بن سالم الوكيلي
الحوار المتمدن-العدد: 8357 - 2025 / 5 / 29 - 21:01
المحور:
الادب والفن
لم تكن باريس تلك الليلة تلمع. كانت غارقة في ضباب بارد، لا يشبه ضوءها المتباهي على البطاقات البريدية. في مكتب مضاء جزئيا، جلس رجل وحيد، يحمل بين يديه تقريرا عن القصف الأخير على غزة.
لم يكن مجرد تقرير. كانت بين سطوره صور لأطفال دون أعين، دون أطراف، دون مأوى. فتح صورة بعينين متعبتين، فظهرت له طفلة ممدة تحت الأنقاض، يدها الصغيرة تقبض على دمية محطمة. رفع رأسه ببطء، نظر إلى النافذة، ثم أغلق الملف، لكنه لم يستطع إغلاق قلبه.
كان ذلك الرجل، ببذلته الرسمية وربطة عنقه المحكمة، هو نفسه الذي يسخر منه البعض على شاشات التواصل، ويفتشون في تفاصيل حياته الشخصية كما لو كانت مشاعا. لكن في تلك اللحظة، لم يكن رئيس دولة، ولا زوج امرأة تصغره أو تكبره، ولا وجها في مجلة، بل كان إنسانا فقط، متورطا في ثقل العالم، أمام مشهد لا يحتمل مزيدا من الصمت.
فتح هاتفه، وكتب بيانا:
"فرنسا لا تصمت أمام الألم. ما يحدث في غزة ليس صراعا، بل مأساة إنسانية. ولن نقف مكتوفي الأيدي."
كانت كلماته بسيطة، لكنها خرجت من مكان صادق، وكان يعلم أنها ستثير ضجة، لأن قول الحقيقة، في زمن الحسابات الباردة، يشبه إشعال شمعة في عاصفة.
في صباح اليوم التالي، كانت وسائل الإعلام العالمية تقارن، تحلل، تهاجم أو تشيد. البعض اتهمه بالتحيز، البعض الآخر أشاد بشجاعته. لكنه لم يكن يبحث عن المجد، بل كان يبحث عن بوصلة وسط هذا الطوفان من الدم والكذب.
وفي إحدى المدارس المحطمة في رفح، كان طفل يحمل هاتفا مھترئا، يشاهد بيان الرئيس الفرنسي ويهمس لأخته الصغيرة:
"شايفه؟ واحد قال عنا كلمة… مو متل الباقي… ما طنش."
لم يكن الرئيس ملاكا. في سيرته أخطاء، مواقف مترددة، ومراحل رمادية ككل زعيم سياسي. لكنه، في لحظة اختبار حقيقية، لم يتجاهل الصوت الذي يئن من تحت الركام. سمعه… وتكلم.
وفي عالم يسود فيه الضجيج، يصبح مجرد الاستماع إلى صوت المظلوم فعل بطولة.
مرت أيام، ثم شهور. الحرب لم تتوقف. لكن الذاكرة الإنسانية لا تسجل فقط المنتصرين، بل أولئك الذين، حين كثر الساكتون، نطقوا بما يمليه الضمير. لا لأنهم مع طرف، بل لأنهم مع الحياة.
ذلك الرجل، الذي استهزأ البعض بزيه أو زواجه، كان، في تلك اللحظة النادرة، صورة لما قد يصبح عليه الإنسان عندما ينحاز إلى الرحمة، لا إلى الحسابات.
وفي مذكرات طفلة من غزة، كتب ذات يوم:
"مر رئيس من هنا… لم يكن مثل الآخرين."
#بن_سالم_الوكيلي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟