الإنقلابات العسكرية سبب بلوانا


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 7788 - 2023 / 11 / 7 - 09:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لا أستطيع أن أغادر هذه الحياة دون أن أفضفض (مع من سيبق يعاني في هذا المكان). بنتيجة ما توصلت إليه من أسباب نكبتنا بعد أكثر من ثمانين سنة معايشة لخمسة أنظمة حكم فرضت علينا فرضا دون إرادة الناس.
لقد ولدت وعشت صباى في زمن الملك فاروق.. بمدينة تضم أجناسا و أديانا متعددة أقرب لعواصم الغرب المتقدمة ( باريس و لندن و روما و أثينا )
..في ذلك الزمن ..كنا سكان المدن الرئيسية حتي في الأحياء الشعبيةو المتوسطة لنا طابعنا الخاص المميز ..و سلوكياتنا المتحضرة ..لا تفرقنا عن الأوروبي في التصرف و الملابس و مستوى الخدمات والمعيشة و المواصلات ..والنظافة والإنضباط و الأمان ..
ثم رايت بلدى تتدهورعلي مهل لقد حدث السقوط بالتدريج ..يوم بعد ألاخر في تراكم كمي بطيء .. حتي حدث التغير النوعي مع بداية ستينيات القرن الماضي .. فأصبحت مدننا تعيش عشوائية قروية الطابع .. سيئة المرافق غير نظيفة .. يصعب أن تجد كرسيا خالي في وسيلة مواصلات .. يغلب علي سكانها التعصب و الفقد.. و الفقر و الخوف والحرمان من التواصل مع العالم الخارجي .
ما زلت حتي اليوم أتساءل عن السبب الذى جعلهم يقسمون مساحة أرض مدرستي (فاروق الأول ) إلي عدة مدارس بالإضافة إلي مقر للمنطقة ..و حرمان الطلاب من المباني و الملاعب المعتني بها بعد نشر ذلك القبح و الإزدحام .. ((هذا حدث لكل مدارس زمني )).
أندهش من الظروف التي حولت المستشفي اليوناني او الطالياني أو الدمرداش من مكان نظيف تتلقي فيه خدمة أوروبية و ممرضات خواجات أو راهبات ملتزمات .. لما أصبحت عليه اليوم من إهمال وفوضي و سوء إدارة .. ((هذا حدث لجميع مستشفيلت مصر بما في ذلك غير الحكومية ))
ما الذى هبط بالخدمات في فروع بنك باركليز أو الأهلي أو مصرمن مكان يتعامل مع رواده كما لو كانوا أمراء إلي هذه المتاهه التي لا تملك إلا أن تلعن اليوم اللي إتولدت فيه لو إضطريت لقضاء مصلحة لديهم أو من خلال سيستمهم الواقع دائما .
ما السبب .. في تغيير كل الأنشطة و الخدمات
السينما و المسرح و الكبارية التي كانت تعج بالباشاوات و البكوات و عائلاتهم .. إلي أماكن بهذا القدر من الرخص في الأداء..
و المطاعم ( جروبي و الأمريكين..و الحاتي ) ..و الاسواق (صيدناوى شملا شيكوريل عمر أفندى و باتا ) و الفنادق (سميراميس و شبرد) ..والحدائق ( الأورمان و المنتزة ).. والجرائد (الأهرام و المصرى ) والمجلات (روزاليوسف و المصور ) ووسائل النقل (الترام و المترو و الأتوبيس و القطارات )..و البرلمان والمحاكم و أقسام الشرطة و مباني المصالح الحكومية .. لتصبح أماكن فاسدة مكتظة .. تقدم خدمة رديئة ..تحتاج إلي واسطة أو تدفع رشوة لتنالها .
لماذا إنحطت حياتنا إلي هذا الدرك من الفساد و الإستهتار و عدم الإهتمام لدرجة قطع التيار الكهربائي يوميا بدم بارد عن معظم المشتركين ... أو كسر أسفلت الشوارع الداخلية مع إهمال إصلاحها وترك القمامة تتراكم بها دون جمع .. أو زيادة أعداد الشحاتين و البلطجية و اصحاب المهن الطفيلية ..و حالات البؤس و الفقر التي تشمل كل طبقات المجتمع .
فكرت أكثر من مرة .. و إسترجعت ما حدث خلال سنوات عمرى .. و تساءلت هل هو زيادة السكان .. أم الفروق الطبقية و سوء توزيع الثروة .. هل بسبب حروب ومؤامرات خارجية و حصار إقتصادى ..
هل جاء نتيجة نقص الإمكانيات و تجريفها ..هل بسبب تغيير سياسة النظام لأكثر من مرة ..هل هي أخلاق الزحام و التنافس التي غيرت أهداف الناس و سلوكياتهم ..
أم أن المشكلة في التعليم ..في الوعي السياسي ..في طبيعة المصريين .. في إحتلال دام لألفي سنة ..في التدين الطقسي السلفي و إنتشار الوهابية.
فلم أجد سببا مقنعا لكل هذا الخراب إلا ذلك الإنقلاب العسكرى الذى قامت به مجموعة متنافرة من البكباشية (كبار صغار الضباط ) في 23 يوليو 1952 ..محدودى الخبرة ..غير مكتملي النضج السياسي .. الذين بدأوا من أول يوم صراعهم علي الغنيمة و الأرباح .. وتعاملوا مع المصريين كما لو كنا عبيد إحساناتهم .. قصر ..غير مدركين لمصلحتنا ..و غير قادرين علي إدارة حياتنا و ثرواتنا ..
حضرات المنقلبون علي عتاة السياسين .. كان فكرهم فاشيستي إكتسبوه من إشاعات و حواديت الشوارع ..أقرب للإخوان المسلمين.. مضادين للديموقراطية و الحرية و حقوق الإنسان .. و لم يكن يجمعهم هدف أو إستراتيجية واحدة طول سبعون سنة غير تقليد حكم النازى بإشاعة الخوف بين الناس بالمعتقلات و السجون و التعذيب و المحاربة في الأرزاق ..وخداع جوبلزى الطابع مستمر من وسائل إعلامهم المسيطر عليها علي مدار الساعة
المنقلبون الصغار خربوا مجتمعا مستقرا واعدا سواء بالحكم العسكرى المباشرفي كل مكان كنت تجد ضابطا يصدر الأوامر و يدعي الثورية ..
ثم بعد إنقلاب 1954 ضد محمد نجيب أصبح لدينا ديكتاتور (عادل )يامر فيطاع
ثم فرض علينا الإشتراكية القومية الهتلرية التي في حقيقتها (( رأسمالية الدولة ))..ليسلمنا إلي من قرروا لنا دون رضانا تلك العشوائية الإقتصادية التي إنتهت بالتسليم المطلق لصندوق النقد و تحقيق سياستة الإستعمارية
لقد غيرت فردية الحكم المعتمدة علي سيطرة أجهزة الأمن حياتنا لمدة سبعين سنة .. و قلبتها ظهرا علي عقب من ديموقراطية ليبرالية تتمتع بقدر واسع من الحرية .. لتحملنا بهزائم عسكرية و فشل إدارى أدى إلي ديون متلتلة ..
نعم حولتنا إلي شعب محتاج بعيد عن قيم عصره .. لم تغير بؤس الفلاح و الطبقات المعدمة (كما إدعت ).. بل زادت من أعداد البؤساء وضاعفت بلواهم ..و أعادت مجتمع ال2%..
عمرى تسرب من بين أصابعي أشهد تنويعات علي الظلم و القهر و عدم السداد في إتخاذ القرارات و الفوضي الإدارية ..و السقوط المتتالي حتي الدرك الأسفل بين الأمم ... ثم مطالبتنا بالصبر و الإحتمال (دون توقف)علي امل كاذب .. حتي أصبحنا في هذا المأزق الذى لا خروج منه .
خلاص قلت اللي عندى ..وكل من هو أقل في العمر من سبعين سنة و لم يعش الحالتين ..يتوقف عن المناكفة ..
فأنتم لا تعرفون إلا تلك الإشاعات الموجهه التي روجتها أجهزة بث و دعاية الديكتاتورية عن الانظمة التي سبقتها ..وفي الواقع لا يعرف الوجد إلا من يكابده .. و لا الصبابة إلا من يعانيها