و دخلنا أمس في النفق المظلم


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 7909 - 2024 / 3 / 7 - 10:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في خمسينيات وستينيات القرن الماضي .. بعدما أمم النظام أموال عائلة محمد علي و الإقطاع و الرأسمال الأجنبي المستغل و قناة السويس .. و أنشأ القطاع العام .. قيل لنا أنها أموال الشعب المنهوبة رجعت له.. يعني أنا و إنت .. وكل الناس اللي عايشة في مصر كنا ورثة للنظام القديم ...و قيل أنه سيتم إستثمارها فيما يفيد مجمل الملاك .
و كانوا يطالبوننا بالمحافظة علي ثروتنا العقارية . و المصانع ..و المزارع .. و المرافق العامة .. و وسائل النقل ..و غيرها من ممتلكاتنا و بذل الجهد لتنميتها ..و تطويرها
و لقد صدق معظمنا بما فيهم صلاح جاهين ..و عبد الحليم حافظ. .. أن هذة الثروة المهولة .. أخذت من أيدى الأغنياء و الغرباء لتصبح ملكية مشاع لمجمل سكان هذا المكان .
و إشتغل الملاك الجدد في أعمال التنمية زى التور اللي بيدور ساقية ... فبنينا السد العالي و خطوط نقل الكهربا ..و مجمع الحديد و الصلب ..و مجمع الألمونيوم ..و أنتجنا السيارات و الطيارات .. و السماد ..و الأكل و الملابس و الأدوية ..و لو أعد مش حخلص .
بعد 60 سنة من الشقا .. قيل لنا أننا لم نعد ملاك.. و لا مواطنين ..و تحولنا لضيوف رزلين و تقال علي قلب الحكام الجدد يفرضون عليهم الضرائب و الأتاوات ..و يصدرون مئات القوانين لنقل الملكية العامة لجهات مختلفة ..دون مناقشة أصحاب الملك ..
لتعود ريمة لعادتها القديمة .. إقطاع .. إرستقراطية مسيطرة .. رؤوس أموال أجنبية مستغلة ..
بصراحة لم أعد أعرف من الذى يمتلك ثروة مصر الأن .. الحكومة ..و لا الصناديق السرية إياها .. و لا القوات المسلحة ..و لا المستثمرين الخلايجة ..و لا جهات مختفية تحرك الخطوط من خلف الستار و لا نعرفها أو نعرفها
و من الذى من حقه البيع و الشراء للمتلكات الشعب ..و من الذى يضع إستراتيجية إفقار الناس و ينفذها بمهارة ..
مواضيع تتم كلها في السر و لا نعرف منها إلا العناوين .
كل اللي ظهر للناس هو نشاط (( يد تبني و يد تحمل السلاح )) علي أساس إن (( الجيش و الشعب إيد واحدة )) ثم أصبح بحكم القانون الوصي علي الحياة السياسية و الإجتماعية ..
ثم سيطرة ألاجهزة السيادية ( مش فاهم يعني إيه سيادية .. لكن بيقلوها كدة ) علي الإقتصاد في كل المجالات بما في ذلك بيع الخضار و اللحمة و السمك .. بعد أن أصبحت تمتلك جزء كبيرا من الثروة القومية الأموال و الشركات و النوادى ..و أعمال البزنيس .و المحاجر و المناجم ..و الطرق بما في ذلك المساحات التي علي الجانبين و الكرتة ..و ما خفي كان أعظم
ونسمع كلاما مضغوما عن أن الصناديق السيادية بتبيع ثروة مصر العقارية للأجانب ..
و أصبح الموضوع أكثر غموضا .. العديد من.. المنشئات و المصانع و الشركات جرى التخلص منها بأقل الأسعار و المالك الحقيقي اللي بناها بيتفرج ..و لا نعرف لماذا أوقفوا نشاطها ..و أين ذهب ثمنها..و لم نعد نسمع حدوتة ملكية الشعب... فقد حلت صناديق رئاسة الجمهورية محل الشعب و أصبحت تملك أملاكه .. تتصرف فيها تصرف الوصي في ثروة القصر .
في الأول أوهمونا أنها ملكية قومية عامة للمصريين و عندما تحمسنا من أجل تنمية ثروتنا .. إقتسمتها أجهزتهم فيما بينها .. و مسح تماما من التداول هذا التعبير الستيني .
نعيش أسوأ ايام .. لم نر مثيلا لها .. أثناء الحرب العالمية الثانية أو عندما كان 50 الف جندى بريطاني يمرحون علي ضفاف القناة و الملك و الوزارة ..يؤتمرون باوامر المندوب السامي البريطاني.
لم نر هذا البؤس الذى عم بين الناس و نحن نعاني من اثار هزيمة 67 ..و لم نر هذا الإستسلام لتوجيهات الإمبريالية التي يمثلها صندوق النقد (الدين ) حتي و نحن في أضعف حالتنا .
تعويم الجنية المصرى الذى تم أمس لا أستطيع قبوله أو فهمه إلا في إطار أنه كلمة البداية للتدهور .. رغم ما يقوله فلاسفة العصر ..فهو لا يعني إلا غلاء طافح و زيادة في الأسعار ..و إنخفاض في قيمته حتي يصل الدولار لمائة جنية خلال شهور معدودة ..
بصراحة لا أستطيع أن أتغير لأفهم ما يفعلة عباقرة الإقتصاد فينا..لقد أصبحت مسناغير قابل للتوائم مع المكان و الزمان ..و غير قادر علي التأقلم
ففي السنوات الأولي من عمر الإنسان (طفولة ، صبي ، بداية الشباب ) يتكون مزاجه الفكرى و القيمي و يبدأ فيها الحركة علي مسارحياة يستمر معه حتي نهاية العمر ..
في أحوال قليلة .. ينحرف بعض الناس عن طريقهم إما بإختيارهم .. أو نتيجة للظروف الضاغطة عليهم التي تجعلهم يتوقفون ثم يغيرون إتجاههم
حدث لي هذا عدة مرات و أنا شاب بمقدوره التأقلم مع التغيير .. عندما تركت المكان الذى إختاره لي أمر التكليف الحكومي (المكتب العربي للتصميمات) .. و ذهبت إلي سيناء أشرف علي بناء مدارس ..و..وحدات صحية ..و إجتماعية .. .. مقامة في العريش و بئر العبد و الشيخ زويد ..و رفح ..و الطور . ضمن خطة الستينيات لتوفير الخدمات للناس في طول البلاد و عرضها
نفس الظروف الضاغطة .. جعلتني التحق بالقوات المسلحة ..و رغم أن دراستي كانت تعدني لأكون مصمما معماريا إلا أن عملي كان بناء ملاجيء و حفر خنادق ..و رص الغام ..علي الجبهه و أنشاء سد ترابي باليمن ..مع تدريب الجنود ..و قيادتهم في مفارز الموانع المتحركة أوتأمين التحرك..و شهدت ثلاثة حروب (اليمن و 67 و الصمود) غيروا تماما .. من رؤيتي ..و فكرى ..و مسارى المهني
في شبابي كنت من أبناء الناصرية المتحمسين .. إرتبطت بالميثاق الوطني..والحرية و الإشتراكية والوحدة.. (( أمة واحدة ذات رسالة خالدة ))..و إشتراكية تحالف قوى الشعب العامل ..و قيادة الإتحاد الإشتراكي للعمل السياسي ...رغم أنها مفاهيم شمولية تتبعها أنظمة (رأسمالية الدولة )...إلا أننا كنا دولة .. لها برامج و خطط تنمية .. و نجاحات ..و فشل ..و رقابة شعبية ..و دستور محترم ..و قوانين ينفذها قضاة غير مسيسين ..مع وزارة مسئولة .. لها مهام إستراتيجية ..و تنفيذية .. ترصدها صحافة ذات تأثير ملموس .
لم أختار هذا النظام .. بل لم يختاره أهلي .. لقد فرض عليهم فرضا .. بحيث نمي الشباب و أنا منهم و كونوا ثقافتهم في ظله ..
حقا كنا في مراحل كثيرة ننتقده و نعارضة حتي في دوائرنا الصغيرة.. و لكن من داخل الصفوف من أجل تلافي الأخطاء و تحسين الأداء .. و ليس من أجل نقضه و تغييره .
ثم جاء الإنهيار .. كل اللي حصل إن العالم اللي عشت فيه سنين عمرى إتغير و إنقلب ظهرا علي عقب و أصبح رأسمالية فقط بدون دولة ..
إنسحقت الدولة تحت أقدام أوليجاركية مغامرة من المليارديرات تحكم .. و راى وحيد قادم من القمة .. تنفذة سكرتارية من الوزراء و النواب دون نقاش ..
الجمهورية التي تربيت تحت أعلامها .. تحولت إلي قرية بدائية يديرها مباشرة (عمدة ) مخلد في كرسية ( البعض لبد في الكرسي لثلاثين سنة ) ..يتم تعديل الدستور من أجل تمكينه وشلته .. من إقتصاد البلد و جعلها في وضع أقرب للانظمة في القرن الثامن عشر.
الناس اللي إتولدوا بعد 1975 وكبروا في النظام الجديد معندهمش مشكلة ..قد تجدهم يدافعون عن تعويم الجنية أمس و تحديد قيمته حسب تقلبات السوق .. لقد بدأوا حياتهم والجنية غير محترم أمام الدولار فلا يتحسرون علي الأيام ألتي كان الجنيه فيها دولارين و نصف
في زمني .. كانت الدراسة و العلم ..و الثقافة و العمل الجاد ..هدف ..و سبب للتقدم و الترقي ..و كانت البيئة بكاملها .. تدعم الكتاب و الموسيقي و الأغنية ..و المسرح و السينما ..بالإضافة إلي الإذاعة و التلفزيون و الجرائد التي كانت تشيع الأمل و التفاؤل ..و الرغبة في التفوق .
و رغم ما كان يصلنا .. من سوء تصرف الأمن ..و المخازى التي كانت تتم في المعتقلات ..و سوء التقدير الذى كانت عليه علاقة المخابرات بالفنانين .. و الهزيمة في اليمن ثم سيناء .. إلا أن جيلي .. الذى إعتاد علي البذل و الإنتاج.. لم يتوقف عن تطوير نفسه ..مع مراجعة و نقد إيجابي للمسيرة .. دون الإنضمام إلي فسطاط من يودون تدميرها .
وفاة جمال عبد الناصر أنهت هذا العهد ..خفتت الأصوات تدريجيا ..و إستأسد معسكر الكارهين لنظامه.. و بدأ الهدم .. بطيئا .. ثم تسارع بعد إنقلاب 15 مايو 1971 ضد (( مراكز القوى )) .. ثم تعالت الأصوات بعد أحداث 73..و ذهاب السادات للقدس .. تهتف للقائد و تتغني بحكمته .. و إنشغل الناس في أخذ طوبة من بيت أبوهم الذى ينهار .
النظام الجديد .. جمع كل المسالب السابقة و التالية وتلك التي لم يخترعها البشر بعد ..
سيطرة الأمن علي كل الأنشطة بما في ذلك أحزاب المعارضة و الفن ..و السينما و الإعلام و الرياضة ..وفتح المعتقلات .. و سجن أجدعها شنب بما في ذلك العلماء و رجال الصحافة ..و الدين ..و الفكر و السياسة .. و تناسي حقوق الإنسان .. يل هرسة وسخره في بناء القصور و تنفيذ مشاريع لها أولوية متأخرة
دمر علي مسافة 30 سنة تالية .. كل ثروة مصر الصناعية .. بالإهمال و التصفية و البيع و التجريف ..و تحالف مع إسرائيل و أمريكا و الخلايجة ليصبح مطية للإمبريالية العالمية ينفذ سياستها و حارب الثقافة و العلم.. و خسف جميع الأصوات عدا ما يمجده .
يناير 2011 ثار الناس .. يريدون التخلص من أسر النظام الجديد الذى أطاح باحلام الفقراء و المهمشين ..
لتتولي القوات المسلحة القيادة من بعده .. ..وتنجز بهدوء و إصرار مهام المرحلة التي بدأها السادات و أكملها مبارك أى ضرب بقايا نظام عبد الناصر و تمكين الرأسمالية الطفيلية (الشللية ) .. وخلق طبقة أرستقراطية..و الإستسلام لسيطرة صندوق النقد .. بمشاريعة التي عليها الكثير من علامات الإستفهام .. لتعيش مصر عصر مختلف عن ذلك الذى نشأت فيه .
ديون متلتلة .. إرتباك إقتصادى .. تغير نوعي في قيمة الجنية .. إرتفاع الأسعار إنتشار الفقر و العوز
..زمن شديد القسوه يزيد من اعداد المحتاجين..و يبني للمليارديرات قلاعا و حصون محمية .. يعيشون فيها منفصلين عن الشعب المرتبك في مقاومة الفقر و الغلاء ..و تدهور القيمة الشرائية للجنية
بمعني عاصرت نظامين مختلفين .. أحدهما في شبابي نقل لي علاقة متعاطفة بافقر الفقراء..تعودت عليه و تعلمت في ظله .. و نضجت علي مبادئة ..و لم أتغيرإلا قليلا مع التغيرات التي بدأها السادات ضده.
و هذا النظام الذى نعيش الأن تحت نيره ..مختلف تماما .. غير مفهوم إلا لشلة أوليجاركية حاكمة .. تتلاعب بالناس في السر و العلن .. تتعالي عليهم ..تحلبهم ..و تضيق عليهم عيشتهم ..و تهمل خدماتهم ..و تصم الأذان عن ضيقهم ..و أحزانهم .. ومشاكلهم .
أنا لست معارضا رغم دخولنا في النفق المظلم لتدهور قيمة العلملة الذى سبقتنا إليه لبنان و السودان و سوريا و العراق .. ففي بلدنا غير مسموح بصوت يختلف عن حديث الحكام إلا لمن عاش في الخارج ..ومن يعبر عن عدم رضاه يجعل من يسمعه يهرب و يخاف هروب السليم من الأجرب ..
و لكنني أيضا لن أدافع عن عالم تكالبت علية قوى الإفساد لتجعل منه نموذجا لكيان لا يختلف عن جمهوريات الموز الأمريكية الصنع ..بعد أن سقط في حبائل الإمبريالية العالمية و إستسلم لاهواء ديكتاتورية .. دون أن ينطق أو يتحرك .