مصير قصور الخديوى سيتكرر


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 7734 - 2023 / 9 / 14 - 08:25
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

حديث الأوروبي اليومي يتخلله شخوص من مصدرين يتعلم منهما منذ نعومة أظافره مثل لغة الأم ..
احدهما الفلسفة الإغريقية وقصصها و أساطيرها و أبطالها .. و الاخر الكتاب المقدس ( هولي بايبل ) بكل ما يحمل من مواعظ و حكم ... أى خلطة بين ثقافتي الغرب و الشرق مغلفة بالعلمانية الحديثة .
نفس الموضوع تجده بين الهنود أو الصينين أو أبناء جنوب شرق أسيا .. فهم لازالوا يحتفظون في حديثهم برموز من الاساطير الهندوسية و الأمثال و الحكم البوذية أو الكونفوشوسية .... إنها جذور حضارية تربط الشعوب بماضيها .. و تجعل منهم نسيجا مميزا .
فالعمارات العالية و السيارات الفاخرة و القطارات السريعة ..و المدن الجديدة .. لا تجعل من الناس متقدمين بقدر درجة تمثلهم لتجربتهم القادمة مع أفكار و أساطير الأجداد ... و خلطها بالفلسفة الحديثة .
نحن بالرغم من أن أخبار اجدادنا .. قادمة من عشرة الاف سنة ..إلا أننا لم نتمثلها بل نمتعض منها و نطاردها .. لنيق في صفوف متأخرة حضاريا ..بعيدا عن ما يشغل القوم المتقدمين .
لقد فصلنا عن ماضينا .. و لقنا بفلسفات المستعمرين ..في نفس الوقت لم نعي بعد لغة العصر المرتبطة بتعلية قيمة الإنسان و تعليمه و تدريبة علي التفكير المنطقي .. و خوض المغامرة الفلسفية بحرية مطلقة الواحدة تلو الأخرى بذكاء المتحضرين .
تطور الفكر سواء في مصرالقديمة أو بابل واشور أو فارس و الهند أو في اليونان و بين الرومان إستغرق الاف السنين ..و مر عبر الأسطورة و الحدوته ..كانت تقص و يتناقلها الأجيال شفاهة ..عن الأبطال الذين يواجهون ..الكائنات الغريبة مثل اللويثيان و التنانين والبيجاسوس (الحصان المجنح ) ..و السايكلوب ( العملاق ذو العين الواحدة ) .. و القنطور ( نصف حصان و نصف بشرى ) و الجن و سكان العالم السفلي.الدوات (حيث تغرب الشمس ) .والتي تحكي للناس كقصص متخيلة عن زمن البداية ..
إيزيس و أوزيريس .. جلجامش و أنكيدو .. الإلياذة و الأوديسة ..كليلة و دمنة .. الف ليلة و ليلة .. و غيرها من أساطير إسكندنافيا و الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين .. أو سكان أستراليا القدماء .. يعيش أبطالها في لغة الإنسان المعاصر .. فيفهم الجميع حوله معني الرمز .
في واحدة إشتهرت بين كتاب الأساطير الإغريق .. ثم وجد فيها الفلاسفة المحدثين ما يضاهي مأساة تواجدنا و حياتنا ((أسطورة سيزيف ))، ابن ايولوس اله الرياح الذى كان ملكاً علي سيلينا بعد أن إغتصب عرش أخيه .
سيزيف اشتغل بالتجارة والإبحار ، وعُرف عنه أنه كان محارباً بارعاً وماهراً وتميز بالمكر والدهاء .و القدرة علي الإقناع
و كان ثريًا جدا يتلاعب بالجميع ، وقد صوره هوميروس ومن تلاه من الكُتاب بأنه أمكر وأخبث البشر على وجه الأرض قاطبة وأكثرهم لؤماً.
وكان زيوس كبير الآلهة عند اليونان يحبه بسبب طرافه حديثه .. و يأتمنه علي أسراره ومغامراته النسائية
ذات يوم أراد سيزيف أن يزيح زيوس من علي عرشه ، ففشى بأسراره ، إلى إله النهر وقال له إن ابنته إيجينا علي علاقة غير مشروعة مع كبير الألهه ، وأن زيوس قام باغتصابها.
عندما علم الإله بما فعله قرر أن يعاقبه بإرساله الي الجحيم ليموت هناك.
ولكن سيزيف استطاع أن يخدع إله الموت ثاناتوس حين طلب منه أن يجرب الأصفاد والأقفال، ليختبر مدى كفاءتها... وحين جربها قام سيزيف بتكبيله، و منع بذلك الناس أن تموت.
أحدث ذلك تمرداً وانقلاباً وثورةً وهياجاً، فلم يعد أحد من البشر يموت، انزعجت الآلهه لفقدها المتعة بموت خصومها البشر ، لذلك تدخلوا وأطلقوا سراح وفكوا أسر ثاناتوس وأعادوا إرسال سيزيف إلى الجحيم .
استطاع سيزيف الهرب للمرة الثانية ، مما أغضب زيوس، فأصدر عليه حكما بأن يعيش حياة أبدية، يمارس فيها مهمة شاقة، وهي أن يحمل صخرة عملاقة من أسفل الجبل إلى قمته.
فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، وتسقط الي اسفل عند سفح الجبل فيعود مره اخري لدحرجتها الي قمة الجبل وما ان يصل الي قمته حتي تنحدر مره اخري للأسفل . ويظل هكذا إلى الأبد، حتى أصبح رمزاً للعذاب المستمر الدائم .
البير كامي الفيلسوف الفرنسي .. يعتبر أننا كبشر نعيش عقوبة (سيزيفية ) مستمرة .. و لم أكن في شبابي علي وفاق مع أفكاره هذه أو مع أنيس منصور الذى عرفنا عليهما ( كامي ) و( سيزيف ) ..
ولكنني اليوم بعد أن تعديت سن الثمانين و رأيت ما رأيت أصبحت علي قناعة.. بانهما(أنيس و كامي ) قدإخترقا الحجب و شاهدا ما يحدث في بلدنا.. و وصفا كيف نصعد عبر قرن بأحلامنا إلي القمة لتسقط بنا إلي أسفل السافلين مع كل إخفاقة لسياسة حاكم من حكامنا .
خلال عمرى الطويل نسبيا .. شهدت السيناريوهات تعاد ..أنتخابات صورية .. و منافس كومبارس للرئيس .. ثم إستمرار للقائد علي كرسية ( ديموقراطيا ) ليكمل المسيرة و الإنجازات لمدة ثلاثين سنة ..
أو سيطرة الأمن علي الثقافة و الفن و الخطابات الدينية .. و كل ما يتصل بفكر الناس و حياتهم .. أو الإستدانة .. و بحترة الأموال في ما لا ينفع أو يفيد إلا أعداد من المسعدين بالقرب من السلطة
نحن نكرر نفس الاخطاء .. ولا نتعلم.. نحن في ورطة .. لقد ُحكم علينا..أن نؤدى عقوبة سيزيفية .. لا تتوقف .. نقوم بها بكل جدية .. وإصرار علي ألا نتغير أو نتدبر أو حتي نفكر . .
السبب أننا منفصمين عن التاريخ و لا نتعلم .. و نسلم قيادنا لاقلنا علما.. و أكثرنا إستسلاما لضغوط القوى الخارجية . .فيعيد بحماس ما فشل فية الأجداد من قبل .
و هكذا رغم المعاناة و فقد الإستقلال في إتخاذ القرار الذى عاني منها المصريون بسبب ديون سعيد و إسماعيل و توفيق ..إلا أننا كررنا نفس السيناريو في زمن السادات و مبارك و السيسي .. و ننفق الأموال المقترضة السهلة بنفس الطريقة .. فيما لا يفيد .. و في مشاريع ذات جدوى إقتصادية منعدمة .. نكرر هذا بصورة.. مستمرة كما لو كان علينا تنفيذ عقوبة التكرار .. رغم ما يصيبنا كل مرة من أضرار .
((في زيارة الخديوي إسماعيل لباريس عام 1867 لحضور المعرض العالمي، طلب الخديوي من الإمبراطور نابليون الثالث أن يقوم المخطط الفرنسي (هاوسمان) الذي قام بتخطيط باريس بتخطيط القاهرة الخديوية ..
وفي مقابلة التكليف بين الخديوي وهاوسمان، طلب إسماعيل أن يحضر معه إلى القاهرة كل بستاني وفنان مطلوب لتحقيق خططه)) مهما كانت التكلفة.
لتصبح القاهرة الخديوية السياحية ..خلال أيام حكمة من أجمل العواصم و أكثرها حيوية ( فقط أنظرللرسومات والصور التي سجلت تلك الفترة )أوإلي مباني وسط المدينة (التي يطلق عليها اليوم عزيز قوم ذل ) ومحطة السكة الحديد و صوروسائل المواصلات الاخرى التي كانت تتحرك بأناقة في الشوارع النظيفة الهادئة المحاطة بالاشجارومرصعة بالتماثيل والكبارى ..
و الي دار الاوبرا( التي حرقتها عصابات السادات ) والمتاحف والقصور والفنادق( مينا هاوس وسميراميس وشبرد ).. ومباني مصر الجديدة المميزة .. و شارع الهرم( قبل هجوم العشوائيات المنفرة) ..و الحدائق الواسعة علي النمط الاوروبي المعتني بها سواء كانت الاورمان او الحيوان او الحرية..ونظافة و هندام البشر الذين كانوا يتحركون فيها حتي تلك التي كانت ترتدى ملاية لف و برقع (في الحوارى و الازقة ) وصورها محمود سعيد بلوحات موجوده بمتحفة بشارع جناكليس ،كانت متحضرة و قمر.
ما هو مصير هذه القصور و الأبراج و البساتين .. و الشوارع و الكبارى التي بناها الخديوى إسماعيل تقليدا لمدن أوروبا ..
إنه نفس ما سيحدث لإنجازات عصر المليارديرات في العاصمة الجديدة و العلمين ..
لانهما في كلتا الحالتين إهتما بالتقليد ..أحدهما باريس و الأخر مدن الخليج .. و لم يهتما بتطوير حياة الناس الذين سيستخدمون هذه الأماكن .. و يصونونها,