اللذة والألم محور ومحرك الحياة ومنهما خلقنا الأفكار


سامى لبيب
الحوار المتمدن - العدد: 7185 - 2022 / 3 / 9 - 18:59
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

- نحو فهم الحياة والإنسان والوجود (117) .

- عندما نحاول البحث فى الوجود فهذا يعنى البحث عن رؤية الإنسان وإحساسه وإنطباعاته وإنفعالاته ونوازعه الداخلية فهو الكائن الوحيد الذى يستقبل الوجود بوعى ليسقط عليه رؤيته وتجاربه وأحكامه وتقييماته , لذا يكون فهمنا للوجود عند البحث فى أبعاد الإنسان النفسية وآفاق ومحددات تفكيره ومدارات وآليات الدماغ التي تتحرك حصراً لإيفاء حاجاته الجسدية والنفسية بإنتاجها للأفكار كوسيلة .

- الحياة مجموعة هائلة من الإنطباعات نختزن مع كل مشهد وصورة إنطباع يُكَون موقفنا وتقييمنا للمشهد الوجودي يؤطره الحاجة والإشباع والأمان , ويتحدد الإنطباع وفق قطبي اللذة والألم ليتم إختزان الصور والإنطباعات فى أرشيف الدماغ لنستدعيها عند الحاجة , فالأفكار نتاج مجموعة صور هائلة تم ترتيبها وتجميعها بطريقة نراها منطقية أو خيالية لتحقق حالة من الإشباع الجسدي والنفسى .

- الإنسان لا يفكر إلا تحت ضغط الحاجة والعقل لا يفكر إلا لتلبية إحتياجات مشاعره وأحاسيسه فقط , فلا توجد فكرة بدون إحساس يسبقها ويطلبها كما أن العقل لا ينتج الأفكار من ذاته بل يَكون إنتاجه للفكرة تحت وطأة تلبية حاجة مشاعره وأحاسيسه وإنفعالاته,
فلو مسكنا إناءاً ساخناً سنحس بالألم من لسع الحرارة لأناملنا ومن الشعور بالألم نتجنب لمس الأواني الساخنة كفكرة , ومن الممكن أن نطور الفكرة لنجعل ماكينة العقل تعمل على تجنب وتفادى الألم , فيبدع العقل فكرة صنع مقابض خشبية أو من لدائن بلاستيكية للأواني حتى نستطيع مسكها وهى ساخنة .. إذاً لولا الألم المصاحب للمس الآنية الساخنة ما كنا فكرنا فى إبداع المقابض العازلة للحرارة .

- نحن نشعر بالألم من جراء الجوع فنتغلب على جوعنا بإلتهام النباتات وجذورها , وتحت وطأة الألم الناتج من الجوع المستمر بدأنا نفكر أن نزرع الأرض لتنتج لنا إنتاج مستمر من الحبوب والبذور , وتحت ألم الجوع أيضا وكيفية التغلب عليه دفعنا ماكينة العقل إلى المزيد من التفكير والإبداع لتنتج لنا أفكار هائلة لزيادة الإنتاجية الزراعية للمحاصيل ودراسة الآفات التى تهدد مزروعاتنا وعليه أنشأنا مراكز للبحوث والدراسات التى تتناول علوم النبات والمحاصيل والآفات والأسمدة..إذن كل إبداعات العقل الإنسانى جاءت وليدة رغبته فى التغلب على الشعور بالألم .

- الإنسان كائن بيولوجي متطور.يمتلك جسده بكل حواسه وأحاسيسه ويكون تفاعله مع العالم المادي من خلال هذا الجسد ,ليمكن إختزال فكرة الإنسان فى كونه كائن يعيش متأرجحا ما بين اللذة والألم فمهما تعقدت أمور الحياة وبدت لنا أنها شديدة التعقيد فلن تخرج عن الرغبة فى اللذة ومحاولة تجنب الألم .

- تحت وطأة الألم واللذة يعمل العقل في هذا المضمار ولا ينتج أي أفكار إلا لمحاولة إيجاد وإزالة الألم فلا توجد أفكار ينتجها الدماغ تأتى من الفضاء بلا معنى ولا جدوى , بل كلها تخدم مجمل مشاعره وأحاسيسه وإنفعالاته .

- إنتاج الأفكار لا تقف على مجمل الظروف المادية الحسية المباشرة المطلوبة التىي يحتك بها الإنسان بل تتعدى هذا الأمر لتنتج الفلسفة والمعتقدات والأديان , فالفلسفة والمعتقدات والأديان هى أفكار لم تأتى من الهواء بدون أن تفى الحاجة للذة وتجنب وتفادي الألم , فالذهن البشرى لن ينتج فكرة بدون أن تحركها وتدفعها المشاعر والإنفعالات والإحاسيس كما أشرنا .

- فكرة الإله لم ينتجها الإنسان إلا تحت تأثير إضطراب مشاعره وإنفعالاته كما لا تخرج بأى حال من الأحوال عن قضية تجنب الألم الذى هو حجم المعاناة مع الطبيعة كما هو البحث عن اللذة المتمثلة فى حالة من الأمان والسلام مع حالته الوجودية في الطبيعة .

- إذا كان الإنسان الحديث قد طوع الطبيعة لتلبية إحتياجاته من الغذاء والتغلب على الجوع من خلال التكنولوجيا والخبرات العلمية التي جعلته يبنى السدود للتغلب على الفيضانات الكاسحة وكذلك إنتاج الأسمدة التى تزيد من الإنتاج الزراعى والمبيدات التى تتغلب على الآفات التى تنازعه فى طعامه , فإن الإنسان القديم لم يختلف عنا فى الإستراتيجية العامة وإن إختلف بأفكاره وقدرته المعرفية أى فى تكتيكاته ,فهو لم يجد حيلة أمام الفيضان إلا بتشخيص كائن قوى كالطبيعة في درء هذا الخطر الذي يهدد زراعته , فتصور أن هذا الإله يكون بديلاً عن الأسمدة فبرضاه تكون البركة بديلاً عن عجزه المعرفي للسماد , ولعنته هى السماح للآفات والحشرات أن تأكل الزرع والحرث وعليه أن يقدم القرابين بديلاً للمبيدات التى لم يعرفها .

- من الممكن أن نمد الأمور على إستقامتها لنصل فى النهاية أن أى فكرة لم تأتى إلا وليدة وإحتياج فعلى لتجاوز الألم والشعور باللذة , فلو لم يكن الجوع ألماً لما خلقنا التكنولوجيا والآلهة التى تعبر بنا هذا الشعور , ولو لم تكن الفيضانات والأعاصير والزلازل ألمًا يغمرنا بكم لا بأس به من الأحاسيس المؤلمة الحزينة المضطربة لما إبتكرنا السدود والآلهة التى تحفظنا من هكذا بشاعة ألم , ولو لم يكن الخوف شعور وإحساس يقلقنا ويؤلمنا لما صنعنا آلهة وأسوار حول منازلنا , ولو لم يكن الموت إحساس مؤلم يزلزل نفوسنا لما خلقنا الإله الذى يعبر بنا عالم الموت .

- يكون منهجنا الحياتي منذ الإنسان البدئي وحتى الآن هو كيفية أن نحظى على اللذة وكيفية تجنب الألم ولا تكون هناك وظيفة للدماغ غير ذلك , فنحن لا تنتج أفكار وإبداعات إلا لتلبية هذا المطلب الوحيد والمكلف به الدماغ حسراً , فمهما تعقدت مظاهر الحياة فلن تخرج وظيفة الدماغ عن هذا المطلب الوحيد .. الله فكرة أنتجها العقل البدئي نتيجة جهله وعجزه المعرفي فى تلبية رغباته وأحاسيسه يالحصول على أكبر قدر من اللذة وتجنب الألم .

- يمتلك الإنسان جهازاً عصبيًا يجعله يحس بالألم واللذة ..وتتأرجح حياته مابين السعى لتحقيق اللذة وتجنب الألم , ولا يوجد ألم بدون لذة كما لا توجد لذة بدون الألم , كما لا يوجد بالحياة ألم دائم ولا لذة دائمة , ولعل هذه هى متعة الحياة الحقيقية ..ومن هنا فمن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن شعورنا باللذة والألم تتم من خلال الأعصاب وتفاعلات كيميائية شأننا شأن أي وجود حي طبيعي آخر أي أننا نتاج الطبيعة فهي التي تنتج وتشكل سلوكنا وإنفعالاتنا وإنطباعاتنا ولا إستقلالية خاصة لنا , ليكون التميز عن الكائنات الطبيعية الأخري هو الوعي باللحظة والقدرة على إستحضارها وتطويرها .

- لو تخيلنا حياة بلذة ومتعة دائمة فلن نفهم أو نحس بقيمتها لإفتقادها للألم كذلك الأمر بالنسبة للألم فلن تكون له قيمة أو إحساس بدون أن نعبر لحظات من اللذة , فمن داخل الألم تتولد اللذة ومن رحم المتعة يأتي الألم كعلاقة جدلية بين الإثنين لا يمكن أن ينفصلا عن بعضهما البعض , ومن هنا ندرك عبثية أسطورة الخلود في الجنه والجحيم .

- صحيح أننا نبحث بحثا دؤوباً عن اللذة ولكن بنفس المقدار نبحث عن الألم أو نستحضره حتى ندرك قيمة المتعة !! نعم ..هى الفطرة الغريبة التى تعلمناها فنحن لا يمكن أن نحس بالمتعة دون أن نعرج ونشاهد ملامح من الألم .

- لماذا مازال عالقا فى نفسى ذكرى حب قديم أو ألم قديم ؟ ولماذا أستدعى حزني وألمى ؟ لماذا تكون ذكرياتي الأليمة حاضرة على جدران نفسى بالرغم من مرور السنين عليها وبالرغم من عدم جدوى مثل هكذا مشاعر مُبددة ؟ لماذا نعيش تجربة وجدانية لا نحصد منها غير الألم ؟..وما الفائدة فى التمرغ فى أحضانها ولن تعطينا غير حصاد من الألم والحسرة والفشل ؟ هو إستدعاء للألم للشعور والإحسلس باللذة .

- بقدر حرصنا على اللذة نحرص على وجود الألم بل نفتش عنه ونستحضر مشاهده حتى نحظى على قدر هائل من المتعة .!! فلن أستمتع بشرب الماء إلا إذا كنت عطشان وحلقى شديد الجفاف , ولن أستمتع بالطعام إلا عندما أكون جائعاً أو محروماً من تناوله , لن أستمتع بذروة الجنس إلا عندما أكون محروماُ منه وفى حالة شبق هائلة تطلبه وتناديه .

- نحن نحس ونستمتع بالأشياء فى حالة فقدها وقد نحاول أن نفقدها لنعثر عليها ونستمتع بألم المعاناة للحصول عليها!! نطلب الجنس بإستمرار ولكننا نعقد طرق الوصول إليه حتى نستمتع بالمتعة التي تجعلنا نحاول تجاوز ألم الحرمان !!.. فى حياتنا المعاصرة لم يكتفى الإنسان أن يسعد باللذة بل بجهاده للحصول عليها من مخاض ألم !

- فى بعض الأحيان نتماهى فى الإغراق الباحث عن المتعة من خلال أنفاق الألم فنضل الطريق فى السراديب الداخلية ونبدأ فى إستعذاب الألم ذاته .وهنا خطورة التطرف في صراط الألم اللذة .

- الإنسان المعاصر من حجم التعقيد الذى يعيشه لم يعد يكفيه قطعة خبز التي تسد ألم جوعه فيبحث عن متع تفصيلية زائدة بالتماهى فى الإعداد والتجهيز والتنسيق للطعام ..كما لم يعد يكفيه أن يحصل على لذة الجنس كطبيعتها بل أضاف لها خطوط وألوان وطقوس وترتيبات ليزيد من سقف المتعة ! .. إذن الإنسان قادر على إبداع الأفكار التى تفي بحاجته من المتعة واللذة وتوظيف كل حياته وبرامجه للحصول على أكبر قدر من المتعة مع وجود مشاهد من الألم حاضرة فى الذهن لتجعل للمتعة معنى وقيمة .

- لو لم نستطع أن نخلق فكرة واقعية لتحقيق حالة من المتعة واللذة , فلن نغلب فى أن نبتكر فكرة خيالية تحت وطأة عجزنا وجهلنا لتحقق لنا أملاً فى متعة نرغبها وألم نريد أن نتجبه , لذلك إبتكر الإنسان فكرة الإله ليخلق به حالة من تجنب الألم ..فهو إجابة لألمنا القاسى مع الطبيعة وهو السند الذى نتكأ عليه لعبور عذاباتنا وألامنا فى الحياة ...من هنا نسجنا عالم إفتراضي خلقناه فى خيالنا من عالم المتعة الراغبة فى أن تتجاوز كل حدود الألم فى العالم الأرضى ..فالشقاء والمرض والفقر والظلم هى آلام نكتوى بها ونحاول تحملها حتى نعبر منها إلى عالم الراحة واللذة .لتكون فكرة الله هو إيجاد المُسكن لتحمل الألم وأدلجة الألم حتى نعبر منه إلى عالم المتعة , ولتمد الفكرة أبعادها لنخلق منها عالم لذتنا فنحقق كل أحلامنا وشبقنا فى المتعة من خلال الحياة السرمدية بلا إنقطاع والحافلة بكل ما نشتهيه من متع ولذة وشهوة .

- الخطورة تكمن فى وهم التمتع والتلذذ بلذة بالإرتماء فيه بدون وجود يقين داخلي بحقيقة المتعة المنتظرة , لذا يمرر الفكر الدينى فكرة الألم واللذة فى داخلنا دون أن نبارح مكاننا من عالم أرضى معاش فى عبوره لتؤجل الحلول إلى عالم إفتراضي , فنصبح أسرى ألامنا لنعيشها ونقتات منها وندمنها ونستعذبها لنبدد قيمة الحياة من أجل وهم متعة ولذة منتظرة .

- تكون رؤيتنا المغلوطة للحياة أننا منحنا الإستقلالية للمعنى والقيمة والغاية بالرغم أنها إنطباعاتنا وتقييماتنا وزواية رؤيتنا الذاتية غافلين عن ذلك .. لذا أرى أن بحث الإنسان عن آلهة جاء لأسباب باحثة عن تجسيد معنى وقيمة وغاية للحياة تطلب إيفاء حاجاته النفسية فى الأساس ليكون الولوج في سراديب اللذة والألم هو الطريق لمعرفة من أين يأتي المعنى والقيمة والغاية للوجود والحياة وماهية الأسباب التى دعت الإنسان لخلق أفكاره ومعتقداته وسلوكياته .

- محاولة الإنسان أن يصيغ الحياة من خلال نظريات وقوانين وسلوك ونظام هى محاولة لترجمة الواقع فى صورة فكرية مُجردة , لذا تكون النظريات والقوانين زاوية رؤيتنا ورصدنا وتقييمنا وملاحظاتنا للأشياء لنصيغها فى علاقات وكوننا نتقارب فى الطبائع والإرسال والإستقبال فسنحول النظريات والقوانين والمواقف إلى ثقافة , ولكن أصحاب الفكر المثالي الميتافيزيقي قلبوا الآية فحولوا الصور الفكرية إلى وجود فاعل ومؤثر ومستقل ومن هنا توطنت الأوهام والخرافات من وضعية العربة أمام الحصان .

- أخلاق الإنسان وسلوكه ونظرته للوجود تكمن فى انحيازه لتناقض على تناقض ,فالحياة والوجود لا يتواجدا إلا من خلال وجود الضدين لنجد أنفسنا قد إخترنا الإنحياز لضد وإعتبرناه مثالياً كونه يحقق لذة ما ليكون الضد الآخر قبيحاً كونه ألم .

- سلوكنا نتاج تفاعلنا مع الطبيعة التى لم نُدرك منها إلا خطوطها العريضة فلم نعى كيف تولدت الخطوط ولأي رؤى تُعبر لنصل لحالة من الصنمية مع السلوك والأخلاق والقيم لنغفل أنها لم تأتى هكذا بدون دوافع شكلتها مصالح ذاتية للأقوياء لتصير ناموس يُجسد أفكارهم كوسيلة للهيمنة على القطيع .. كذلك الخير والشر ليس بناموس ساقط من السماء أو خارج من جوف الأرض بل هو تقييمنا للأشياء وفق رؤي النخب والأقوياء للألم واللذة ليحقق لهم نظام يُرجى منه إرساء مصالحهم وتأمينها.

- لا يوجد معنى للأشياء بعيداً عن وعى الإنسان المُدرك للطبيعة التى تقذف بمشاهدها فى المشهد الوجودي بدون أن يكون لها أى مدلول أو معنى , فالزلازل والبراكين والأعاصير والأمطار والزرع بلا معنى .فنحن من نسقط المعنى والإنطباع على الأشياء وفق تقييم اللذة والألم حصراً , لذا لا تخرج أي فكرة عن وعى الإنسان وإنطباعه لتخلق معنى , لذا من الأهمية بمكان إدراك هذا الأمر فقد شط الكثيرون ليتصوروا المعنى والقيمة كحالة إستقلالية عن المشهد بل هناك من جعل الإنطباع خالق للمشهد !

- لا تخرج الحياة عن إدراك اللذة والألم والتأثر بهما والتعاطى معهما فلا يوجد فعل وفكر إنساني يتحرك خارج نطاق البحث عن اللذة وتجنب الألم فهكذا الحياة لا يوجد بها أى حراك إنسانى ينطلق خارج قطبي اللذة والألم فمنهما جاء كل السعي والتطور لتكون كل الإنجازات والإكتشافات والصراعات والحروب من فعل حدي اللذة والألم لتتشكل منهما رؤيتنا ووعينا .

- عندما نتكلم عن اللذة والألم فهى تعنى كل درجات وأطياف المشاعر الإتسانية المريحة والمزعجة , فاللذة تبدأ بالإرتياح والسلام والأمان لترتفع إلى درجات النشوة وكذلك الألم يبدأ بالخوف والقلق والإرتباك ليرتفع إلى أعلى مستويات الإيذاء والتوجع .

- لن نفكر بدون ألم يوجعنا أو أمل فى إرتياحية لذة ولن تنطلق آليات الدماغ لتنتج أفكار بدون وجود ألم مُدرك أو لذة منشودة ليبحث العقل عن الوسائل التي تجنبه الألم أو تحقق له اللذة وفق ما يمتلكه من معطيات ..فنحن لم نصنع مقابض لأوانى الطهى إلا من الألم ولم نطور أدوات زراعتنا وصيدنا إلا طلباً لمزيد من اللذة المتمثلة فى الإشباع والأمان ,فآلية العقل فى التفكير لا تتحرك إلا تحت إلحاح ألم يحاصرنا أو لذة منشودة حصراً, فلا مكان للتفكير بالسببية والبحث فيها عندما تتطرق لأشياء لا تقترب من لذة أو ألم.

- لن يعنينا طبيعة حجر فى عطارد ولكن سيعنينا طبيعة حجر فى صحراء الحجاز كونه يُنبأ عن وجود نفط أم لا .. كذلك لا يعنينا إنهيار نجم فى مجرة بحجم شمسنا ولكن سيعنينا إنهيار بيتنا أو تشرخه.. لن يعنينا تصادم مجرة بمجرة أو مصير أجرام يبتلعها ثقب أسود ولكن سيعنينا البحث عن سبب سقوط حجر من أعلى جبل على رؤوسنا أو إنهيار جسر ليكون كل تعاطى العقل فى إدراكه للألم واللذة حصراً بإنتاج أفكار لتجاوز ألم أو تحقيق لذة سواء بفكرة مكوناتها من واقعه المادي الموضوعي أو بفكرة خيالية تقوم بدور تخديري , ليبقى الفرق بين الفكرة التى تستند إلى الوعى بالوجود المادي وتتعاطى معه كمكون وحيد للألم أفضل من الإتكاء على فكرة خيالية أنتجها الدماغ ,ففى الأولى لن يتكرر ذات الألم لأننا عالجناه بفهم محدداته والثانية سيتكرر الألم بلا توقف لأننا تجاهلناه وعالجناه بشكل تخديري .

- صراع الإنسان مع الطبيعة هى صراعات باحثة عن اللذة المتمثلة فى الإشباع والراحة والأمان والإنتشاء ومقاومة للألم المتمثل فى الأذى الجسدي والضعف والخوف والقلق والعجز .. كذلك الصراعات البشرية هى صراعات اللذة والألم بعد أن أخذت أبعاد أكبر من الإحساس الفج المباشر باللذة والألم لتدخل فى رغبة الحصول على لذات مُختلقة كالتمايز والهيمنة وهو ما سنتعرض له لاحقا .

- كل آلام البشرية جاءت من الجهل بأسباب حصار الألم وتجاوزه أو الفشل فى طرق تحقيق اللذة ليستثمر هذا فئة من أصحاب المصالح فى تقديم حلول متوهمة تخديرية تنحو نحو التوسم والأمل أو التأجيل لتدغدغ مشاعر المُتعبين والمُتألمين فى العيش على الأمل الذى يجلب إفتقاده نتائج وخيمة لذا حظت الأديان وفكرة الإله على حضور قوى ومؤثر ,فالله فكرة أنتجها العقل البدئي نتيجة عجزه المعرفى فى تلبية رغباته وأحاسيسه بالحصول على أكبر قدر من اللذة وتجنب الألم .

- يبقى الموت هو الألم الأكبر الذي يزلزل أعماقنا , فمن العجز عن مواجهة الموت خلقنا الآلهة والأديان والأساطير لتخلق حالة متوهمة بتجاوز الموت بحياة أخرى ليجد هذا الوهم حضور قوى فى الذهنية الإنسانية الباحثة عن مخدر لألم الموت , فما نراه من حماس للإيمان والمعتقدات ماهو إلا حماس للوهم الذي نتجاوز به ألم الموت لدرجة قبول تحول الأجساد والعظام التى تحللت وذابت فى الطبيعة بأن مصيرها للتجميع ثانية !!.. ألم الموت هو حجر الزاوية للإيمان بكل الخرافات والأديان والنظريات البائسة ولو تخلص الإنسان من هذا الوهم وأدرك أنها حياة واحدة فلن تجد من يتعبد ويصلى وهذا يكشف الغطاء عن هشاشة الوهم الإنساني الذى تمدد ليخلق أساطير وأديان ومعتقدات وفلسفات .

- عندما نعجز أمام الألم وتشل قدراتنا الفاعلة عن دفعه لنعتاده ويتبلد إحساسنا به يلجأ الإنسان إلى حالة من التأقلم مع الألم ويتحول إلى واقع طبيعي فنستسلم له , ومن هنا يأتي جمود الإنسان وتخلفه الحضاري الإنساني من إعتياد الألم والتعايش معه لتصل لحالة من المازوخية تنتشر فى الشعوب المتخلفة كشعوبنا عندما تتلذذ بالألم وتحتفى به فقد ضاع الفهم والإحساس بالألم .

- تتهاوى المجتمعات الإنسانية عندما تختفى وتختلط الملامح الفاصلة بين اللذة والألم بل تصل الأمور فى دراميتها إلى قلب الصور الفطرية للذة والألم فيصير الألم لذة واللذة ألم , لتصبح مفاهيم حرية الإنسان غير مقبولة ومنبوذة مثلما نجد من يرفض حرية الإنسان فى الفكر والإعتقاد والسلوك ويصادرها لتجد الإحتفاء من الغوغاء بهذا , فنحن هنا فقدنا البوصلة التى تجعلنا بشر أصحاب وعى صحيح وصحي باللذة والألم .

- اللذة والألم أشياء حسية تتعاطى مع أعصاب وحالة مادية كيميائية كالنار التى تلسعنا أو ممارسة الجنس , فالإنسان كائن واعى مُبدع لدارات اللذة والألم ليسقط خيالاته خالقاً أشكال جديدة للذة والألم وفق لإنطباعاته مستحدثاً تمظهرات جديدة لهما وذلك بإستحضار لَذات إضافية للذة الإشباع مثلا ,فيتفنن فى إستحضار أشكال تمنح المزيد من المتعة له كتجهيز الطعام وطهيه بطرق فنية أو تجهيز أماكن راقية لتناوله وكذلك الجنس نال المزيد من الطقوس والإحتفاليات فلا يكتفى بلذة تفريغ حيوانات منوية من الجسم كحال التبول ليتم اضافة صور نراها مُبهجة تصبو لتحقيق المزيد من المتعة ,من هنا نجد الكثير من تمظهرات اللذة والألم أساسها الإنطباع وحالة حسية تتأطر وفق ثقافات وحالات وأذواق مجتمعية إلى إدراكات تتأطر فيما يشبه تمظهرات جديدة للذة والألم .

- الإنسان من البراعة والذكاء ليتلاعب بالألم متى إمتلك قدرة السيطرة عليه فهو يبغى تأجيج لذته ليجعل لها مذاق خاص من خلال مداعبتها بالألم وذلك فى سبيل الحصول على حالة متوهجة من اللذة بعد أن فقد بعض المتعة من إعتيادها , ففكرة الصوم ما هى إلا مداعبة اللذة بالحرمان حتى يكون الطعام ذو لذة خاصة كما نستمع بشرب ماء بارد بعد ظمأ شديد بينما لا تعترينا نفس اللذة في ظل الإعتياد .. كذلك الجنس عندما تم تأطيره وحصره فى مؤسسة الزواج أصبح حلم وشبق ممتد فى تحقيق لذة ستفتر وهجها عند الإعتياد ليتكيف الإنسان أمام قهر منظوماته الإجتماعية ليخلق من ألمه لذة .

- تغطية الرجل والمراة لجسديهما منذ القدم ليس لحماية الجسد من برد وحر بدليل أنهما لم يكونا هكذا منذ البدء بل حتى الآن مازالت قبائل تعيش فى أفريقيا وحوض الأمازون عارية .. كما لم يكن تغطية الجسد جرياً وراء عفة ووأد شهوة بل على العكس تماماً , فتغطية الأجساد يطلب تأجيج الشهوة والتلذذ من خلال الفضول والشبق بإستحداث لذة طويلة ممتدة بفضول هوس الجسد ,فالجسد العارى لن يشكل أى هوس من إعتياده وسيفقد شهوته ومن هنا نرى قدرة الإنسان الفذة فى خلق لذة بتأجيج الشهوة .

- الإنسان من رغباته الجامحة وسعاره للذة إختلق حالات جديدة من اللذة لا تقوم متعتها إلا بألم الآخر أى يحقق متعتة من خلال سادية لتسود هذه المتعة وتأخذ تمظهرات كثيرة نراها فى كثير من العلاقات الإنسانية بصور متفاوتة من الخضوع ولحس نعال الطغاة والآباء إلى التلذذ بممارسة القوانين والحدود القاسية , فمشهد إقامة الحدود من ذبح وقطع وجلد والتهليل لهذه العقوبات القاسية هى تلذذ بألم الآخرين أى سادية تتخفى وراء شعار تطبيق شرع الله .

- لم يتخلص الإنسان من العنف الكامن تحت مسام جلده فلم ينقرض بل قل إنخفض منسوبه مع مسيرة التحضر , وليظهر من وقت لآخر فى حالة صراع القوة ليجد الإنسان لذته فى ممارسة العنف من خلال التقاتل والتشاحن والحروب فهى رغبات لتحقيق لذة العنف يُحركها مصالح النخب بينما إندفاع البسطاء نحو القتال ليس لراية وطن أو دين بل لتحقيق عنف كامن والتلذذ بتفعيله.. كذلك يتحقق العنف بمشاهدته فالإحتفاء والتهليل عند مشاهدة المصارعة الحرة أو الملاكمة أو تطبيق الحدود الإسلامية أو مصارعة الألومبيك قديماً هو تلذذ بمشاهدة العنف .

- هناك من حول الألم لحالة إستمتاع لنحظى على حالة مازوخية تتحقق أيضا فى الكثير من الحالات الإنسانية بتلك اللذة فى الخضوع والإنسحاق والوصاية والتباهى بها كحال المرأة الشرقية التى لم تكتفى بخضوعها لقيود الرجل بل تتباهى وتتلذذ من التماهى فى هذا الوضع المذرى كمحافظة على أخلاقها ودينها كما تدعى وما هى إلا مازوخية تتحقق من حالة نفسية عبودية بالرغم من عدم وجود علاقات عبودية مقننة ليفضح هذا المشهد وهم أننا احرار , فالعبودية حالة نفسية قبل ان تكون واقع معاش .

- يمكن القول أن معظم أحاسيسنا باللذة والألم مُختلقة لا تمس الحاجات الطبيعية مباشرةً وذلك فى سعى الإنسان نحو خلق لذات يكون لها متعتها وإشتيقاها ومن هنا جاءت لذة التمايز لتدوس فى سعيها للتحقيق على لذة الآخرين سواء أدركت الذات هذا بشكل واعي أو لم تُدركه لتتولد حالة جنينية من السادية أي المتعة فى إيلام الآخرين لتصير الحياة وفق رغبات مُتفاوتة مُتصارعة حول التمايز تدوس فى طريقها الضعفاء , وسيكون لنا لقاء مع " فلسفة التمايز" كمُنتجة لكل الصراعات البشرية من فجر التاريخ وحتى الآن .

دمتم بخير .
اللذة والألم محور ومحرك ودينامو الحياة ومنهما خلقنا الأفكار والأديان والآلهة .