إعتراف سلبي معاصر


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 7903 - 2024 / 3 / 1 - 07:07
المحور: سيرة ذاتية     

يعرف الإنسان أنه قد أصبح مسنا (عجوزا) إذا كان تذكره لأحداث الماضي ( الطفولة مرورا بالشباب ..و النضج ).... تزيد عن .. احلامة بخطط للمستقبل ..و الحديث عن معاركه المهنية.. وقدرته علي إستيعاب فشله و معاودة المحاولة عدة مرات.. و عدم الإكتفاء بالنجاح الأني .. ففي باكر سيحقق نجاحات أكبر .
لقد أصبحت هذا الكهل .. الذى ليس لديه أملا يسعي من أجله ...و لا يتحدث إلا عن أمس و خيباته .. و يتساءل بشكل ممل ((ترى ما هي أخطائي .. التي أوصلتني لهذا الموقف البليد الذى اعيشه.))
و في الحقيقة كنت شخص (طيب ) سيخف قلبي في الميزان أمام ريشة ماعت .. ..فخلال عمرى ..
لم أقتل أو أعذب إنسان أو حيوان حتي الأعداء (اثناء الحرب) ..لم أقتلهم ..أو الكلاب التي تنبح علي و أنا أسير في شوارع منطقتنا لم أقوم بأذيتها أو تحريض الحكومة عليها
لم أغش الأخرين أو ( أنصب عليهم ) أو أسلبهم ممتلكاتهم بالإكراه حتي في زمن الإنفتاح عندما كان الجميع يهلبون .. ترفعت عن هذا .. رغم أنه كان متاحا فقد كنت عضوا في غرفة التجارة الأمريكية التي أخرجت أغلب مهلبية العصر المباركي
لم أكذب حتي الكذب الأبيض نفرت منه ..أو العن من يسيء لي .. أو الفق تهمة لاحد.. أو أمارس النميمة وأسخر من الناس.. بل كنت دائما سببا لسعادتهم و مساعدتهم .
لم أغلق أذناى عن سماع كلمات الحق ...ولم أتصرف بكبر و غطرسة حتي وانا في أعلي المناصب ..و لم أقبل الهدايا أو السفريات الممولة من المقاولين ..أو عزوماتهم الفاخرة
لم أخالف الدستور أو القوانين.أو أذهب لصناديق الإقتراع أو أشارك في تزوير نتائج الإنتخابات
. لم أشتر أرضا و أسقعها أو أضارب في البورصة أو أتاجر في العملة أو أزوغ من كمسارى و أركب القطار سفلقة .. أو أتهرب من الضرائب و الإتاوات مهما كانت ظالمة .
لم أهدم منازل الناس و مدافنهم لان لدى سلطة . أو ألوث ماء النيل رغم ما أمر به المهندس حسن خالد و رجالته نبيل عامر و عادل بكر .. بأن ارمي مياة الصرف الصحي في الرياح دون معالجة .
و في الحق لم تكن أيامي في مصر سعيدة ... فقد كنت منذ شبابي أطمع في أن أعيش في الزمن الذى يتخلص فيه المصريون من أثار الإستعمار ..والتخلف ..و سيادة القوى الرجعية المستغلة ..و يحكم أفضل الأبناء بلدهم بالعدل و العقل و الديموقراطية و هو زمن لم يأتي بعد.
خلال رحلة حياتي تاه الطريق مني عدة مرات .. وتراكمت حولي الأخطاء .. حتي كدت أتصور أنني لم أكن علي صواب أبدا خلال 84 سنة مضت.
من بين هذه الأخطاء يبرز.. خطأين عوقا حياتي أحدهما إرتكبته في مقتبل عمرى .. فقد تزوجت..و أنجبت ..و أصبحت مسئولا عن عائلة .وكنت لم أبلغ بعد الثالثة و العشرين ..
كان إختيارا غير مناسبا (( شكلا و موضوعا )) .. تسبب في أن يتبعه الكثيرمن السقطات المتتالية ... و لم أصححة إلا بعد أن غير مسارى و كاد أن يتلف حياتي .وما زلت أدفع الثمن
موضوع الزواج و تكوين عائلة .. عمل جاد أخذته بإستهانة و طيش فجلب التعاسة لي .. و لنتاج هذه العلاقة من أبناء و أحفاد .
الخطأ الثاني.. جاء مع منتصف العمر و بعد أن كونت خبرات كنت أظنها مفيدة لابدأ عمل خاص ..
فقد قررت أن أترك وظيفتي بالعراق و أعود للوطن أزاول نشاطا جديدا عن طريق تكوين شركة مقاولات تعمل في مد خطوط الكهرباء .
لم أكن أدرى أن البزينيس في مصر مغامرة خطرة تحتاج لمهارات لا أملكها تسمح لصاحبها أن يتواجد في سوق علي درجة عالية من الفساد و عدم الإستقرار ومجتمع جعان يخطف ما بيدك ليشبع به الأباطرة من الحكام ..
لقد عملت كمقاول أنفذ مشاريع مؤسسات حكومية ..و شركات قطاع عام .. و أخرى قطاع خاص.. فلم أجد (علي الإطلاق ) بينها .. في طول البلاد و عرضها ( الجيزة، الأسكندرية ، الشرقية ، سيناء ، الواحات أو حتي في جبل العوينات) ..مكانا .. تتم فيه الأعمال طبقا لبنود التعاقد و تحصل فيه علي حقوقك دون مشاكل
في جميع المؤسسات بلطجة .. وفساد طافح .. و ناس تتكسب من التعطيل .. شرهه .. مرتشية .. وإذا قدروا فجروا .. و كذبوا.. و خانوا ..حتي لو تسبب هذا في خسائر بالغة لك .. من أجل مكسب تافه لهم .
أن تجد عملا لشركتك في زمن الإنفتاح الساداتي ..كان مشكلة ( رغم وفرة المشاريع ) .. إن لم تمر من خلال الطرق المعووجة حتي لو كنت الشركة الافضل في الأسعار و سابق الخبرة .
الضرائب في مصر خمس جهات متفرقة ( كسب عمل.. مرتبات العاملين .. الدمغة .. القيمة المضافة ) كل منها يحتاج لأوراق و مستندات و وجع دماغ .. .يضاف لها رسوم للنقابات .. و إستقطاعات للصناديق الخاصة .. و الهدايا في المناسبات ..و العزايم في رمضان .. فتمثل نسبة مرتفعة من ميزانية الإنفاق
التأمينات ثلاث جهات ( للعاملين الثابتين .. الافراد الكاجول .. تأمينات علي العمليات ) .. و عليك أن تجرى بينها تسدد في الميعاد مهما كانت ظروفك.
المرور .. إشغالات الطريق ..غرامات إعادة الشيء لاصله .. مشاكل مع الحكم المحلي و الشرطة . و مكاتب العمل ..والتراخيص ..و بوالص التأمين .. والتعامل مع البنوك ..و خطابات الضمان ....كل منها يرمي عليك بلاه و يقرفك و يعطلك و يحتاج لجيش من الموظفين حتي تغطي طلباته
كنت أتقن فنيات العمل .. و أعرف كيف أديرة ..فلقد كنت ناجحا في نشاط مشابه بالعراق ..و لكن خلال مدة عملي الخاص في مصر لم أقابل غير المشاكل ..و القضايا ..وتحقيقات النيابة .. و الرقابة الإدارية ..و الأمن .. و تأمين إحتياجات العمالة و معالجة أخطاؤهم .. فتجد أنك تعين بشركتك محاميين و محاسبين أكتر من المهندسين ..و تحتفظ بسجلات و أوراق عمرها عشرات السنين .. كي ترد علي مطالبات منذ زمن ( رع ) و لا تحقق أرباح .
.
كنت لا مؤاخذة فاكرها بلد فيها قانون وعدالة و إسلوب عمل .. طلع فيها قانون فعلا و لكن تم صياغته علشان يخرب بيتك ما لم تعرف من أين تؤكل الكتف .
قارن بين قانون الضرائب أيام الإنجليز وحفظ حق الممول في درجات التفاوض و التقاضي.. و بين تعديلات أخونا بطرس غالي ..و إجتهدات اخونا معيط التي تؤدى السجن دون جدال لو طبقت علي الجميع ... حتي لو أعلنت إفلاسك أو أوقفت نشاطك .. يجرون خلفك بالمرزبات .
أو قانون التأمينات الذى يعرف كيف يأخد .. و عندما يعطي يحتاج لمعجزة .. خصوصا بالنسبة لمعاشات العمالة المؤقته في المقاولات و المخابز .
بصراحة كان العمل الخاص زمان خطر و صعب لو مكانش لك ضهر يسندك ..
أما الأن فمستحيل أن تفتح عربة تبيع فول و طعمية علي الناصية دون أن تخضع للمافيا المحلية ..ويطلع عين أهلك بسبب القوانين التي تصدر كل يوم ..والفساد المستشرى بين الصغار و الكبار .. إلا إذا .. إلا إذا .. بقيت زيهم ..
غلطات أخرى تتضاءل بجوار كارثتي عمرى .. أهمها أنني لم أهاجر للخارج عندما أتيحت لي الفرصة .. كذلك كان إختيارى سيئا لمهنتي فالهندسة ( العمارة ) لعينة لا تجلب إلا التعب و الإرهاق و القلق و الفقر في بلد متخلف مثل بلدنا
لقد كنت أحفظ الميثاق الوطني و أنفذ بنوده ..و مع ذلك كنت أنتقد أخطاء النظام ..خصوصا ما حدث في 67 و اليمن .. فلم أجد إلا التجاهل و الإهمال .
عندما تغيرت الرياح لتصبح غربية أمريكية لم أستوعب التعديل .. و ظللت علي طريقي أصارع طواحين الهواء ..و لازلت .. أرى أن ما يحدث حولي إنحرافا عن المسار الصحيح ..و ليس تغييرا أوتطويرا أو توافقا مع التغييرات العالمية و المحلية .. فزاد هذا من وحدتي و إبتعاد الناس .
و من غلطاتي أنني لم أستمر في كتابة الرواية و القصة .. عندما لم أجد حماسا .. من حضرات نقاد شيلني و أشيلك ..و تحولت للدراسات و الترجمات ..و المقالات ..و البوستات التي لا يقرأها أحد .
وأنني لم أنضم لحزب أعبر من خلالة عن رأيي السياسي .. حتي رغم الوصاية التي يفرضها الحكام علي الديموقراطية .
يبق أن الإنسان الذى يعيش في مدينة مثل القاهرة ..و لا يهجرها مبكرا.. فهذا معناه إنه خيبان .. نعم أنا عجوز خيبان كثير الأخطاء .. رغم أنني و النعمة الشريفة طيب ..