بن سالم الوكيلي
الحوار المتمدن-العدد: 8360 - 2025 / 6 / 1 - 15:32
المحور:
الادب والفن
في فجر غابر من ذاكرة الميثولوجيا، كان هناك رجل اسمه سيزيف. لا يروى عنه إلا حكاية واحدة: رجل يتحدى قدره، فيعاقب بحمل صخرة لا تكل، يدفعها نحو قمة جبل لا يلين. وما إن تلامس الصخرة ذروة القمة، حتى تتهاوى، كأنها تسخر من عزيمته. تكرار أبدي، عبث لا يرجى منه فكاك، ومع ذلك... في عيني سيزيف ظل بريق، كما لو كان يقول: لست هالكا طالما أحاول.
تمر القرون، وتطوى الأساطير، لكن الحكاية لا تموت.
في وطن صغير تحاصره البنادق من الجهات الأربع، ولدت الأسطورة من جديد. هذه المرة، ليست حجارة سيزيف أسطورية، بل حقيقية. إنها منازل الفلسطينيين، مآذنهم، أشجار زيتونهم، حقول القمح المدمرة، مدارس الأطفال التي تحولت إلى خرائط للرماد. هناك، يدحرج شعب بأكمله صخرته كل يوم، ليس إلى قمة الجبل، بل إلى شرفة من الحياة، يحاولون أن يستعيدوا فيها نسمة عادية، أو خبزا دافئا، أو ضحكة بلا خوف.
في أحد المخيمات، كان الطفل محمود يحدق في بقايا منزله. لم يبق شيء سوى كتاب مثقوب بالرصاص، ودراجة بلا عجلات. عينا أمه تبحثان عن أثر للحياة في الركام، ووالده ينقب بين الأنقاض كمن ينقب في صدره عن حنين مفقود. صامتون هم، لكن في صمتهم لغة كاملة: لغة من يرفض السقوط.
وفي مكان آخر، تجلس ليلى، شابة لا يتجاوز عمرها العشرين، على أطلال مدرستها، وتكتب على الجدار المتهالك:
"نحن لا نحمل الصخرة، بل نحمل الوطن..."
كأنها تعيد تعريف الأسطورة، وتستبدل عبثية العقاب بمعنى الوجود.
كانت تعرف أن الكلمات لا تبني بيوتا، لكنها توقظ الأرواح.
في المساء، حين يسكن الضجيج وتغفو المدينة على صدر جراحها، ينهض من بين الغيم ظل كامو، الفيلسوف الذي نظر في وجه سيزيف وقال: "علينا أن نتخيله سعيدا."
لكن، في فلسطين، لا حاجة للتخيل. فهؤلاء الذين يعاد اعتقال أحلامهم كل يوم، يبتسمون. لا لأنهم ينكرون الألم، بل لأنهم يتقنون المقاومة: مقاومة النسيان، مقاومة الاستسلام، مقاومة الانكسار.
إنهم يعلموننا أن البطولة ليست في إسقاط الصخرة، بل في النهوض من تحتها.
وفي النهاية، لا يعود سيزيف رمزا للعبث، بل مرآة للإنسان في أقسى حالاته وأبهى تجلياته. إنه الفلسطيني، الذي يصنع من الألم معنى، ومن الركام حياة، ومن الظلام نورا لا يطفأ.
نعم، يمكننا أن نتخيل سيزيف سعيدا...
ولكننا، حين ننظر إلى فلسطين، لا نحتاج إلى الخيال.
#بن_سالم_الوكيلي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟