فلنعيد كتابة التاريخ العالم تغير


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 7828 - 2023 / 12 / 17 - 18:47
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

قرب نهاية القرن الماضي تحولت دراسات التاريخ لتصبح علما ..لا يعتمد علي الاقوال المتناقلة شفاهة .. بل له أدوات بحثة ..و أساليب للتحقق .. كشفت لنا أحداث تمت منذ مليارات السنين .. فالناس الأن تعلم كبف تكونت المجموعة الشمسية و الأرض و قمرها منذ 4.4 مليار سنة .. و كيف نشأت الحياة عليها من 3.7 مليار سنة .. و إندثار الأحياء منذ 66 مليون سنة الذى قضي علي الديانصير.. ثم تاريخ ظهور البشر قبل 100الف سنة ..و تطورهم و هجراتهم و إنتشارهم .. و حضارتهم .
العلماء يشكون في كل معطيات المؤرخين القدامي .. و يخضعونها للدراسة و البحث و التغيير و التحديث .. فيما عدانا ..فنحن لم نتحرك كثيرا عن ما كان متداولا في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر
ترتيبا علي هذا يصبح من الغباء أن نرى دراسة التاريخ علي أساس أنه حفظ موعد صعود الملوك و سقوطهم .. و متي كانت الحروب التي إنتصروا أو اخفقوا فيها .. و ماهية المباني التي شيدوها لحفظ الجثث او للعبادة .. سواء في زمن التفوق و التحضر .. أو النكوص و الإستسلام .
ما نفخر به اليوم في بلدنا علي أساس أنه تاريخنا ..هي منشئات تتراوح بين الهرم و معابد الاقصر و الكرنك و الدير البحرى .. لا نعرف كيف أقاموها من الاف السنين بأدوات بدائية ..و نعزو هذا لعبقريتهم
أو كنائس و مساجد شيدها الحكام لتخليد ذكراهم ..أو تلك الصروح التي ترتبط بأسماء ملوك و رؤساء مثل القناطر الخيرية وقناة السويس و خزان أسوان والسد العالي .
وفي كل هذا .. ننسي البشر الذين تم قهرهم .. و إستهلاك جهدهم فيما لا ينفعهم ..والذين ..سخروا لإقامة هذه المنشئات و إستغلوا لدفع ثمنها أو قتلوا و شوهوا أثناء الإنشاء أوالدفاع عنها .
نحن نقرأ التاريخ كما كتبه الحكام المنتصرون ..و نردد ما يريد الديكتاتور أن نتداولة عن سيرته الحسنة و عدله..وكيف نشرالرفاهية في عهده ...بل و نمحوأعمال من كانوا قبله .. فمن زمنه عادة ما يبدأ التاريخ .
تجاهل المعاناة التي كبدها للناس .. و الفقر ..و الإرهاب .. و القهر و السجون و المعتقلات ..و أساليب التعذيب..التي كانت تمثل أمرا دائما و مستمرا في يد الطغاة .. أمر مخجل ..خصوصا بعد الأيام التي دخلوا فيها و أذنابهم إلي منازلنا يبثون من خلال أجهزة التلفزيون و الراديو و الإنترنيت و الصحافة أنباء أغلبها مصنوع بواسطة معطيات أليات الجيل الرابع من الحروب فنصدقها.. وتقود القطيع حيث يريد الراعي ..
علينا أن نعيد قراءة التاريخ بطريقة ديورانت أى كما صنعه البشر ..و نرى كيف إكتشفوا وإبتكروا و إخترعوا و تكيفوا ..و إرتقوا ..وبنوا قيما و فنونا و فلسفات صامدة ..و مستمرة إرتقت بهم رغم كل المعوقات .

قبل وكالات الأنباء و الاقمار الصناعية..كان الناس يعرفون الأخبار بعد حدوثها بشهور منقولة بوجهة نظر متحيزة طبقا لرؤية الناقل ..
و مع ذلك .. تركوا خلفهم سجلات تحكي عنهم .. كيف يعيشون و ما ينتجون..منازلهم ..طعامهم ..ملابسهم و طقوسهم ..وشعائرهم ..لغتهم .. و أهم الأحداث في زمنهم .. و صراعهم مع السلطة.. و ألإنتفاضات.. و تنكيل السلطة بهم .. و أساليب قهرهم و تعذيبهم في الليمانات.. و تصرفاتهم مع الغزاة ..وأثناء المجاعات و الأوبئة و القحط أو الفيضان..
كل هذا تجده في مدونات ظلت تتناقل من جيل لاخر حاملة روائح الماضي كتبها المقريزى و إبن إياس و الجبرتي .. و من المحدثين أساتذة متل أحمد شفيق باشا وعبد الرحمن الرافعي و شفيق غبريال ...
و رغم كل التحفظات علي هذا النوع من كتابات التاريخ إلا أننا نتبين منه أننا لسنا الأمة الرائدة بين الناس .. و لم نكن من هؤلاء الذين أثروا في حضارة البشر
لقد أحتلتنا كل شعوب الزمن القديم .. كنا مستعمرة منذ 525 ق.م مع الغزو الفارسي و قمبيز..و كنا وأهلنا علي مر القرون عبيدا نكافح ..دون جدوى .. من أجل أن نصبح أحرارا...
نحن شعب غير شعوب الأرض .. وفي الغالب ناس غير الناس .. لدينا القدرة علي تحمل بغي الطغاه لألاف السنين دون ضجر أو إحتجاج أو ثورة.. بل نغني لهم و نرقص . رغم أنهم لا يتوقفون عن سرقتنا و نهبنا و إرهابنا و تعويقنا..و جعلنا متخلفين .
لالفين وسبعمائة سنة .. لم ينعم أجداد المصرى بالحرية ، فقد كان هناك دائما طاغية له الكلمة العليا فى تحديد مسارهم ومصيرهم .
لألفى سنة كان الطاغية من الجيران الرعاة ( الهكسوس 150، الليبيون 200 ، الأثيوبيون 80، الأشوريون 100، الفرس 150 ،والعرب و الأتراك 1276 ) وسبعمائة سنة كان أوروبيا ( الاغريق 293 ، روما وبيزنطة 309 ، فرنسا 3، بريطانيا 74 ) ..ولا اريد ان أقول أنه حتي عندما حكم لسبعين سنة مصريون.. لم تتحسن الأمور و لم يكن الحال أفضل .
شعب مصر لم يعرف الحرية أبدا منذ أجيال بعيدة ..وكان هناك دائما من يمسك له سوط السخرة ، يحركه به ليبني القصور و المعابد و الملاهي و الأسوار.. و يحفر القنوات. و يشق الطرق و يقيم الكبارى ..و يمد السكة الحديد و المترو و المونوريل.
أو يستولي علي أمواله وناتج جهده يصادره و يصدره لصالح القوى العظمى المسيطرة على مقدراته سواء كانت فارسية ، او يونانية ، أو رومانية ، أو عربية ، أو عثمانية أوبريطانية ، أو امريكية إسرائيلية خليجية أو صندوق النقد و البنك الدولي .

القوة العظمى المسيطرة هى التى كانت تحدد للمصرى ماذا ينتج ، واسلوب إنتاجه ،وماذا يستهلك و من أى سوق يستورد ، وأى لغة يتكلم وبأى دين يدين. ومن هو الوالي الذى يحكمه ، وكيف يحكم..و متي يزاح او يستبدل
و هكذا إعتاد المصرى أن يزاول حياته فى ظل جنود البغي ، وجور الحكام و فقد العدالة وتسلط رجال الأمن وجواسيسهم ، وتجبر رجال الجباية.. لدرجة أن عدد مرات الثورة في تاريخه .. يعد علي أصابع الكف الواحد بعد بيبي الثاني الأسرة الخامسة ..البكولية ضد الرومان .. البشموريين ضد المأمون ..القاهرة ضد نابليون .. 1919 ضد الإنجليز.
و هكذا بديلا للإحتجاج و الثورة كون المصرى لنفسه عبر العصور أساليب تمكنه من التوائم و المعايشة مع الاحتلال العسكرى والنهب الاقتصادى ..و عنف الطغاة..كونت الإطار العام لسلوكيات المصرى فإنزوت الحرية وفقد الشعب الانتماء ، ولم يعد يحب بلده ، إلا فى الأغاني و الأناشيد أو مجبرا عندما يرى السيف بيد الجلاد مرفوعا خارج الغمد..
المصرى اليوم ( في العقد الثالث من القرن الحادى و العشرين ) تخلف عن الركب العالمى بعشرات إن لم يكن مئات السنين ، فالعالم يجرى ويلهث ونحن نحتاس ببلوانا نرقب ونجادل ونصارع ، حول أمور أصبحت بديهيات
نريد أن نكتب التاريخ الحقيقي لبلدنا لنتعلم الا نكرر النكوص ..وكيف نخرج من مخاضة التخلف .. يجب أن نعرف كيف كان الناس يعيشون في القرنين الأقرب التاسع عشر و العشرين.. و كيف خضعوا للديانة والمرابين و لماذا ثاروا ..ثم كيف إنهارت الليبرالية الوليدة في بداية القرن الماضي ..لصالح راسمالية الدولة الناصرية .. وكيف كون مليارديرات بلدنا ثرواتهم.. و تحكموا في السوق و فينا .
الدكتور خالد فهمي مؤرخا معاصرا له محاولات .. ولكنه مثل الدكتور جمال حمدان .. غير مهتم بأن يشرح لنا كيف تزاوجت السلطة مع المال ..أو الرد علي تساؤلات الأخ محمد أمين عن كيف كون شخص مثل فرج أباظة أو غيرة ثروته المليارية . و كيف تشرذم المجتمع فى مصر ليصبح اكثر من مجتمع .
نريد أن نعرف سبب الفارق الواسع بين العشوائيات المتناثرة في كل مكان ، والتجمعات ( الذكية ) التى تلجأ الى الصحراء تحميها من الخارج أسوار وأجهزة امن خاصة وتصاريح انتقال وكلاب مدربة ، هربا من انتفاضة تحركها المعدة الخاوية.
و هكذا.. علينا أن نتعلم عن أنفسنا الكثير ..نحن نتصور أن الديموقراطية ..و حقوق الإنسان .. و التنمية المستدامة و العلمانية في فصل الدين عن الدولة .. حلول سحرية إتخذت خارج بلدنا فأدت للحركة علي درب التقدم و أنها تصلح لنا
و لكن ما حدث أمامي أمس أثناء العرس الإنتخابي يحعلني أشك لقد شوش مفاهيم الخلاص .. لقد إبتعدنا كثيرا عن نقطة البداية .. لقد أصبحنا شعبا غير شعوب الأرض و ناسا غير الناس .. لا تجدى معنا .. حلول الناس .. نعاني مهما عانينا صامتين ..و لكن امام هدايا الإنتخابات نرقص و نزأطط و ننسي الكرامة .