اللذة والألم ماهية ومحرك الحياة ومنهما نخلق الأفكار


سامى لبيب
الحوار المتمدن - العدد: 7341 - 2022 / 8 / 15 - 14:06
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

نحو فهم الحياة والإنسان والوجود (119) .

- عندما نحاول البحث فى الوجود فهذا يعنى البحث عن رؤية الإنسان وإحساسه وإنطباعاته وإنفعالاته ونوازعه الداخلية تجاه الأشياء وواقعه , فهو الكائن الوحيد الذى يستقبل الوجود بوعى ليسقط عليه رؤيته وأحكامه وتقييماته لذا يكون فهمنا للوجود في البحث عن أبعاد الإنسان النفسية وآفاق ومحددات تفكيره ومدارات وآليات دماغه التى تتحرك حصراً لإيفاء حاجاته الجسدية والنفسية بإنتاجه للأفكار كوسيلة .

- الحياة مجموعة هائلة من الإنطباعات نختزن مع كل مشهد وصورة إنطباع يُكون موقفنا وتقييمنا للمشهد الوجودى يؤطره الحاجة والإشباع والأمان , ليتحدد الإنطباع وفق قطبى اللذة والألم ليتم إختزان الصور والإنطباعات فى أرشيف الدماغ لنستدعيها عند الحاجة , فالأفكار نتاج مجموعة صور هائلة تم ترتيبها وتجميعها بطريقة نراها منطقية أو خيالية لتحقق حالة من الإشباع الجسدى والنفسى .

- تكون رؤيتنا المغلوطة للحياة أننا منحنا الإستقلالية للمعنى والقيمة والغاية بالرغم أنها إنطباعاتنا وتقييماتنا وزواية رؤيتنا الذاتية لنغفل ذلك , لذا أرى أن بحث الإنسان عن آلهة جاء لأسباب باحثة عن معنى وقيمة وغاية للحياة تطلب إيفاء حاجاته النفسية فى الأساس ليكون الولوج فى سراديب اللذة والألم هو الطريق لمعرفة من أين يأتى المعنى والقيمة والغاية للوجود والحياة وماهى الأسباب التى دعت الإنسان لخلق أفكاره ومعتقداته وسلوكياته .

- محاولة الأنسان أن يصيغ الحياة من خلال نظريات وقوانين وسلوك ونظام هى محاولة لترجمة الواقع فى صور فكرية مُجردة لذا تكون النظريات والقوانين زاوية رؤيتنا ورصدنا وتقييمنا وملاحظاتنا للأشياء لنصيغها فى علاقات وكوننا نتقارب فى الطبائع والإرسال والإستقبال فسنحول النظريات والقوانين والمواقف إلى ثقافة , ولكن أصحاب الفكر المثالى الميتافيزيقى قلبوا الآية فحولوا الصور الفكرية إلى وجود فاعل ومؤثر ومستقل ومن هنا توطنت الأوهام والخرافات من وضعية العربة أمام الحصان .

- أخلاق الإنسان وسلوكه ونظرته للوجود تكمن فى انحيازه لتناقض على تناقض , فالحياة والوجود لا يتواجدا إلا من خلال وجود الضدين لنجد أنفسنا قد إخترنا الإنحياز لضد وإعتبرناه مثالياً كونه يحقق لذة ما ليكون الضد الآخر قبيحاً كونه ألم .

- سلوكنا نتاج ثقافتنا التى لم نُدرك منها إلا المحددات وخطوطها العريضة فلم نعى كيف تولدت الخطوط ولأى رؤى تُعبر لنصل لحالة من الصنمية مع السلوك والأخلاق والقيم لنغفل أنها لم تأتى هكذا بدون دوافع شكلتها مصالح ذاتية للأقوياء لتصير ناموس يُجسد أفكارهم كوسيلة للهيمنة على القطيع .. كذلك الخير والشر ليس بناموس ساقط من السماء أو خارج من جوف الارض بل هو تقييمنا للأشياء وفق رؤي النخب والأقوياء للألم واللذة ليحقق لهم نظام يُرجى منه إرساء مصالحهم وتأمينها.

- لا يوجد معنى للأشياء بعيداً عن وعى الإنسان المُدرك للطبيعة التى تقذف بمشاهدها فى المشهد الوجودى بدون أن يكون لها أى مدلول أو معنى , فالزلازل والبراكين والأعاصير والأمطار والزرع بلا معنى , فنحن من نسقط المعنى والإنطباع على الأشياء وفق تقييم اللذة والألم حصراً , لذا لا تخرج أى فكرة عن وعى الإنسان وإنطباعه لتخلق معنى , ومن الاهمية بمكان إدراك هذا الأمر فقد شط الكثيرون ليتصورون المعنى والقيمة كحالة إستقلالية عن المشهد بل هناك من جعل الإنطباع خالق للمشهد .

- لا تخرج الحياة عن تصور وإدراك اللذة والألم والتأثر بهما والتعاطى معهما فلا يوجد فعل وفكر إنسانى يتحرك خارج نطاق البحث عن اللذة وتجنب الألم , فهكذا الحياة لا يوجد بها أى حراك إنسانى ينطلق خارج قطبى اللذة والألم فمنهما جاء كل السعى والتطور لتكون كل الإنجازات والإكتشافات والصراعات والحروب من فعل حدى اللذة والألم لتتشكل منهما رؤيتنا ووعينا .

- عندما نتكلم عن اللذة والألم فهى تعنى كل درجات وأطياف الإحتياجات الإتسانية المريحة والمزعجة , فاللذة تبدأ بالإرتياح والسلام والأمان لترتفع إلى درجات النشوة وكذلك الألم يبدأ بالخوف والقلق والإرتباك ليرتفع إلى أعلى مستويات الإيذاء والتوجع .

- اللذة والألم ليسا فهم مثالي ليرتبط إرتباطاً وثيقاً بالجسد المادي , فالجوع ألم والإشباع لذة لتتخذ الأمور أشكال عديدة مابين الوضوح المادي وبين التجريد ذو الأصول المادية ليتوهم المثاليون أن الشعور باللذة في الحب مثلا شعور مثالي روحي بينما اصوله مرتبطة بهرمونات وكيمياء تعتري الجسد .

- لن نفكر بدون ألم يوجعنا أو أمل فى إرتياحية لذة , ولن تنطلق آليات الدماغ لتنتج أفكار بدون وجود ألم مُدرك أو لذة منشودة ليبحث العقل عن الوسائل التى تجنبه الألم أو تحقق له اللذة وفق ما يمتلكه من معطيات فهكذا هي آلية الدماغ .. فنحن لم نصنع مقابض لأوانى الطهى إلا من الألم ولم نطور أدوات زراعتنا وصيدنا إلا طلباً لمزيد من اللذة المتمثلة فى الإشباع والأمان , فآلية العقل فى التفكير لا تتحرك إلا تحت إلحاح ألم يحاصرنا أو لذة منشودة حصراً , فلا مكان للتفكير بالسببية والبحث فيها عندما تتطرق لأشياء لا تقترب من لذة أو ألم .

- لن يعنينا طبيعة حجر فى عطارد ولكن سيعنينا طبيعة حجر فى صحراء الحجاز كونه يُنبأ عن وجود نفط أم لا .. كذلك لا يعنينا إنهيار نجم فى مجرة بحجم شمسنا ولكن سيعنينا إنهيار بيتنا أو تشرخه.. لن يعنينا تصادم مجرة بمجرة أو مصير أجرام يبتلعها ثقب أسود ولكن سيعنينا البحث عن سبب سقوط حجر من أعلى جبل على رؤوسنا أو إنهيار جسر ليكون كل تعاطى العقل فى إدراكه للألم واللذة حصراً بإنتاج أفكار لتجاوز ألم أو تحقيق لذة سواء بفكرة مكوناتها من واقعه المادى الموضوعى أو بفكرة خيالية تقوم بدور تخديرى , ليبقى الفرق بين الفكرة التى تستند إلى الوعى بالوجود المادى وتتعاطى معه كمكون وحيد للألم أفضل من الإتكاء على فكرة خيالية أنتجها الدماغ , ففى الأولى لن يتكرر ذات الألم لأننا عالجناه بفهم محدداته والثانية سيتكرر الألم بلا توقف لأننا تجاهلناه وعالجناه بشكل تخديري .

- صراع الإنسان مع الطبيعة هى صراعات باحثة عن اللذة المتمثلة فى الإشباع والراحة والأمان والإنتشاء ومقاومة للألم المتمثل فى الأذى الجسدى والضعف والخوف والقلق والعجز .. كذلك الصراعات البشرية هى صراعات اللذة والألم بعد أن أخذت أبعاد أكبر من الإحساس الفج المباشر باللذة والألم لتدخل فى رغبة الحصول على لذات مُختلقة كالتمايز والهيمنة مثلاً .

- كل آلام البشرية جاءت من الجهل بأسباب الألم وتجاوزه أو الفشل فى طرق تحقيق اللذة , ليستثمر هذا فئة من أصحاب المصالح فى تقديم حلول متوهمة تخديرية تنحو نحو التوسم والأمل أو التأجيل لتدغدغ مشاعر المُتعبين والمُتألمين فى العيش على الأمل الذى يجلب إفتقاده نتائج وخيمة لذا حظت الأديان وفكرة الإله على حضور قوى ومؤثر , فالله فكرة أنتجها العقل البدئى نتيجة عجزه المعرفى فى تلبية رغباته وأحاسيسه فى الحصول على أكبر قدر من اللذة وتجنب الألم .

- يبقى الموت هو الألم الأكبر الذى يزلزل أعماقنا ومن العجز عن مواجهة الموت خلقنا الآلهة والأديان والأساطير لتخلق حالة متوهمة بتجاوز الموت بحياة أخرى ليجد هذا الوهم حضور قوى فى الذهنية الإنسانية الباحثة عن مخدر لألم الموت فما نراه من حماس للإيمان والمعتقدات ماهو إلا حماس للوهم الذى نتجاوز به ألم الموت لدرجة قبول فكرة تحول الأجساد والعظام التى تحللت وذابت فى الطبيعة بأن مصيرها التجميع ثانية !!.. ألم الموت هو حجر الزاوية للإيمان بكل الخرافات والأديان والنظريات البائسة ولو تخلص الإنسان من هذا الوهم وأدرك أنها حياة واحدة فلن تجد من يتعبد ويصلى وهذا يكشف الغطاء عن هشاشة الوهم الإنسانى الذى تمدد ليخلق آلهة وأساطير وأديان ومعتقدات .

- عندما نعجز أمام الألم وتشل قدراتنا الفاعلة على دفعه لنعتاده ويتبلد إحساسنا به يلجأ الإنسان إلى حالة من التأقلم مع الألم ويتحول إلى واقع طبيعي فنستسلم له ومن هنا يأتى جمود الإنسان وتخلفه الحضارى من إعتياد الألم والتعايش معه لتصل لحالة من المازوخية تنتشر فى الشعوب المتخلفة كشعوبنا عندما تتلذذ بالألم وتحتفى به فقد ضاع الفهم والإحساس بالألم .

- تتهاوى المجتمعات الإنسانية عندما تختفى وتختلط الملامح الفاصلة بين اللذة والألم بل تصل الأمور فى دراميتها إلى قلب الصور الفطرية للذة والألم فيصير الألم لذة واللذة ألم لتصبح مفاهيم حرية الإنسان غير مقبولة ومنبوذة مثلما نجد من يرفض حرية الإنسان فى الفكر والإعتقاد والسلوك ويصادرها لتجد الإحتفاء من الغوغاء بهذا , فنحن هنا فقدنا البوصلة التى تجعلنا بشر أصحاب وعى صحيح وصحي باللذة والألم .

- اللذة والألم ليست أشياء حسية تتعاطى مع أعصاب وحالة مادية فجة فحسب كالنار التى تلسعنا أو ممارسة الجنس , فالإنسان كائن واعى مُبدع لدارات اللذة والالم ليسقط خيالاته خالقاً أشكال جديدة للذة والألم وفق لإنطباعاته مستحدثاً تمظهرات جديدة لهما وذلك بإستحضار لَذات إضافية كلذة الإشباع مثلا , فيتفنن فى إستحضار أشكال تمنح المزيد من المتعة له كتجهيز الطعام وطهيه بطرق فنية أو تجهيز أماكن راقية لتناوله وكذلك الجنس نال المزيد من الطقوس والإحتفاليات فلا يكتفى بلذة تفريغ حيوانات منوية من الجسم كحال التبول ليتم اضافة صور نراها مُبهجة تصبو لتحقيق المزيد من المتعة , ومن هنا نجد الكثير من تمظهرات اللذة والألم أساسها الإنطباع وحالة حسية تتأطر وفق ثقافات وحالات وأذواق مجتمعية إلى إدراكات تتأطر فيما يشبه تمظهرات جديدة للذة والألم .

- الإنسان من البراعة والذكاء ليتلاعب بالألم متى إمتلك قدرة السيطرة عليه فهو يبغى تأجيج لذته ليجعل لها مذاق خاص من خلال مداعبتها بالألم وذلك فى سبيل الحصول على حالة متوهجة من اللذة بعد أن فقد بعض المتعة من إعتيادها , ففكرة الصوم ما هى إلا مداعبة اللذة بالحرمان حتى يكون الطعام ذو لذة خاصة عند الإفطار , كما نستمتع بشرب ماء بارد بعد ظمأ شديد بينما لا تعترينا نفس اللذة فى ظل الإعتياد .. كذلك الجنس عندما تم تأطيره وحصره فى مؤسسة الزواج أصبح حلم وشبق ممتد فى تحقيق لذة ستفتر وهجها عند الإعتياد ليتكيف الإنسان أمام قهر منظوماته الإجتماعية ليخلق من ألمه لذة .

- تغطية الرجل والمراة لجسديهما منذ القدم ليس لحماية الجسد من برد وحر بدليل أنهما لم يكونا هكذا منذ البدء بل حتى الآن مازالت قبائل تعيش فى أفريقيا وحوض الأمازون عارية .. كما لم يكن تغطية الجسد جرياً وراء عفة ووأد شهوة بل على العكس تماماً , فتغطية الاجساد يطلب تأجيج الشهوة والتلذذ من خلال الفضول والشبق بإستحداث لذة طويلة ممتدة بالفضول ما تحت الملابس ليتأجج هوس الجسد , فالجسد العارى لن يشكل أى هوس من إعتياده وسيفقد شهوته ومن هنا نرى قدرة الإنسان الفذة فى خلق لذة بتأجيج الشهوة .

- الإنسان من رغباته الجامحة وسعاره للذة إختلق حالات جديدة من اللذة لا تقوم متعتها إلا بألم الآخر أى يحقق متعتة من خلال سادية لتسود هذه المتعة وتأخذ تمظهرات كثيرة نراها فى كثير من العلاقات الإنسانية بصور متفاوتة من الخضوع ولحس نعال الطغاة إلى التلذذ بممارسة القوانين والحدود القاسية , فمشهد إقامة الحدود من ذبح وقطع وجلد والتهليل لهذه العقوبات القاسية هى تلذذ بألم الآخرين أى سادية تتخفى وراء شعار تطبيق شرع الله .

- لم يتخلص الإنسان من العنف الكامن تحت مسام جلده فلم ينقرض بل قُل إنخفض منسوبه مع مسيرة التحضر , وليظهر من وقت لآخر فى حالة صراع القوة ليجد الإنسان لذته فى ممارسة العنف من خلال التقاتل والتشاحن والحروب فهى رغبات لتحقيق لذة العنف يُحركها مصالح النخب بينما إندفاع البسطاء نحو القتال ليس لراية وطن بل لتحقيق عنف كامن والتلذذ بتفعيله , كذلك يتحقق العنف بمشاهدته فالإحتفاء والتهليل عند مشاهدة المصارعة الحرة أو الملاكمة أو تطبيق الحدود الإسلامية أو مصارعة الألومبيك قديماً هو تلذذ بمشاهدة العنف .

- هناك من حول الألم لحالة إستمتاع لنحظى على حالة مازوخية تتحقق ايضا فى الكثير من الحالات الإنسانية بتلك اللذة فى الخضوع والإنسحاق والوصاية والتباهى بها كحال المرأة الشرقية التى لم تكتفى بخضوعها لقيود الرجل بل تتباهى وتتلذذ من التماهى فى هذا الوضع المزري كمحافظة على أخلاقها ودينها كما تدعى وماهى إلا مازوخية تتحقق من حالة نفسية عبودية بالرغم من عدم وجود علاقات عبودية مُقننة ليفضح هذا المشهد وهم المتشدقين بالحرية , فالعبودية حالة نفسية قبل ان تكون واقع معاش .

- تكون الأديان والمعتقدات المروجة لفكرة الجنه والجحيم تضليل للفكر الإنساني ليبدد حياته فى وهم وتصور وتخيل للذة مأمولة لتبعده عن واقعه الموضوعي ليصير هذا التصور تخدير وتضليل عن واقعه وحباته ليبدد حياته فى وهم مٌفترض مبتعداً عن تحقيق لذته الطبيعية الواقعية .

- يمكن القول أن كثير من أحاسيسنا باللذة والألم مُختلقة لا تمس الحاجات الطبيعية المباشرةً وذلك فى سعى الإنسان نحو خلق لذات يكون لها متعتها وإشتيقاها ومن هنا جاءت لذة التمايز لتدوس فى سعيها تحقيق لذة علي حساب الآخرين سواء أدركت الذات هذا بشكل واعى أو لم تُدركه لتتولد حالة جنينية من السادية أى المتعة فى إيلام الآخرين لتصير الحياة وفق رغبات مُتفاوتة مُتصارعة حول التمايز تدوس فى طريقها الضعفاء وسيكون لنا لقاء مع " فلسفة التمايز" كمُنتجة لكل الصراعات البشرية من فجر التاريخ وحتى الآن .

دمتم بخير .
اللذة والألم محور ومحرك ودينامو الحياة ومنهما خلقنا الأفكار والأديان والآلهة .