جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثالث بعد المائة)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8303 - 2025 / 4 / 5 - 15:27
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"العمل للجميع ولكل واحد"
هنا يصبح التغيير أكثر وضوحا عندما نذهب إلى أبعد في نص "الفينومينولوجيا" لجمع أشكال جديدة لعلاقة "أنا" بـ"نحن" و "نحن" بـ"أنا" (التي قد تكون بصيغة الجمع. لنر كيف تقدم الأشياء نفسها في القسم (ج) ("الفردية التي هي في عينيه حقيقية في ذاتها ولذاتها") من نفس الفصل الخامس، وبشكل أكثر دقة في نهاية القسم الفرعي (أ) بعنوان "المملكة الحيوانية للروح والخداع، أو الشيء ذاته".
باكتشاف أن الكوني والجوهري لا يجدان فعاليتهما في أي مكان آخر غير الفردية ذاتها، أصبح من المفهوم الآن أن الوعي هو في الأساس وعي فاعل: "بقدر ما تكون الفردية في ذاتها فعالية، يكون التأثير وهدف الفعل موجودين في الفعل ذاته" (474/215). بعد تجاوز التعارض بين الفردية والفعالية، لم يعد بإمكان الأولى أن ترى الثانية كشيء مختلف عن ذاتها: "لقد انمحى الفرق بين شيء ما ليس بالنسبة إلى الوعي غير باطن ذاته، وواقع فعال هو في ذاته خارج ذاته" (478/218). لكن ذلك في الواقع يذهب إلى أبعد من ذلك: مثل هذا الانمحاء يعني أن الفردية لم تعد قادرة على معرفة ما تكونه حقا في الخارج وبصورة مستقلة عن الفعالية التي تمنحها لنفسها: "ما يكونه [الوعي] في ذاته، يعرفه بالتالي انطلاقا من فعاليته؛ ولهذا السبب لا يستطيع الفرد أن يعرف ما يكونه قبل أن يصل بنفسه إلى الفعالية من خلال العمل" (479/218).
إن الفردية التي نتعامل معها الآن تأخذ شكل "تداخل الوجود والفعل" (480/218)، ولم يعد بإمكان الوجود أن يكون أي شيء معارض للفعل لأنه نتاجه وبما أن الفعل هو تحقيق وجود الفرد. على هذا الفعل الذي في الوجود "لا يخرج من ذاته" (نفس المرجع)، يطلق هيجل اسم العمل، "تقديم وتعبير ذاتيين" (481/219)، في الوجود، للفردية الفاعلة. إن هذا التقديم والتعبير عن الذات الفردية في الوجود كعمل هما أيضا عرض لذاتها أمام أعين الفرديات الأخرى، التي هي أيضا نشطة ومنتجة للأعمال. هنا يظهر شيء مثل المنافسة بين الأعمال: "العمل موجود، أي أنها موجودة بالنسبة إلى الفرديات الأخرى وأنها بالنسبة إليها فعالية أجنبية، في مكانها يجب عليها بالضرورة وضع فعاليتها الخاصة، من أجل منح ذاتها، من خلال عملها، وعيا بوحدتها مع الفعالية" (485/221).
ما يميل إلى الظهور هنا هو التعارض بين "أنا" و"نحن": تظهر الـ"أنا" كقائمة بعمل فردي وخاص تضع أمامه الـ "نحن" الخاصة بالفرديات الأخرى عمل هذه الأخيرة باعتباره عملاً أفضل لأنه جماعي. لا يمكن للوعي أن يستجيب لذلك إلا بالاعتراف بأن عمله، كفرد، زائلٌ وآفل، لكن المهم هو المعنى الروحي لهذا العمل، وبالتالي "العمل الحقيقي" أو "الشيء نفسه" (488/223) الذي استُهدف من خلال هذا العمل وما يتعداه.
من الآن تؤخذ نقطة الانطلاق من "فردية هدفها تحقيق شيء ما" (495/226): بذلك تجعل من "شيئا ما شيئا"، أي مسألة تهمها (إلى أقصى درجة، لأن هذه المسألة في نهاية المطاف ليست سوى ذاتها)، على الأقل هذا ما تدعيه، ليس فقط لأن ذلك من شأنها الخاص، ولكن لأنها مسألة يمكن، بل وينبغي لها، أن تهم وتثير اهتمام الجميع. عندما يجعل الفرد من أمر ما شيئا، فإنه يعطيه بعدا كونيا، مدعيا بأنه ليس أمرا مهما بالنسبة إليه فقط، بل أيضا بالنسبة إلى كل شخص آخر. ولكن بتكريس نفسه لهذا الأمر يجد الفرد في الوقت نفسه رضى خاصاً به، وهذا ما يجعل الأفراد الآخرين يكتشفون أنهم قد خُدعوا: "إن أفعاله وحركاته هي التي تثير اهتمامه بالشيء، وعندما يدرك الآخرون أن هذا هو الشيء ذاته، فإنهم يجدون أنفسهم في حيرة" (نفس المصدر). لذلك فإنهم يعتقدون أنهم مخولون للقيام بنفس الشيء، أي تقديم شؤونهم الشخصية باعتبارها الشيء الوحيد، معتقدين أن الوعي الأول سوف يسمح لهم بذلك. لكنهم مخطئون: إن الوعي الأول "يتدخل في أفعالهم وعملهم، وعندما لا يستطيع أن يأخذها من أيديهم، فإنه يهتم بها على الأقل بقدر ما يعطي ذاته شيئاً يفعله من خلال إصدار حكم" (496/227).
ذلك راجع لكونهم من خلال الاشتغال على شيء ما، يتعرضون على وجه التحديد لخطر الحكم عليهم، ما دام أن ما يفعلونه يدخل في نهار الحضور: إنهم يقدمون أفعالهم وحركاتهم، عملهم وجهدهم لأجل شيء يخصهم فقط، لكنه زائف، وبالتالي أردوا بدورهم أن يخدعوا ويضلّلوا، من خلال التصرف كما لو أن عملهم وجهدهم لا ينبغي أن يكونا صالحين كونيا وللجميع على حد سواء منذ أن تصرفوا وعملوا تحت أعين الجميع. من هنا يستنتج هيجل أن "التحقق الفعلي هو بالأحرى عرض مكشوف [eine Ausstellung] لما نملكه من شيء خاص بنا في العنصر الكوني الذي من خلاله يصبح ويجب أن يصبح الشيء الخاص بالجميع" (497/227).
حيث نرى أن تجربة الخداع هذه هي تجربة سلبية في حد ذاتها، إلا أن معناها النهائي إيجابي: ما يصل إليه الأفراد من خلال تجربة الخداع هذه هو الوعي بأن الفعل الحقيقي والعمل الأصيل، أي ما يسميه هيجل الشيء نفسه، يتمثلان أساسا في التعاون ويجب أن يتمثلا فيه. من خلال المسار السلبي الذي هو المسار الوحيد الذي يمكن للأفراد المعاصرين الأنانيين والمتمركزين حول الذات أن يسلكوه، فإن هؤلاء الأفراد يقودون إلى اكتشاف إيجابي لما يسميه هيجل "طبيعة الشيء ذاته"، أي أنها "جوهر وجوده هو فعل الفرد المفرد وجميع الأفراد، ويكون فعله مباشرا إلى الآخرين أو شيئا، ولا يكون شيئا إلا باعتباره عملا للجميع ولكل واحد". (498/227)
(يتبع)
نفس المرجع