لم يشرق بعد فجر الرجاء


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 7748 - 2023 / 9 / 28 - 09:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

عندما تتأمل حياة أبناء و أحفاد (كونتا كينتي) الإفريقي الذى أسره تجار العبيد عام 1776 م و نقلوه إلي أمريكا كما جاءت في رواية الجذور ..
بحياة معاصر لهم المهاجر الكرواتي نيكولا تسلا 1856 م العالم الذى غير مفاهيم الناس عن نقل الكهرباء المترددة ..
فيمكننا فهم كيف يتسع الفارق الحضارى بين من عاش جدودهم في ظل القهر عيشة العبيد لسنين طويلة ..و من يولدوا منطلقي التفكير أحرارا.
نحن كبشر قد نتفق في تكويننا التشريحي .. و لكننا نختلف في سلوكياتنا و أفكارنا .. و علاقتنا بالحياة إختلافات جذرية ..كل منا له بصمة خاصة متفردة .. جاءت من تأثير عوامل متشابكة من البيئة و المجتمع .و تاريخ السلالة التي جاء منها الفرد .. و ما يزاول من أعمال .
نحن للاسف نشبه أحفاد كينتا كينتي إذا ما قورنا بأبناء بلاد الواق الواق .. لقد عشنا قرون قهر إستعمارى أثرت في سلوكياتنا و لغتنا .. و إهتماماتنا وما نزاوله من أعمال ..
و لم تنتهي هذه المعاناة بعد إستقلال1956 . إذ وقعنا تحت تأثير و قهر الديكتاتورية . لا نتقدم إلا من حيث الشكل .. عمارات و شوارع و كبارى و قصور وسيارات و تلفزيونات و كمبيوترات.. و متروهات..
دون أن يتغير في المقابل منطقنا و فكرنا و سلوكنا وتعليمنا و قدرتنا علي مواكبة معطيات العصر وفلسفاته فقد ظل أسيرا لزمن الإستعمار و التخلف.. مرعوبا ،مرتبكا ،مترددا ،مطيعا ، خائفا من التغيير .
بصراحة رغم مرور67 سنة علي الإستقلال إلا أننا .لم نتحرر بعد .. لا زلنا سكان دولة من دول العالم الثالث يحكمها القهر حكما شموليا ..فاقدة القدرة علي التحديث .. و لا أمل لدينا للحاق بسبنسة قطار التحضر
بل نتجه بخطي سريعة لمتاهه الضياع التي ستؤدى لإندثار نوعنا.. لقد حدث هذا من قبل عدة مرات .. و لكننا لا تعرف ..و لم نتعلم .
ألفارق يتزايد يوميا بين عشوائية تفكير ناسنا..و تشوه حياتنا السياسية و الإقتصادية و الفكرية ..وبين التوجهات المنطقيه علي أسس علمية السائدة بين سكان بلاد التحضر.
أينما وجهت نظرك سترى تعثر و نكوص و جهاله ..خصوصا هذه الأيام عندما نتكلم فيها عن مستقبل نظم حكمنا .. فنجد البعض متمسكين بما كان متواجدا في القرن الثامن عشر .. بلا تعديل إلا في الشكل .. المماليك حل محلهم من يتسلطون بقوتهم ..و الملك أو السلطان إستبدل بديكتاتور له سلطة مطلقة تزيد عن سلطة السلطان .. و إحتقار للناس و تهميشهم ..و جباية مجحفة ..و حياة غير أمنة للأغلبية حتي وهم في القبور
الفارق بيننا و بين سكان بلاد الواق الواق هو الفارق بين موال يطلقه عيل من عيال الفن الشعبي اللي بيغنوا اليوم (المهرجانات) في الأفراح و يرقصوا الكبار و الصغار.. و كورال السيمفونية التاسعة لبتهوفن الذى يعزف في أوبرا فينا بين صمت و إستمتاع الجالسين و إحترامهم للمادة التي تقدم .
الفارق بين الخوجة الذى يبحث عن كام درس خصوصي أو مكان في السناتر ترتق له ميزانيته المهربدة .. و عالم يقف علي قمة جبل في الاسكا يحلل نتائج ما توصل إلية المرصد من وجود أجسام هائمة في الفضاء محتمل أن تصل للارض فتدمر ما بناة الانسان ..و يدبرمع مفكرى مجتمعه كيف يمكن إبعاد هذا السيار عن مسارحياة كوكبنا
الفارق بين إنتخابات الرئاسة الأمريكية و ما يحيطها من شفافية و تسهيل للناخبين و صراع علي المباديء
و إنتخاب الرئاسة المصرية و ما يحيطها من مخاطر أمنية و مغامرات إستخراج تفويض لمرشح ..
سلاسة حقوقيةلأبناء تسلا تنتمي للقرن الحادى و العشرين . و عنت أحفاد كونتاكنتي و فتوات من القرن الثامن عشر
عشت في العصرين .. رأيت جنود إنجليز و هنود و إستراليين .. يتحركون في القاهرة و الأسكندرية بملابسهم المميزة يعبثون ..و يقفون في شبابيك ثكناتهم بميدان الإسماعيلية عرايا الصدور يأكلون الفاكهه و يرمون القشر علي المارة .. ثم .. رحلوا للقناة فأصبحت الحركة بجوارها محظورة ..و مقيدة علي المصريين
خرجت في مظاهرات أهتف ضدهم .. و أتحمس عندما اقرأ في الصحف كيف يضحي الناس من كل الأعمار بحياتهم و هم يقاومون محتلي ضفاف القناة ..وكيف تركت العمالة المصرية لوظائفها في الأورنص "ARENAS".. و رايت ما فعله الغزاة ببورسعيد بعد عدوان 1956 .. و هللت مع المهللين و انا أرى صور رحيل أخر جندى .. و رددت أغاني أم كلثوم (( يا مصر إن الحق .. جاء .. فإستقبلي فجر الرجاء .. اليوم قد تم الجلاء )) .
ثم عشت زمن حكم ديكتاتورية ظالمة حلت محلهم .. فلم أجد الحق و لا شاهدت فجر الرجاء ..لم يكن هناك إلا رجال تذل و تهان .. ونساء يتلاعب بهن رجال صلاح نصر ..وثروات تبدد في الحروب و مغامرات المخابرات ..و تغيرات طبقية تجعل (القوالب تنام و الإنصاف تقوم ) .. و إستيلاء علي ثروات الأمراء و الباشاوات والخواجات .و توزيعها علي حضرات الضباط كما لو كانت غنائم حرب
رايت كيف إنكتم الناس ..و صاروا ينظرون حولهم خوفا من المعتقلات سيئة السمعة .. و هم يتكلمون ..و حضرت فشل القيادة العسكرى في 56 وسوريا و اليمن و 67.
إستمر هذا اللحن البائس بتنويعات متنباينة .. لمدة ستة عقود تالية .. تدهورت فيها أحلام المصريين .. لتصبح الرحيل من هذا المكان هربا .. و لو بمغادر الدنيا .. جعلوا حياتنا كرب .. و تعاسة ..وفشل ..و عدم ثقة ..و أحزان تفوق سابقتها ..و لم يطل فجر الرجاء حتي اليوم
لقد تواجد حرا مغردا في زمن الإنجليز عظماء الأدب و الفن و السياسة و الإقتصاد و العلم و القانون ..و كنا نستمتع بفن حقيقي و تعليم معاصر .. ونقرأ جرائد يحررها ناس غير هيابه.... و لنا دستور محترم و برلمان منتخب يضم عقلاء القوم.. و حتي السجون و المعتقلات كانت نظيفة و إنسانية .
قبل الإستقلال كان في مصر ( طه حسين.. سلامة موسي .. عبد الرحمن بدوى .. نجيب محفوظ ..إحسان عبد القدوس ..التابعي ..روزاليوسف .. أم كلثوم ..عبد الوهاب.. نجيب الريحاني ..توجو مزراحي .. مصطفي النحاس .. مكرم عبيد ..السنهورى ) عاشوا في إزدهار و أبداع
بعد رحيل الإحتلال .. لم نر علي المداود إلا شر البقر .. أشرار من الذين لا يستخدمون إلا القوة و الخداع و الكذب لتضليل الناس و فرض السيطرة عليهم بالتعذيب في السجون المهينة ..و بث الخوف و الرعب . . حتي بين بعضهم بعض .
لسوء الحظ أن فشل المصريين المتتالي في التحول من أبناء دولة مستعمرة محتلة لقرون .. إلي مواطنين أحرار ينمون و يطورون بلدهم .. جاء مع تغير العالم خلال نصف القرن الماضي .. و تطور البشرية لتحقق في سنوات ما لم تحققه خلال قرون طويلة من التواجد .
فزادت الهوة إتساعا .. و لم يعد بمقدور شعب أغلبه يجهل القراءة و الكتابة بما في ذلك متعلميه .. قادر علي المواكبة أو التطور و فهم لغة العصر.
عندما تابعت تأملات (الفين توفلر ) في كتابة ( صدمة المستقبل ) صدر عام 1971 و ترجم إلي العربية 1974.. يتحدث فيه عن المستقبل كما يتصورة في القرن الحادى و العشرين .. إندهشت من حجم الخيال والشطط الذى يقدمه .. منها ( العمل و الدراسة بالمنازل بواسطة شبكات التواصل و الفيديو كونفرنس ) .
و لكن هذا الاندهاش تحول لحزن عميق بعد 50 سنة من توقعاته ..لقد أصبحت أحلامة حقائق و واقع يعيش الناس في ظله كأنما كان ينظر في بلورة المستقبل الكريستالية .. بل و يتخطاها العالم بمعجزات الذكاء الصناعي و مغامرات تصوير الكون و التجول فيه بمعدات حديثة أقرب للسحر و المعجزة .. بينما نحن نرى الطالع في الفنجان .
لقد أصبح لدينا الانترنيت .. و الفيس بوك ..وباللغة العربية ولكن فيما نستخدمة !!.. إستخدم البعض صفحاتهم للإعلان رخيص عن الوفاة أو نشر صورهم و صور الأبناء و التهنئة بأعياد الميلاد .. أو لكتابة حكمة قديمة أو موعظة أو إعلان أو نكته ..
تجول في صفحات الاصدقاء لن تجد إلا القليل من العلم و الفن والمعرفة ..بعد أن حاصرنا المخبرين و البصاصين و الوشاة ..و بثوا الرعب في القلوب و الأيادى المرتعشة ..
لقد أصبحت المعرفة التي تلف الكرة الارضية متاحة يوميا..و لكن هل يستفيد منها و يستخدمها !!.. من يجلسون علي المقهي منتظرين ما ستبليهم به الايام من الضرائب و رسوم ينوء بها كاهلهم ..و غلاء متزايد و قوانين مجهولة مستحدثة تنتهي بهم إلي السجون و قطع الرزق و تشريد الأبناء .. كأنما هو قدر سيزيفي يعاقب به من يعيش علي هذه الأرض.
في بلدنا يستخدم الحكام ما يبتكره الانسان الحديث من تطورات التكنولوجيا .. لإحكام قبضتهم علي رقاب الخلق .. وعد أنفاسهم و متابعتهم كظلهم .. و إحباط تطورهم ومنعهم من التغيير .
جيلي عاصر هذا وراى كل أداة حديثة و كيف تتحول لوسيلة قهر .. التليفون المحمول المراقب حتي و هو مغلق ..والأقمار الصناعية أو البث التلفزيوني الموجه الصابغ لعقول الناس ..والالة الحاسبة التي تحولت لكومبيوترات محمولة مع اللجان في الشوارع للقبض علي من يسوقه حظه العاثر بين أيديهم ..
أدوات إبتكرها مجتمع بعينة لتتوافق مع سلوكياته و أنماط حياته فتحولت بين أيدينا إلي عصي كهربائية و كرابيج كبح نستخدمها لتحويل حياة البسطاء لجحيم .
نحن في مأزق .. أن البنية التحتية التي تخرج لنا العلماء و الفنانين و المثقفين و الرياضيين .. جرى تجريفها عمدا و تخريبها و حصارها و السيطرة عليهاعبر ستة عقود تعسة و لا أمل قريب في التغيير
ملخص مقالي لمن قفز فوق السطور مللا ..
إن لم نتطور سنندثر... إن لغة التقدم تغيرت عبر القرون .. و أصبحت تعتمد علي العلم و الفلسفة والمعمل و التجارب و إرتياد المجهول والعمل الجماعي و حفوف الإنسان و إحترامه .. و ليس القهر و الرعب و الخوف من المعتقلات و السجون
و أنه خلال النصف الثاني من القرن العشرين تباعدت الاسباب بيننا و بين من أصبحوا أحرار الفكر ..لا يخيفهم ضابط و لا كاهن و لا جابي..فإرتفع سقف الابتكار لديهم لمدى لايمكن لاحفاد كونتا كينتي إدراكة.