة الجنس إلا عندما أكون محروماُ منه وفى حالة شبق هائلة تطلبه وتناديه .

نحن نحس ونستمتع بالأشياء فى حالة فقدها , وقد نحاول أن نفقدها لنعثر عليها ونستمتع بألم المعاناة للحصول عليها .!! نطلب الجنس بإستمرار ولكننا نُعقد طرق الوصول إليه حتى نستمتع بالمتعة التى تجعلنا نحاول تجاوز ألم الحرمان .! فلم يكتفى الإنسان أن يسعد باللذة بل بجهاده للحصول عليها .

إذن الإنسان قادر على إبداع الأفكار التى تفى بحاجته من المتعة واللذة , وتوظيف كل حياته وبرامجه للحصول على أكبر قدر من المتعة مع وجود مشاهد من الألم حاضرة فى الذهن لتجعل للمتعة معنى وقيمة .

لو لم نستطع أن نخلق فكرة واقعية لتحقيق حالة من المتعة واللذة , فلن نغلب فى أن نبتكر فكرة خيالية تحت وطأة عجزنا وجهلنا لتحقق لنا أملاً فى متعة نرغبها وألم نريد أن نتجنبه , لذلك إبتكر الإنسان فكرة الإله ليخلق به حالة من تجنب الألم فهو إجابة لألمنا القاسى مع الطبيعة وهو السند الذى نتكأ عليه لعبور عذاباتنا وآلامنا فى الحياة .

من هنا نسجنا عالم إفتراضى خلقناه فى خيالنا من عالم المتعة الراغبة أن تتجاوز كل حدود الألم فى العالم الأرضى .. فالشقاء والمرض والفقر والظلم هى آلام نكتوى بها ونحاول تحملها حتى نعبر منها إلى عالم الراحة واللذة .. تكون فكرة الله هو إيجاد المُخدر لتحمل الألم وأدلجته حتى نعبر منه إلى عالم المتعة .
تمد الفكرة أبعادها لنخلق منها عالم لذتنا , فنحقق كل أحلامنا وشبقنا فى المتعة من خلال الحياة السرمدية بلا إنقطاع والحافلة بكل ما نشتهيه من متع ولذة وشهوة .

الخطورة تكمن فى تلك المازوخية المستمتعة بالألم والتلذذ بالإرتماء فيه بدون وجود يقين داخلى بحقيقة المتعة المنتظرة .
الفكر الدينى يمرر فكرة الألم واللذة فى داخلنا ولا يجعلنا نبارح مكاننا فى عبور العالم أرضى المعاش لتُؤجل الحلول فى عالم إفتراضى مُتخيل .. فنصبح أسرى وهمنا وآلامنا , نعيشها ونقتات منها وندمنها .. بل نبدد قيمة الحياة من أجل متعة ولذة منتظرة غير متحققة , ولا تكتفى الأمور عند هذا الحد بل تخلق فى ذواتنا مشاعر المازوخية لنستعذب الألم ونتعايش معه ولتمد المازوخية ظلالها وحضورها بإحترام الإستبداد والإستمتاع يه من كل صاحب قوة مُتسلط كأب أو زعيم قبيلة أو حاكم .

دمتم بخير .
لو بطلنا نحلم نموت .. طب ليه ما نحلمش .