اللامنتمي في الكلية الحربية


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 7736 - 2023 / 9 / 16 - 10:04
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

منذ ذلك الزمن .. أصبحت كلما سمعت كلمة (إنتماء وطني ) .. ابتسم .. ولم أعد أستخدم هذا الإصطلاح المخادع في حواراتي اليومية ..
لقد إختلفت المفاهيم اليوم عن تلك التي سادت في مطلع القرن العشرين عندما كنا نعاني من إحتلال عسكرى كولوني ..
و أصبح .. الإنتماء الوطني.. و التضحية في سبيلة ..و الهتاف بحياته .. و الوقوف عند سماع السلام و ترديد كلماته جهرا أو سرا بحماس و حب .. مفاهيم إخترعها أكابر .. ليقودوا بها صغار القوم (مثلنا )..للتضحية .. و الإمتثال .. في حين يختبئون هم بعيدا في أكثر الأماكن أمنا ينعمون ..
مات الملايين في سخرة حفر قناة السويس تحت إسم الإنتماء الوطني .. و في اليمن وسيناء وأثناء تجهيز خط الصواريخ .. و مع عبور إسترجاع سيناء و في مواجهة الإرهاب .. و في سجون الظلمة و معتقلاتهم و مسالخهم .. و كل هذا تحت راية الإنتماء الوطني .
فلنرى كيف وزعت .. الغنائم بعد أن هدأت أتربة المعارك .. تركوا لنا الفخار و الأناشيد الخاصة بالحرص علي مصلحة الأمة و فداء حبات تراب الوطن بالروح و الدم .. و إنشغلوا هم في جمع جواهرة و مراكمة ملايينة ..و منافسة تجاره و بيع أرضه و منشئاته .
كان علينا أن نضحي بصدور مكشوفة من أجل الحرية والإنتماء ..حينما كانوا هم و عائلاتهم .. و أبناؤهم في قلاعهم المحصنة المكينة يوزعون بينهم الأرباح الميكرة ويسخرون .. من هؤلاء .. الذين تخدعهم الكلمات.
في اكتوبر 1963.. إلتحقت بالكلية الحربية..كنا كطلاب ننشغل أثناء اليوم في أعمال التدريب و الدراسة .. ثم يتاح لنا فترة ساعتين أو أكثر قليلا مع غروب الشمس للمذاكرة .. و مراجعة ما درسنا ..
كانت أيام شتوية مرهقة .. و المهام فيها كثيرة .. و الجهد البدني عال ..و التحول للحياة العسكرية يصحبة معاناة نفسية تخص قبول الأوامر دون تردد و تنفيذها حتي لو كانت غير منطقية ..كقياس طول العنبر بالإبرة . . أو الوقوف علي ساق واحدة لساعات أو القفز لحمام السباحة من فوق المنط بكامل ملابسك عندما تسمع الأمر .
لذلك كنت أنتهز الفرصة للإسترخاء و مزاولة نشاط أحبه فأخرج من بين أوراقي كتابا أخفيته جاء مع زوار يوم الجمعة.. لكولن ولسون (TheOutsider) مترجم للعربية بواسطة أنيس زكي بعنوان(اللامنتمي ).. اقرأ فية يوميا .. حتي أتممته .
الكتاب شد إنتباهي فالمؤلف كان لدية القدرة علي التفكير خارج الصندوق و أن يعالج الحالة النفسية للإنسان اللامنتمي، والمدهش هو أنه كان يقوم بهذه المعالجة على ضوء دراسة هذا النوع من الشخصيات (اللامنتمي ) كما قدمها كبار الأدباء العالميين والفلاسفة في مؤلفاتهم ..
((فيحلّل أعمال كافكا ودستويفسكي وهمنغواي وكامي وسارتر ونيتشه وفان كوخ ولورنس وغيرهم )) .. متتبعا ظواهرعدم إنتماء بعض شخصيات مؤلفاتهم بحيث قيل عنه .. ((أنه أفضل كتاب في التحليل صدر في أوروبا منذ (سقوط الغرب) لاشبنجلر... و إنّنا لا نكاد نصدّق أنّ مؤلّفه فتى في الرابعة والعشرين)) ...
لقد كنت في نفس سن المؤلف أعاني من ضغوط المعسكر التي لم أالفها.. لذلك أقنعني المنطق الذى قدمة .. و صاحبني علي مدار عمرى مصححا الكثير من المفاهيم التي إستعمرت عقلي منذ الطفولة .
كسر كولن ولسون حالة الهيلولة النفسية التي تصاحب دروشة أغلب المنتمين و هم يغنون أناشيد الحماس و يبكون .. لتحل محلها شكل من أشكال الإحساس بالمسئولية الفردية عن الأمور الحياتية كجزء من عمل بشرى واسع يجرى من أجل الإستمرار الفردى .. و الجماعي .
و هكذا خلال رحلة عمرى لم أنتم لمبدأ أو حزب أو فكرة.. لم أكن (في معظم أيامي ) عضوا في جماعة سياسية أو إجتماعية أو حتي علمية ..
و كلما تقدمت في العمر .. تحللت إنتماءات و حماسات زمن الصبي و الشباب لاقتنع بتهافتها و ضرورة استبدلها بعقد إجتماعي يحدد بمسئوليات عقلانية واضحة .. بين أفراد الأمة .. تصف المسئولية و الحقوق بوضوح
فكرة الإنتماء الهلامية للاسرة .. اوالقبيلة أو المهنة .. او المكان .. أو العقيدة .. أو الوظيفة .. أو للنادى ..أو الوطن .. أو اللون أو النوع أو الجنس .. فكرة عاطفية سالبة لحرية الفرد .. علينا أن نستبدلها بالإلتزام التعاقدى ...دستور توافقي ..و قوانين عادلة .. و قضاء مستقل .
عضو مجتمع.. له حقوق و عليه واجبات .. من المفترض لصالحة ..و صالح الجماعة أن يؤديها بافضل طريقة بعيدا عن غوغائية ..الدروشة و الهتاف المفرغ من المنطق .. و الإنحياز العاطفي غير العقلاني و تحيا بلاد الواق الواق ثلاث مرات .
حتي أخر القلاع المتصلة بالإنتماء للبشر و حضارتهم و تفوقهم .. سقطت و أصابها التحلل أمام العجز الدائم علي مواجهة الطبيعة ..
فمن غير المستغرب أن تنهار حضارة الإنسان كما حدث قبل 66 مليون عاما .. مع إندثار حضارة الديناصورات نتيجة ضرب كويكب شبه جزيرة يوكاتان في المكسيك..
التاريخ يقول أنه بعد ملايين السنين من الكارثة .. كانت الحياة تنبض ثانيا و تتطور الثدييات الضعيفة حتي تصل للعقل البشرى ..
بمعني حضارتنا هذه قد تفني أيضا .. و قد يكون هذا بأيدينا و نتيجة لجهلنا .. و قد يكون لسبب خارج إرادة البشر .. و ها نحن رأينا ماذا فعلت الأمواج (بدرنة) و أهلها ..
و لكن و مع ذلك في بقعة ما من الكون ستتطور الحياة العاقلة .. و تنتج وعي أفضل .. يرانا .. كما نرى نحن الشمبانزى اليوم ..أو قد يختفي الوعي في الكون تماما .. و يظل يتحرك حسب قوانينة دون أن ينقصه شيئا.
أنا اليوم في عمرى هذا غير منتم لاى شيء .. حر .. غير متعصب للقبيلة أو عائلة أو الأرض أو العلم أو النادى .. أو الزعيم ..
و أعتبرها أمراض تخلف توطنت بين ضعفاء البشر .. خصوصا من إفتقد منهم للفلسفة .. و المنطق ..و ترك عقلة فريسة .. يوجهونه لتحقيق مصالحهم .. لهم .. القشدة .. و له الشرش