حدث في ذات نهار غير طبيعي


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5838 - 2018 / 4 / 7 - 18:05
المحور: الادب والفن     

حدث في ذات نهار غير طبيعي



عاد جبار مساء الأمس للخان وهو يترنح من تعب نهار طويل قضاه بين عربته التي ينقل فيها أمتعة التجار في الشورجة وبين رغبة شديدة أن يحتسي كاسا أخر من العرق قبل أن يعود لنكد زوجته وثرثرتها التي لا تنتهي، لم يكن ثملا كعادته لكن لا ما زالت هنالك رائحته تنبعث من فمه وهو يمر من أمام جامع الخلفاء ليترك تلك العربة اللعينة في محلها في خان دوحي... كان بالقرب من الجامع هناك رجل وسيم وأنيق في لباسه الديني وعمامته النظيفة والتي ينسدل جزء منها كذؤابة على وجه محمر تبدو علائم النعمة طاغية عليه، يعظ بعض الناس وأغلبهم من عمال السوق والحمالين وفيهم أيضا (محمد المكرم) المعاق جسديا محدثهم عن الحلال والحرام ويصف لهم عذاب الله لمن يشرب الخمر .... توقف جبار وهو يستمع لكلام جديد وكأنه يسمع لأول مرة... أن الله لديه فرن حراري جبار لا طاقته تنفذ ولا المحروقات فيه تهلك... النار... السعير... سقر ...جهنم الحمرة.... سرت كلماته بحرارة من ذاك الفحيح حتى طالت كل جسده وبدت رجلاه ترتعشان من شدة الخوف ....
يا لها من نهاية قبيحة لك يا جبار ... يالك من مكرود تعس.... بئسا لك هذه النار ستكون لك ونهايتك... كنت أتصور أن شمس تموز في بغداد هي قمة الجحيم لمثلي وأمثالي ممن يسكن الشوارع بحثا عن فلس حلال..... لا بد لي أن أفعل شيء... أفكر... هل.... لا .. لا أظن ينفع هذا... لو أحرقتي نفس الآن وتحولت إلى رماد وأوصي أن يذر رمادي كما يفعل الهنود في موتاهم أفضل لي من أبقى في الجحيم ذاك... لا النار مثل نارنا ولا هلاك وفناء ويرتاح الإنسان بوجع واحد... اللعنة ...لقد تبخر كل أثر للخمرة ... غير حرارته ما زالت ترتفع مع كل خطوة يسير فيها نحو داره المتهالكة بين أزقة بغداد القديمة المحشورة بالفقراء والمساكين ... حتى الضوء لم يعد يراه سوى لهب يريد أن يأكله... كلما أقترب من مصباح يتوهج في ظلام الطريق حتى أحس بسعير يغلي في داخله...
دس جسده بين أغطية ثقيلة كدستها عليه زوجته وهي تراه يرتجف ويرتعش كأنه طير غارق في مستنقع من عرق ينضح وحرارة تكاد تلامس الخطر... نار... نار ... جحيم ... إنه العذاب الدائم ... يا ليتني لم أك أصلا هنا... من قال له أنني أحتاج أن أولد أو أحتاج منه أن يكون لي أبا ... إنها هي ... أمي كانت شديدة العشق لأن تحبل في كل موسم كأنها بقرة ولود ... تركتنا أحد عشر فردا ... سنكون جميعنا في الجحيم ... حتى لا أحد منا سمع يوما ما كلام الرجل أو مثله ... كنا صغارا وقد بلغنا حق العمل في أسواق وطرقات بغداد قبل أن نبلغ حق اللعب مع أطفال الناس... يأت بنا الليل ويأخذنا شروق الشمس... لم ننعم بيوم راحة ...
_ لا...لا .... لست أنا ... لقد كنت مسالما وفقيرا منذ إن ولدت... إنه أبي الذي تركني في باب البار ذات مساء بارد أنتظر حتى يأخذ ربع عرق ويعود بي للبيت... لقد أنفق كل أسبوعيتي... لم يعطني شيء ... فقط أعطاني قليلا من الخمرة التي كرعتها لأول مرة في حياتي مع كثير من الماء... وقال لي..
_أنت الآن رجل يمكن الأعتماد عليك... أصبح الآن كل أولادي رجالا لا يخاف عليهم .. حاولت أن أطلب منه مرة أخرى... ضربني على وجهي وطردني من المكان ...
_ يا لها من صدفة حمقاء أن تكون رجلا لتذهب بقدميك إلى النار ...
_ أه منك أيتها اللعينة ...
زوجته ما زالت لا تعرف سر هذا الشجن الغريب... والدموع التي تنهمر كأنها مجرى نهر صغير لا ينقطع ... هل أرتكب زوجها جريمة؟ ... هل هو مريض حقا؟.. فقد خرج ظهر اليوم وهو كالحصان الجامح حتى أنها بالكاد تخلصت منه ومن نزواته التي لا تنقطع ...
_نحن في المحرقة... أنظري كيف يتم شواء الأجساد بمهارة.
_ يا رجل ما زلت تهذي منذ إن عدت مساء الأمس ... لا نار ولا حجيم ... إنها حرارة المرض تعتريك..
_ يا مجنونة أي مرض وأي حرارة أنا أتكلم بكل قواي العقلية ... أرى ما لا ترين... فقط أفتحي عينيك جيدا وستبصرين..
_ يا رجل عيناي أصح من عينيك لا أرى سوى خرافة رجل يهلوس ... إنه الوجع يا زوجي الحبيب... سأرش على جسدك الماء لعل حرارتك تهرب نحو جحيمها...
_ ما زلت مؤمنا أنك من الفئة التي قيل عنها ....
_ ماذا ...
_ لا شيء فقط أتركيني أسجل أنطباعاتي عن الجحيم.
_ الجحيم الحقيقي أن أبقى أستمع لهرائك السخيف
ذهبت وما زال جبار يكلم نفسه وكأنه ينقل الأخبار مباشرة من موقع الحدث... يصمت قليلا لينفجر في بكاء مدو ثم يعاود الهذر الذي تحول إلى كلمات متقاطعة غير مفهومة...... عنوانها النار ... الجحيم المر... العذاب...
يا لنهايتك أيها البائس ليس أمامك الآن من حل إلا أن تعلن توبتك عن تلك الجرائم المروعة التي أرتكبتها في حياتك ... حاول أن ينهض لكن قوته تلاشت أمام الحمى الهائجة في جسده تعبث فيه كما تعبث الماشية في حقول متروكة...
حاول أن ينادي زوجته .. للأسف حتى صوته لم يعد يخرج من فمه الجاف حتى من ريق يرطب لسانه المتفطر وكأنه قطعة أرض اصابها اليباب.... هذا هو مصيرك أيها القرد المأزوم ..يدنو وقترب شيئا فشيئا من ذلك الجحيم السماوي كما يقول الرجل إنه أكبر حتى من السموات والأرض... وهو يطل عليه متوجسا من سقوط حر فيه ليرى كم هو هائل وممتلئ من أجساد أصدقاءه الذين رحلوا من قبله وهي تسبح في بحار من لهب أحمر وصراخ يصم الآذان...
كلما حاول أن يرجع خطوة للوراء تأتيه الدفعات من خلفه لتقربه أكثر نحو فوهة البركان الملتهب ... لا فائدة .. لا حيلة ... لإنها كما قال الرجل مصير أسود لا بد أن نلاقيه .... تمنى شيئا واحدا الآن أن يكون .... إنه بحاجة إلى رفيق يتكلم معه ... أين أنت أيتها الغبية .... تعالي معي.