أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بن سالم الوكيلي - -خرائط على جثث الطيور-














المزيد.....

-خرائط على جثث الطيور-


بن سالم الوكيلي

الحوار المتمدن-العدد: 8374 - 2025 / 6 / 15 - 08:37
المحور: الادب والفن
    


في أقصى حافة الرمل، حيث تتثاءب الشمس عند المغيب، كان صبي يدعى آري يعيش مع جده في كوخ صغير من طين وسعف، يملؤه ضوء غامض لا يعرف له أحد مصدرا. لم يكن آري يملك ألعابا ولا دراجة، بل كان يملك شيئا أكثر ندرة: قدرة عجيبة على إصلاح الراديوهات القديمة. كان يجمعها من أطراف القرى، يفتحها بأصابعه النحيلة، ويعيد إلى العالم أصواتا ضاعت في زمن القصف والخرائط المتغيرة.

ذات مساء، وبينما كان يحاول إعادة نبض لراديو صدئ أحضره أحد الرعاة، التقط ترددا غريبا... ليس صوتا واضحا، بل أنينا... ثم موسيقى باكية، ثم امرأة تقول شيئا يشبه الصلاة، قبل أن يلتهم الصمت كل شيء. أغمض عينيه لحظة وشعر أن العالم يتهيأ لوجع جديد.

وعبر الجبل، في قرية تشبه الحلم وتختبئ خلف زيتونة معمرة، كانت تعيش فتاة اسمها نورا. كانت تحب العصافير حد البكاء، وتؤمن أن الطيران ليس خاصا بالطيور فقط، بل هو حنين منسي في صدر كل من كسرت أجنحته يوما. كانت تذهب كل صباح مع والدها إلى سفح التلة، تفتح أقفاصا قديمة تركها الجنود ذات هروب، وتطلق الطيور نحو السماء. تقول له:
"كلما حررنا عصفورا، هدأت السماء قليلا".
وكان والدها، على الرغم من صمته الطويل، يبتسم كما لو أن قلبه هو الآخر يتوق للطيران.

ثم جاء اليوم الذي بكت فيه السماء.

لم تكن سحبا، بل ريح سوداء، تحمل في رائحتها الحديد المحترق، وصدى طائرات لا ترى. جاءت الضربات الجوية الأولى من السماء، تطلقها مقاتلات إسرائيلية تشق الريح، تتبعها ردود من طائرات إيرانية، تضرب مواقع لا تظهر على الخرائط، لكنها تشعر بها القلوب الموجوعة. وصلت الريح قبل أن تصل الأخبار، وقالت الجدة:
"إنها ريح الحرب يا نورا... لا تحذر، ولا تستأذن، ولا ترحل سريعا".

بدأت الحرب بين إسرائيل وإيران. قالت الصحف إنها المواجهة التي انتظرها الجميع ولم يرغب بها أحد. وقال المذيعون كلمات كثيرة عن الصواريخ والمفاعلات والردود المحسوبة، لكن في قلب آري، لم يكن هناك سوى فراغ يشبه الليل في قلب أم تنتظر ابنها من جبهة لا عنوان لها.

نورا لاحظت أن العصافير بدأت تطير في اتجاهات غريبة، مذعورة، حائرة، كأنها تبحث عن سماء لا تشتعل. سألت والدها:
"هل الطائرات تخيفها؟"
أجابها بصوت مكسور:
"لأن الطائرات تشبه الأقفاص من بعيد، لكنها لا تفتح أبدا".

سقطت أولى القذائف قرب القريتين، فارتجفت الأرض، لا من الزلزال، بل من كثرة التفسيرات. ضربات جوية إسرائيلية استهدفت مناطق مدنية، فكانت الردود الإيرانية قاسية، تلاحقها أصداء انفجارات في الليل البهيم. البعض قال إنها ضربة استباقية، والآخرون قالوا إنها انتقام. أما آري، فقد قرر أن يطفئ كل الراديوهات. قال:
"لم أعد أحتمل أن أكون وسيطا بين الموت والأخبار".

في تلك الليلة، حملت نورا أسماء العصافير التي حررتها، وعلقتها على الأشجار، كما تعلق أمنيات العائدين من الحرب. كتبت بخط صغير: "لن ننسى، حتى لو احترقت السماء".

وفي فجر خجول، تلاقيا عند البئر القديم بين القريتين. لم يتحدثا كثيرا، كان بينهما صمت يشبه صلاة منسية. هي حدقت في عينيه المملوءتين بضجيج العالم، وهو رأى في وجهها شيئا من الضوء الذي لا يصنع بالكهرباء.

قال لها:
"هل تعتقدين أن السلام ممكن؟"
أجابت:
"نعم… مثل الطيران… صعب، لكنه يحدث إن لم نقص الجناح".

ومن بعيد، كانت المقاتلات تعود إلى قواعدها، والتصريحات تصطف على صفحات الجرائد. لكن آري أغلق راديوه الأخير، ونورا فتحت قفصا جديدا.

وحين عبرت ريح جديدة من جهة البحر، لم تكن تحمل نارا، بل رائحة مطر. همس آري:
"ربما تأخرت الحرب عن موعدها اليوم".
فأجابت نورا بابتسامة من طين النور:
"أو ربما تعبت مثلنا… ونامت قليلا".

ثم اختفيا، كقصيدة لا تقال إلا مرة واحدة، وكحلم قرر أن يبقى واقفا في وجه النسيان.

هذه القصة مستوحاة من ذكريات وأحاديث أهل كرمة بن سالم، القرية المغربية الصغيرة التي تحمل بين طياتها روح الحكي والسلام، حيث تلتقي الحكايات لتروي نبض الحياة رغم كل ما مر به الزمن.



#بن_سالم_الوكيلي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كرمة بن سالم تروي... حين تتكلم القرى ويسكت بعض المسؤولين
- -الريح التي لا تعرف الحدود-
- الكبش الذي نجا من السكين: مرثية القيم في زمن الأضاحي المزيفة
- قلب مطفأ داخل آلة
- دوار الكرامة... لا ماء يباع، ولا صمت يشترى
- -كرمة بن سالم... حين تصلي الأرض ويرق قلب السماء-
- قلب على الموج: ملحمة مادلين
- لحم الحقيقة
- -علينا ان نتخيله سعيدا-
- -وادي الأوهام.. حين غنى الأمل في وجه الخديعة-
- -مرآة في زمن العمى-
- في زمن الغبار، كان إنسانا
- 🌿 -غرسة في التراب الغريب- 🌿
- -ثلاثة رجال ونبض الأرض-
- **-غزية: المرأة التي كسرت صمت العالم-**
- صدى الضمير
- حين ينتقد الجمل سنام أخيه: عبثية المشهد السياسي في مسرح الجن ...
- -مملكة السياسة الوراثية: حين تصبح الحكومة مجلس عائلات… وأحيا ...
- حين تحج الشهيرات للقبول ويحاكم الحكواتي باسم الأمن الروحي!-
- حين يجلس وزير العدل في وجه وزير العدل: كوميديا تارودانت القض ...


المزيد.....




- أروى صالح.. صوت انتحر حين صمت الجميع
- السعودية تخطط لشراء 48 فدانا في مصر لإقامة مدينة ترفيهية
- هل يشهد العالم -انحسار القوة الأميركية-؟ تحليل فالرشتاين يكش ...
- التمثيل النقابي والبحث عن دور مفقود
- الفنان التونسي محمد علي بالحارث.. صوت درامي امتد نصف قرن
- تسمية مصارعة جديدة باسم نجمة أفلام إباحية عن طريق الخطأ يثير ...
- سفارة روسيا في باكو تؤكد إجلاء المخرج بوندارتشوك وطاقمه السي ...
- كتاب -رخصة بالقتل-.. الإبادة الجماعية والإنكار الغربي تحت مج ...
- ضربة معلم من هواوي Huawei Pura 80 Pro.. موبايل أنيق بكاميرات ...
- السينما لا تموت.. توم كروز يُنقذ الشاشة الكبيرة في ثامن أجزا ...


المزيد.....

- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بن سالم الوكيلي - -خرائط على جثث الطيور-