بن سالم الوكيلي
الحوار المتمدن-العدد: 8370 - 2025 / 6 / 11 - 19:03
المحور:
الادب والفن
في أرض تشرب من الشمس وتنام على وسادة الريح، حيث تتقاطع الأغاني القديمة مع رائحة الزعتر والتراب، كان الصمت يتمدد كظل ثقيل فوق الوجوه. لم يكن صمت سلام، بل صمت الترقب... ذلك الذي يسبق العاصفة.
بين تل ونهر، في قرية يعلوها الغبار وتحيط بها الحكايات، عاش "ياسر" — شاب لا يريد من الحياة أكثر من نافذة تطل على السهول، وحقل صغير، وهدوء لا تعبث به الصراعات.
لكن ذلك الشتاء، لم يكن عاديا. الخيام البيضاء بدأت تنتشر في البعيد، الجنود يمرون كأشباح بلا وجوه، والأحاديث تسير على رؤوس الأصابع.
"الطرف الآخر يستعد..."، همست نادية، وهي تمسح عن عينيها بقايا خوف لم ينم منذ الليلة الماضية.
"أي طرف؟" سألها ياسر، ثم صمت. كلاهما يعرف الجواب، وإن لم يقال.
فثمة حدود لم تشف، وثمة ماض لا يكف عن النزيف. ترى، ما الذي بقي عالقا بين المغرب والجزائر؟ وما الذي يطبخ في أوعية السياسة حين لا يراهم أحد؟
الناس في القرية لم يفهموا تماما ما يحدث، لكنهم شعروا أن شيئا ما يعد في الخفاء. الميزانيات تتحرك، الجبهات تنقب، والهواء نفسه تغير طعمه.
في اجتماعٍ غير رسمي، اجتمع الشيوخ والشباب تحت شجرة التين القديمة، يسألون ولا يجيب أحد.
وقف ياسر بينهم، وقال بهدوء يشبه صوت الماء:
"نحن لا نملك الصواريخ، ولا التصريحات. نحن نملك هذه الأرض التي علمتنا كيف نحيا، لا كيف نحارب. لا نريد أن نكون ورقة في يد الريح، ولا رقعة يساوم بها الكبار."
قال أحدهم: "لكن الصمت مخيف يا بني."
فأجابه: "والصمت أحيانا حكمة… حين يقال في الوقت المناسب."
كانت العيون تلتفت نحو السماء، وكأنها تنتظر من الغيم رأيا.
كان الكل يعرف أن التوتر لا يولد فجأة، بل ينمو في الظلال… يروى بالأنانية، ويخصب بالنسيان.
رغم أناشيد الوطن التي لا تتوقف في الراديو، ورغم الحدود التي رسمت بالحديد والنار، فإن القلوب في تلك القرية ما زالت تحفظ ذكريات أعراس جمعت الضفتين، وحقول زيتون تقاسمها الجدان قبل أن تتكلم البنادق.
وفي ليلة باردة، حين اشتدت الريح، فهم الجميع أن الريح لا تسأل عن الجنسية، ولا تعرف جواز السفر.
الريح تمس الجميع، كما يفعل الخوف، وكما يفعل الحنين.
لم يعد الصمت مرعبا كما كان. صار يشبه أنينا مألوفا، ووراءه نبض صغير لا يزال يقاوم.
فهموا، ولو بصمت، أن هذه الأرض أكبر من نزاعات تنسج في الظل، وأقدم من حدود رسمت بالسلاح.
وفي تلك الليلة، لم يعودوا مجرد أهل قرية. صاروا شهودا على الحقيقة البسيطة:
أن الريح، تلك التي تعبر التلال وتصافح الوجوه دون إذن، لا تعترف بالحدود.
وأن الإنسان، مهما صغرت قريته، يحمل في قلبه اتساع وطن كامل.
في عالم تبني فيه السياسة الجدران، تظل القلوب — وحدها — تحفر الأنفاق.
#بن_سالم_الوكيلي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟