أهمية حسم قضية الوعي والوجود المادي


سامى لبيب
الحوار المتمدن - العدد: 7680 - 2023 / 7 / 22 - 18:51
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

- نحو فهم الحياة والإنسان والوجود (129) .

أرى أن قضية المادة والوعي أي علاقة الإنسان بالوجود المادي من القضايا الجديرة بالجدل والحسم فمنها يدرك الإنسان ماهية وسر وجوده , كما منها تتبدد أوهام وخرافات عتيدة إستوطنت فى الفكر الإنساني ..
يأني ها المقال للرد علي المقال الموجز للأستاذ نعيم إيليا الذي يتناول أن وعي الإنسان أحدث أثراً في الحياة كما ان الوجود المادي أحدث أثرا في وعي الإنسان , متصوراً ان ماركس ينفي تماما أن وعي الإنسان أحدث أثراً في الحياة .
file:///D:/%D9%86%D8%B9%D9%8A%D9%85%20%D8%A5%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A7%20-%20%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B9%D9%8A%20%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9%20%D8%A8%D9%8A%D9%86%20%D9%87%D9%8A%D8%BA%D9%84%20%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%83%D8%B3.htm

- قبل الولوج إلي هذه القضية وقبل إستحضار كتاباتي السابقة عن الوعي والوجود المادي لزم تعريف ماهو الوعي .
مفهوم الوعي يُعبّر عن مدى إدراك الإنسان للأشياء والعلم بها بحيث يكون في وضع اتّصال مباشر مع كل الأحداث التي تدور حوله من خلال حواسّه الخمس فيبصرها ويسمعها ويتحدّث بها وإليها ويشمّ رائحتها ويفكّر بأسبابها. أي أنّه يمثل علاقة الكيان الشخصي والعقلي بمحيطه وبيئته, ويضمّ مجموعة الأفكاروالمعلومات والحقائق والأرقام والآراء ووجهات النظر والمصطلحات والمفاهيم ذات العلاقة بكل ما هو ماديّ , كما تندرج مصطلحات المنطق والإدراك الذاتي والعقلاني والحسيّ والحكمة تحت مسمّى الوعي .

- من هنا أقدم تعريفي عن الوعي بأنه إدراك المادة الحية لوجودها وحراكها ونشاطها .. لذا يقتصر الوعي علي الوجود الإنساني فمن الهراء إعتبار أن الحياة تعني الوعي , فلا تحتوي الخلية الحية على وعي مُدرك بوجودها ونشاطها بل نحن أمام حالة حياتية كيميائية وهذا يحثنا على فهم جذور الإنسان وكيف جاء الوعي من مسيرة طويلة للتطور والتعقيد .

- قبل التطرق لتأملاتي وفلسفتي عن الوعي والوجود المادي لزم التعاطي مع ماطرحه الأستاذ نعيم فهناك جدلية بين تأثير الوجود المادي علي تشكيل الوعي وبين تاثير الوعي علي الواقع , ولكن يلزم الإنتباه أن الوعي الذي يؤثر علي الواقع هو في الاصل مُنتج من منتجات الوجود المادي وليس حالة إدراكية منفصلة مستقلة عن الوجود المادي .
لتوضيح هذه الجزئية فالإنسان يَخترع ويكتشف ويُبدع كمشهد يعطي إيحاء بان الوعي يؤثر على الواقع , ولكن هذا الوعي المُكتشف المُخترع نتاج التعاطي مع منظومة وقوانين المادة أى التعاطي مع هو مَوجود ومَحدد وليس خروج عنها بل الإبداع الخيالي نفسه هو التعاطي مع صور مادية بتركيبها بطريقة معينة فنتازية , ومن هنا يمكن القول ان الوجود المادي هو الذي ينتج ويشكل الوعي ويرسم ملامحه وما الإبداع والإكتشاف إلا صورة من تأثير الوجود المادي .

تأملات
- وهم الوعي أو قل إشكالياته تأتى من تصور أن الوعي ذو وجود حر مستقل مُفكر مُبدع خارج تأثير الوجود المادي دون أن تُقدم ماهية هذا الوعي , بينما الوعي هو نتاج طبيعي لظروف موضوعية مادية ما كان لها أن تكون إلا من هكذا محصلة , كما لن تخلو الأمور من مسيرة تطورية عفوية غير مُتعمدة ولا مُرتبة .

- وهم وإشكالية الوعي لدي البعض هو تصور أن الوعي سابق للوجود المادي فى إدعاء غريب وعجيب , فبالرغم من بديهية أن وجود الأشياء هى التي تنتج في داخلنا الوعي بها , فالمادة سابقة على الوعي كإحدى مفردات الفلسفة المادية الجدلية التى تسجل العلاقة بين المادة والوعي لتخرج من باب رؤية فكرية فلسفية لتدخل فى ميدان البديهيات والمسلمات , فيستحيل أن يتكون وعي عن شئ بدون أن يسبق هذا الشئ وجوده قبل نشوء فكرة عنه , فنحن نعرف التفاحة من وجود التفاحة , وإنعدام وجودها لن يخلق وعي بها لتشمل هذه الرؤية كل الأشياء المنطقية والخيالية , فحتى ما نراه خيالاً لن يتحقق كخيال إلا من خلال صور مادية سبقت الوعي , فمثلا عروس البحر هى تركيبات لرأس وصدر إمرأة مع جذع وذيل سمكة , كذا الفيل الطائر والحصان المجنح عبارة عن لصق أجنحة فى جسم الفيل والحصان , وهكذا من أشكال خيالية فنتازية هى تركيبات من عدة أجزاء مادية موجودة , ومن هنا نقول أن كل الصور والأفكار المعقولة والطبيعية والخيالية هى من منتجات صور مادية سبقت الوعي فى وجودها .
نضيف أيضا أن الصور والعلاقات المادية هى التي تشكل وعينا , فكل الأفكار الإنسانية منطقية أم خيالية تكونت من تأثير الوجود المادي المُدرِك لتسقط صورة الشيئ على مرآة الدماغ , ليقوم الدماغ بعملية تركيبات ولصق وإقامة علاقات وفق حصيلة الصور والعلاقات المادية الساقطة على الدماغ .

- الوجود المادي سابق علي الوعي ومُشكل لمفرداته هو السر لفهم لغز الحياة والوجود , فالأسبقية هنا تعنى أن الوعي لاحق لوجود المادة , لأعيد وأكرر أن الوجود المادي هو الذي يُشكل الوعي بكل مفرداته من فهم وإدراك وإحساس وسلوك , فالوجود المادي من ظروف مادية هو الحقل الوحيد الذي يشكل وعينا , فالطبيعة بكل أشكالها هي المُنتٍج الوحيد لمفردات وعينا .

- مقالي عن الوعي يخوض فى تلك الرؤي المثالية الميتافزيقية التى تتصور الوعي ذو حضور مستقل شبيه بالوحي أو الروح فى التصورات الميثولوجية ليعجزوا عن تفسير ماهية الروح والوعي بل يعجزوا تماما عن تفسير نشأة وتكون الوعي بينما الفكر المادي الجدلي يتعامل مع العلم والعقل والموضوعية والبديهيات , فمنشأ الوعي فى الجمجمة من خلال تفاعلات كيميائية وكهربية وعصبية فلا مكان لمفردة أخري لتكون الوعي .

- لا يملك المبتافزيقيون والمثالبيون القدرة على الرد على هذا الشرح العلمي الموضوعي بأن الوعي هو مُنتج الوجود المادي وأن أداءه جاء من وجود مادي متمثلا بتفاعلات المخ فلا يجدوا سوي القول ان الوعي هو حالة فكرية لا مادية ومن هنا يوجدوا مكان لفكرة اللامادة وللرد عليهم نقول عليكم مراجعة ما طرحناه ثانية ولتعطوا تعريف للامادة وللوعي ونشأته وتكونه بعيدا عن شرحنا , ولنضيف ما يصعقهم بأن الفكر والوعي هى حالة تفاعلات مادية محددة فى لحظة ما وسواء أدركتم هذا أو لم تدركوه فمن أين يأتي الوعي خلافا لتحقق تفاعلات مادية فى لحظة ما .

- فعل وتأثير المادة على الوعي حاضرة وملموسة فتعاطي الأدوية والمخدرات والخمور وحبوب الهلوسة تنتج حالة من الوعي المغاير كنتاج طبيعي لتأثير الكيمياء على الدماغ ليؤكد هذا أن الوعي بكل شططه وفكرة الخيالي والمنطقي نتاج حالة مادية ولا وجود للوعي المستقل .

لا يكون الوجود المادي سابق على الوعى ومُشكل لمفرداته مجرد رؤية فكرية فلسفية فنحن أمام واقع موضوعي لذا فهى تطيح وتنسف كل أوهامنا وخرافاتنا وفهمنا المغلوط عن الحياة والوجود ,من هنا لنا أن نضع بعض النقاط على الحروف :
- أن الوجود المادي سابق على الوعي ومُشَكل لمفرداته كقاعدة ذهبية لا يجب أن تغيب عن أذهاننا وَجدالنا فهى تنسف فرضيات وأوهام وخرافات كثيرة لذا من يريد إحياء فرضياته وأوهامه عليه إثبات أن الوعى مستقل سابق للمادة .
- عندما نفهم معنى المادة سابقة على الوعي ومشكلة لمفرداته فلا معنى لحشر تفسيرات ميتافزيقية غير مادية غير مُدركة ولا مُعَرفة فى تفسير الحياة والوجود .
- تتباين الأفكار من قراءتنا للظروف المادية لذا تعتبر الفلسفة الماركسية الأفضل والأثري كونها تعتمد وعي جدلي من الظروف المادية الحالية مُدركة للتطور والتغيير الحتمي بينما تعتمد الأفكار الأخرى على قراءة وعي إنسان قديم صاحب جهل وظروف خاصة ورؤية ثابتة .
- المنطق هو القراءة الصحيحة والحقيقية للواقع المادي والظروف الموضوعية , ومن هنا فأسبقية الوجود المادي على الوعى تعطينا بوصلة الفكر المنطقي , وفيما عدا ذلك فهو إحتيال وتلاعب بالكلمات .
- لا يعنى قولنا أن المادة سابقة على الوعى أن ننسى جدلية الحياة فهناك تأثير للوعي الذي تكون فى الحياة من فعل المادة على المادة ولكن هذا التأثير لن يخرج عن قراءة جديدة للواقع والظروف المادية المتاحة .. ولن تخرج الأمور فى النهاية عن التنظيم والصياغة فى التعامل مع قوانين المادة .
- المادة سابقة للوعى ومشكلة لمفرداته فلا معنى لتعظيم التاريخ أو تسخيفه , ولا معنى لتعظيم وتقديس شخصيات تاريخية , فالأمور لا تزيد عن ظروف مادية قهرية أنتجت الأحداث .

* تأملات فى الوعي .
دعونا نخوض فى أعماق الوعي لنجد أن الوعي صيرورة حتمية لا تمتلك قدرة الخروج عن محدداتها , بل كل مفردات الوعي هى نتاج محصلة تفاعل ظروف مادية موضوعية لتخرج الأمور عن وهم فكرة الوعى المُبدع المُستقل الحر
.
- الإنسان يشارك الموجودات الحية الأخرى بإمتلاكه لجسد وخضوعه نسبياً للغريزة إلا أنه يختلف عن بقية الكائنات الحية الأخرى الخاضعة كلياً للغريزة , كما يختلف عن الكيانات الجامدة في خضوعها الكلي للحتمية نظراً لتفرده بميزة الوعي .
يُنظر للوعي على أنه نقيض الغريزة ونقيض الحتمية , فبإعتبار الإنسان كائن لا يخضع للحتمية معناه أنه حر وله مبدأ الإقدام على الفعل أو الإحجام عنه , إذا تبدو الحرية كأنها ميزة تُخرج الإنسان عن سيرورة الأحداث وتجعله مستقلاً بذاته , لنتصور أن الإنسان لا يخضع للحتمية فى حياته بدليل تباين السلوك وطرق التفكير والمعالجة كما يتراءى لنا .. فى الحقيقة أن الإنسان خاضع للحتمية والغريزة وما وعيه إلا إدراك المادة لوجودها وكتعبير عن محصلة مجموعة من الحتميات والغرائز وإن كانت الأمور لا تتم بصرامة وفجاجة شديدة بل بقوة طرف مادي عن طرف آخر .

- دليلنا على الحتمية التى تشكل فكر ووعى وسلوك الإنسان أنه خاضع لسببية وهذا ما يلغى فكرة الحرية المزعومة , فسلوك الإنسان ليس إلا إستجابة لمؤثرات طبيعية وإجتماعية , بإعتبار أن رد فعل الإنسان يتناسب مع هذه المؤثرات ليصبح الواقع هو الذي يملي نوعية الإستجابة , فالوسط الذي نُوجد فيه هو السبب في تحديد مواقفنا وسلوكنا .. أما القول بأن هناك من الاشخاص من ينهج فكراً وسلوكاً مُغاير للوسط فهذا حادث بالفعل بخضوعه لمفردات ثقافية أخرى مكتسبة مغايرة فلن تنشأ الأفكار والسلوك من الفراغ .

- نحن لا نريد شيئا إلا في إطار ما نعرفه , فنحن لا نريد المجهول بل المعلوم , فالإرادة تتحرك في مجال المعرفة بإعتبار أن لا معرفة إلا للواقع ليصير الواقع إطاراً يُحدد الوعى والمعرفة اللاتي تحددا الإرادة , فذلك يعني أن الإنسان لا يخلق ما يريد وإنما يتبع الممكن تحقيقه , وحتى ما يريده ليس إلا لأنه يمكن أن يريده .. وطالما أن تحديد الإرادة هو نفي لها , فمن هنا نستنتج أن لا حرية حقيقية للإنسان على الأقل ظاهريا , وعليه لا وعى حقيقي , فلا وعى مستقل عن الحرية .

- من المعطيات السابقة نكتشف أن وضع الإنسان في الطبيعة غريب ومزدوج , فهو يخضع لعدة عوامل كالحيوان ولكن الفارق أنه يخضع لها وهو واع بها , وهذه الوضعية تجعلنا نتساءل : ما هي قيمة الوعي ؟ وكيف يَكون الوعي سلطة ذاتية للقرار؟ كيف يكون الوعي أداة لتمرير الخضوع ولا يخلص الإنسان منه ليكتسب حريته ؟ هل على الإنسان أن يكون له وعي ليعي أن لا قيمة له بإعتبار أنه يجد نفسه دائما أمام ما يتوجب عليه إختياره ؟ أليست وضعية الحيوان أفضل فهو مطمئن البال لا يحن لماض ولا يؤرقه حاضر ولا يتوسم في مستقبل ؟ فما هو جدوى الوعى إذن ؟!

- في الحقيقة هناك علاقة جدلية لا تنفصم بين الوعي والحرية فلا وعى بدون حرية وطالما الحرية المثالية وهم غير حاضر ومقيد بظروف موضوعية صارمة فهذا يعنى وهم الوعى وإشكالياته -(إرجع لمقالي عن وهم الحرية) .

- إن قلنا أن الحرية هي في إدراك وفهم وإتباع الضرورة , فالإنسان هنا مُجبر على إدراك الضرورة رغماً عنه , فعدم إدراكها وإتباعها يعنى فناءه وإنسحاقه أمام قوى الطبيعة , فهل بعد كل هذا نهلل للوعي والحرية ؟ أليست الحقيقة أن الإنسان إكتسب من الطبيعة وعياً بأن لا قيمة له ولا وجود مميز له ورغماً عن ذلك يلفظ هذا الوعى البدئي وينفيه بوهم وجود راعي معتني .

- الوعي بالوجود يعني الفهم والتفاعل مع الجزء المُدرك أو المُتشكل من الكون أي الجزء القابل للرصد بالنسبة لنا , والذي هو عبارة عن وعي صغير محدود بزاوية رؤية خاصة متباينة لنا للكون اللامحدود الغير قابل للرصد .

- الوجود البشري أو الوجود الواعي على الأرض هو شذوذ وجودي , شذوذ وجودي بمعنى أنه ليس شذوذًا عن قاعدة كونية إنما شذوذ كيفي قياساً إلى إحتمالات الوجود المتحققة بمعنى أن البشر حالة شاذة قياساً إلى الجماد والنبات والحيوان وليس قياساً لكل الإحتمالات الوجودية القابلة للتحقق .

- أعطى الوعي عند أغلب البشر للمشهد الطبيعي المنطقي البسيط بعدًا مأساوياً زائفًا , زائف من ذواتهم لأنه لاشيء يشذ عن قاعدة الوجود العام رغم ما يبدو من تلازم بين الوعي والمأساة .. الإشكالية أنه بدون الوعي لا يوجد إحساس بالخطر والإشكالية , وبالوعي يمكن إجتناب الخطر والإشكالية , ومن هنا أتصور أن من ينظر إلى الواقع وأدرك هذه الحقائق وإستطاع استيعابها من البشر أدرك كيف أن حياته عبارة عن وحدة وجودية من ضمن ملايين الوحدات الوجودية , وأنه معادلة وجودية بسيطة متناغمة منطقياً مع قوانين الطبيعة كسائر الموجودات , ومن أَحس بهذه الحقائق ولم يستطع استيعابها صار وجوده مأساة زائفة , وأمضى حياته واهماً عاجزاً عن النظر إلى الواقع منتظراً تغير قوانين الطبيعة لتعمل لصالحه ليتمكن من تحويل وهمه إلى حقيقة , فمن لم يشعر بهذه الحقائق أمضى حياته مُقلِّداً متقولباً باحثاً عن لاشيء لا يعرفه غير مُدرِك الفرق بين الوهم والحقيقة , ولنا الإيمان بالغيبيات والبعث والخلود مثالاً على الإنحراف والجنوح وتزييف الفكر والوعي بغية تحقيق شعور زائف .

- ما نعتبره وعياً يُميز البشر عن غيرهم هو مجرد إفراط لديهم في الإحساس بالألم تطور إلى إستشعار الألم قبل حدوثه مما أوجد لديهم رُهاب من الألم حتى دون وجود مؤشرات على إمكانية حدوثه وهذا ما يفرق الإنسان عن الحيوان , ذاك الإحساس المفرط بقدوم الألم وسيناريوهاته , وهذا ما جعل البشر قابلين لاعتناق الوهم دون غيرهم .

- هناك وهم بأن الوعي حر في سعيه ونتائجه وهذا خطأ شائع , فالوعي هو نتاج طبيعي لحالة معرفية ثقافية أنتجته , بمعنى أن الوعي لن يشذ عن الظروف الموضوعية التي أنتجته ليتحرك الوعي في إطار مفردات المعرفة المتاحة , فالوعي ليس ظاهرة منطلقة مُتحررة من الظروف الموضوعية من بيئة وجينات وثقافة وبيولوجيا وكيمياء دماغ .. وهذا يشبه لحد كبير مفهوم الحرية التى سبق الإشارة إليها .

- قد يعتبر البعض أن رؤيتي هذه عن الوعى قاصرة كونها تؤول فى النهاية للثقافة والموروث الفكري بينما الواقع يقول أن الوعي الإنساني فى الكثير من الأحيان غير مُتقيد ببيئة وثقافة بل بما ينهله من علوم ومعارف سواء من الهند أو السند .
بداية هذا الرد لم يشذ عن قولنا , فهناك علوم ومعارف وثقافة بديلة أنتجت الوعي وليست الثقافة السائدة فحسب وهذا يرجع لسهولة وسائل الإتصال بين البشر وتبادل المعلومات والمعارف , ولكنك لن تنتج وعيا فى فلاح أو بدوى بسيط بنظريات أينشتاين والفيزياء الحديثة فلابد من توافر مناخ فكرى وثقافي وعلمي يحقق الوعي .

- نحن نَعيّ رغماً عن أنوفنا بغض النظر عن حُسن تفكيرنا أو خطأه , فالأمور لا تزيد عن عملية تفاعلات كيميائية بيلوجية تتم فى الدماغ رغماً عنا لتنتج حالة من الوعي والمعرفة أى تركيب ولصق إنطباعاتنا التجريدية عن الأشياء .

- إدراكنا للوعي جاء من سيادة وعي مَفروض علينا بإعتباره وعياً صحيحاً أو هكذا يجب أن يكون الوعي بغض النظر عن المُقدم لنا كونه جيد أو ردئ فهذا يعتمد على سيادة وهيمنة ثقافة أو ميديا او أبحاث معينة إمتلكت وسائل القوة والسطوة فى أوقات بالإقتناع بهذا الفكر .

- الوعي قد يكون خاطئاً زائفاً فمثلاً هناك وعى مغلوط عن الحياة والوجود سوقتها الكتب الدينية والثقافات القديمة كالأرض المسطحة ودوران الشمس حول الأرض فى القبه السمائية ألخ وقد تساقطت وانهارت بوعي علمي جديد .

- الوعى قد يكون محبوكاً مراوغاً كإعتماد زوايا رؤيا خاصة أو ما يعتبرونه منطق كالسببية فلكل سَبب من مُسبب لتسويق وعي محدد خاطئ فالسببية مثلا تتعاطي مع سَبب ومُسبب مادي .. هذا لا يعنى صواب الوعي إلا بإحتكاكه بوعى مغاير ليتصارعا فكريا ولينتصر الوعي الأقرب للعلم بإعتبار العلم هو المقياس والفيصل والمحدد لصواب الأفكار .

- الوعي البشري هو مجموع معارف الإنسان وقناعاته وقدراته ومشاعره وإنفعالاته في كل لحظة , وهذه طاقات متغيرة من لحظة إلى أخرى ولا وجود لذات واحدة بمواصفات ثابتة تُمثل الإنسان في كل اللحظات حتى لدى المفكرين , ولكن هذه الحقيقة نتجاهلها وتلك هى المغالطة التي أدت إلى رسم صورة خاطئة لفكر وسلوك الإنسان وأدت إلى توجيه الوعي البشري وقولبته فى قالب واحد ,وهذا ما تتبعه الأيدلوجيات الدينية والشمولية لتحمل الإنسان المسئولية عن أمور مفروضة هي التي تصنعه وليس هو من يصنعها بينما الفكر المادي الجدلي يبحث فى أمور الطبيعة وكيفية تعديلها والتعايش معها ليس كقدر .

- ما يزال هَم الإنسان وجهده مُنصباً على انتزاع الإعتراف بقيمته الإفتراضية من أخيه الإنسان وتحقيقها على حسابه وذلك هو مبعث الخصومات الفردية والصراعات الجَماعية ومكمن الإشكالية الفكرية الأزلية لدى البشر .. فقيمة الإنسان لا تكون إلا على حساب إنسان مثله وذلك ما يرفضه الطرفان فيحتكمان إلى القوة المادية وتنشأ العداوات والحروب , فتسليم الطرفين بتعادلهما في القيمة يبدو لهم بمثابة إنتفاء لقيمة الاثنين معاً لأن كلاً منهما يُقاس بالنسبة إلى الآخر .
حالة التوازن الممتنعة تلك لا تتأتى إلا بإتفاق كل البشر على الإعتراف لبعضهم بالقيمة التي تُلبي حاجة الذات البشرية التي يُدركونها جميعاً وهو الأمر الذي يُحاربه دعاة العقائد الدينية فهم ألدّ أعداء المساواة فى القيمة , فالتسليم بالمساواة يفقدهم ويفقد الدين قيمته .. لا وجود لقيمةٍ مُعتبرةٍ للذات البشرية إلا بقياسها إلى ذاتها وهذا ينفيه واقع الحال .

- من مثال القيمة ندرك أن الوعي بإعتباره نضوج الإنسان الفكري والذهني ماهو إلا وهم يحقق رؤية نفسية ناقصة باحثة عن الإحساس بالقيمة فى عالم لم يمنح الوسام والقيمة لأحد , ليؤسس الواهمين وأصحاب الثقافات التى عزفت على أوتار رغبات إنسانية بالإحساس بالقيمة والتميز وهمهم .

- ما يحكم الحياة والوجود فعلياً هما القوة والضعف أو تعادل القوى ولا شيء آخر , ومن هذه المعادلة تَولد فى الوعي مفهوم الحق والصواب والخطأ .. البشر استطاعوا تحقيق التوافق والتكامل جزئياً وهذا الإنجاز نتاج تفرد قوة أو تعادل القوى وليس نتاج وجود مرجعية للحق والصواب .. فالإقرار بعدم وجود أصل لمفهومي الحق والصواب يعني إدراك الحاجة لخلق مرجعيات منطقية واقعية لتحقيق التوافق والتكامل .
اعتماد البشر على مرجعيات وهمية جعل وعيهم وقناعاتهم ومبادئهم وهمية مثل أحلامهم , فالاعتقاد أو الإيمان بوحدة الأصل لكل الأشياء هو إيمان بوحدة الحق والباطل ووحدة الصواب والخطأ ولا يوجد شيء اسمه صواب مستقل ومناقض لشيء آخر مستقل اسمه خطأ , كما لا يوجد شيء اسمه حق مستقل ومناقض لشيء آخر اسمه باطل .

- الاعتقاد بوجود الصواب يقود إلى الجزم بوجوده ..والجزم بصواب الأمور يُبرِر فرضها , وتبرير فرض أمر يُسهِل تبرير ما بعده وهكذا حصل مع البشر حتى أصبح مقياس صواب الأمور هو مدى إمكانية فرضها لا حقيقة صوابها مثال ذلك إضطرار المسلمون منذ البدء لإصدار فتاوى التكفير والتهديد بحد الرِدة وإهدار الدماء ثم الإرهاب والقتل بأبشع الطرق والوسائل كل ذلك لتخويف البشر ومنعهم من التساؤل حول حقيقة وجود شيء اسمه صواب خارج صوابهم .
توجد حقائق عديدة تجعل كل صواب ناقص بالضرورة وأهم هذه الحقائق وأوضحها هو أن الإنسان ناقص , وأن هذا الإنسان الناقص لا يمكنه إلا أن يكون جزء من منظومة قياس تُحدد الصواب , وهذا يعني أنه لا يمكن أن توجد منظومة مُحايدة وكاملة لتحديد الصواب .. لذلك فلا معنى للحديث عن الصواب لكن يمكن البحث والاتفاق حول صواب نسبي , بحيث يُحكم عليه من خلال نتائج يمكن للكل رصدها وقبولها لا من خلال مرجعيات غيبية يفرضها ويقدسها البعض على البعض , ومن هنا ينتفي وهم الإله المنتج للاخلاق , فالأخلاق منذ البدء هو منتج بشري يبحث عن صواب نسبي .

- وعى الإنسان هو خلاصة تفاعله مع الطبيعة وهذا قد يقوده إلى إنعدام معنى للوجود لأري إن إنعدام معنى للوجود الإنساني سيكون بمثابة الصفعة التي تصفع كل مغرور متكبر لتفقده كل تكالبه وشهواته الأنانية وكل ذلك سيخدم التعايش السلمي ... قد يتصور البعض أن هذا يقود للعدمية القاتلة والانتحار ولكن أرى الأمور عكس ذلك فليس معنى إدراك الخطر أن نرتمي في أحضانه بل يمكن القول أن نتيجة إدراك إنعدام معنى للوجود ستكون ايجابية , فسوف يضطر الإنسان ليبدع معني حتي لا يعيش الحياة بعدمية كالتآخى مع غيره , ليُدرك أن لا معنى خارجه ولا داعي لجلبة معاني متوهمة , كذا لا معنى لهذا الصراع على الملكية والنفوذ والجاه ولا فائدة ترجى من وراء الاستعمار وشن الحروب , فالقتل لا يضفي معنى على الوجود ولن ينقذ صاحبه من الموت والإندثار , ومن هنا سوف يتوحد الناس ويخلقوا أهداف وغايات في مواجهة العدم .

- ليست هذه رؤية صوفية رهبانية , فالرؤية الصوفية الرهبانية رؤية مُستسلمة خاضعة ذليلة غارقة فى مازوخيتها تستمتع بالإنسحاق أمام قوى الطبيعة مستسلمة لها منسحقة أمامها .. خلاصة القول أن صلاح حال البشرية عندما يدرك الإنسان لا معني للحياة ولن يصل إلى ذلك إلا بعد تطور فهمه وبعد أن يخلق معانيه الخاصة ومشروعه الإفتراضي متحدياً عدمية الحياة والوجود شريطة أن يدرك أن مشروعه هذا هو للإلهاء والتحدي فلا يتسرب ليقينه أنه عمق الحياة .

- عندما نعلم أن الوعي هو نتاج تفاعلات كيميائية فى الدماغ شاء حظ كل منا أو قل الصدفة التى تزعج البعض أن تتفاعل هكذا لتنتج فكر وإنطباع وسلوك وإنفعال فمن هنا لا يتغنى أحد بذكاءه وتفرده الواعي بل فليغنى للحظته مع الكيمياء .

- بعد هذه الإستفاضة عن الوعي وعلاقته بالوجود المادي ستتبدد أوهام وخرافاات عتيدة عن وجود إله وعن وهم الأديان والمقدس كذا ستنقشع نظرتنا للحرية وعن وهم الجمال وسنرى العالم والوجود بعيون نظيفة لذا لا يجب إهمال قضية المادة والوعي .

دمتم بخير وعذرا علي الإطالة .