أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بن سالم الوكيلي - لحم الحقيقة














المزيد.....

لحم الحقيقة


بن سالم الوكيلي

الحوار المتمدن-العدد: 8360 - 2025 / 6 / 1 - 21:30
المحور: الادب والفن
    


ليست كل الحكايات تبدأ بانفجار، ولا تنتهي بالدموع. بعضها يتسلل إلى الوعي بهدوء، مثل دخان يتصاعد من قدر يغلي، لا تراه في البداية، لكنه يلتف حولك حتى يخنقك.

هذه القصة ليست عن الجزار فقط، ولا عن السوق، بل عن ثقة تباع بالكيلو، وعن قيم تطحن خفية كما يطحن اللحم، لتقدم على موائد لا تعرف بالضبط ما تأكله.

في مدينة صغيرة تعانق أطلال التاريخ، اعتقدت أن الطمأنينة لا تزال تسكن الأزقة، وأن الطيبة فطرة لا تتغير، حتى اكتشفت أن بعض الرذائل تتخفى وراء الابتسامات العريضة، وأن الغش يمكن أن يقدم لك على طبق دافئ، برائحة شهية.

في مدينة مولاي إدريس زرهون، كنت من أولئك الذين وثقوا بالسوق المحلي، بوجوه الجزارين التي تشبه وجوه الأهل، وباللحم الطازج المطحون أمام العين. في أول تجربة، اشتريت لحما مطحونا من جزار أوصت به الجارات. بدا اللحم ناعما، بلون مقنع، وبسعر لا يرفض. لكن أثناء الطهي، بدا كل شيء غريبا: الرائحة، المذاق، وحتى القوام. كان هناك شيء لا يشبه اللحم الذي نعرفه.

لاحقا، عرفت أن اللحم المطحون هو المدخل السهل للغش: يخلط فيه لحم الرأس، أو قطع غير صالحة للبيع، ويغلف كل ذلك بمظهر الطراوة. الجزار يعلم أن المطحون لا يسائل، لأنه لا يكشف إلا بعد فوات الأوان.

أما الصدمة الثانية، فكانت أعمق وأخطر. أخبرني أحد العارفين بشؤون المدينة أن بعض الجزارين صاروا يشترون لحم الخنزير البري من صيادين يجوبون غابة "باب الرميلة"، ويبيعونه سرا بثمن بخس، فيطحن ويخلط مع اللحم الأحمر، ثم يعرض على الزبون الذي لا يعرف أنه يشتري أكثر من لحم – يشتري خيانة مزدوجة: أخلاقية ودينية.

في تلك اللحظة، لم أعد مجرد مستهلك خدع، بل مواطن أدرك أن الغش لم يعد سلوكا فرديا، بل نظاما ضمنيا تقبله الناس بالصمت.

قررت أن لا أصمت، ليس فقط لأنني تألمت، بل لأن السكوت على الخطأ هو ما يمنحه شرعيته. كتبت قصتي لأحكي، لأكشف، ولأقول لكل من لا يزال يثق بعينيه فقط:
"الطعام ليس مجرد مادة، إنه مسؤولية أخلاقية، وهوية ثقافية، وعقد غير مكتوب بين من يقدم ومن يتلقى."

قد يبدو الغش في اللحم مسألة بسيطة، لكنه ليس كذلك. إنه مرآة لما يحدث حين تنكسر الثقة في الأشياء التي نسلمها لأجسادنا وأرواحنا. حين يتحول الغذاء إلى ساحة خديعة، يصبح الإنسان مهددا ليس فقط في صحته، بل في علاقته بالعالم من حوله.

الغش لا يعيش في الأسواق فقط، بل في العقول التي تبرره، وفي القلوب التي تخشى مواجهته، وفي المجتمعات التي اعتادت أن "تدير وجهها" وتواصل الحياة.

لكن كل حكاية تروى، تنقذ روحا من الغرق في العادة.
وكل كلمة تقال، تضيء زاوية في العتمة.

"لحم الحقيقة" ليس قصة عن الطعام فقط.
إنها دعوة إلى أن نرى، وأن نتساءل، وأن لا نخاف من قول: "توقفوا. هذا ليس ما نستحق."



#بن_سالم_الوكيلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -علينا ان نتخيله سعيدا-
- -وادي الأوهام.. حين غنى الأمل في وجه الخديعة-
- -مرآة في زمن العمى-
- في زمن الغبار، كان إنسانا
- 🌿 -غرسة في التراب الغريب- 🌿
- -ثلاثة رجال ونبض الأرض-
- **-غزية: المرأة التي كسرت صمت العالم-**
- صدى الضمير
- حين ينتقد الجمل سنام أخيه: عبثية المشهد السياسي في مسرح الجن ...
- -مملكة السياسة الوراثية: حين تصبح الحكومة مجلس عائلات… وأحيا ...
- حين تحج الشهيرات للقبول ويحاكم الحكواتي باسم الأمن الروحي!-
- حين يجلس وزير العدل في وجه وزير العدل: كوميديا تارودانت القض ...
- عزيز أخنوش في العيون: حين تتحول الزعامة إلى -سيتكوم سياسي- ع ...
- -مرحبا بالمتسولين في الشرق الأوسط: صدقة أم جزية؟-
- -التعليم العالي جدا... في الانحدار -!
- ترامب في الشرق الأوسط: أربعة تريليونات دولار وقصر يطير
- بوتين يمد السجادة الحمراء للعرب: قمة أم رقصة دبلوماسية؟
- بدون فلتر*** من مائدة مكناس إلى كرسي الحكومة: عزيز أخنوش... ...
- سوق السلام الكبير: كيف تحولت الاتفاقيات الإبراهيمية إلى صفقة ...
- عزيز أخنوش وتداعيات سياساته: من شركات الغازوال إلى غلاء الأس ...


المزيد.....




- -سرقتُ منهم كل أسرارهم-.. كتاب يكشف خفايا 20 مخرجاً عالمياً ...
- الرئيس يستقبل رئيس مكتب الممثلية الكندية لدى فلسطين
- كتاب -عربية القرآن-: منهج جديد لتعليم اللغة العربية عبر النص ...
- حين تثور السينما.. السياسة العربية بعدسة 4 مخرجين
- إبراهيم نصر الله يفوز بجائزة نيستاد العالمية للأدب
- وفاة الممثل المغربي عبد القادر مطاع عن سن ناهزت 85 سنة
- الرئيس الإسرائيلي لنائب ترامب: يجب أن نقدم الأمل للمنطقة ولإ ...
- إسبانيا تصدر طابعًا بريديًا تكريمًا لأول مصارع ثيران عربي في ...
- حين تثور السينما.. السياسة العربية بعدسة 4 مخرجين
- إبراهيم نصر الله يفوز بجائزة نيستاد العالمية للأدب


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بن سالم الوكيلي - لحم الحقيقة