حامد كان أكثروعيا ..فهاجر


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 7826 - 2023 / 12 / 15 - 14:15
المحور: سيرة ذاتية     

أن تعيش فى وطن متخلف فهذا قدر ميلادك الذى لا دخل لك بحدوثه ، فإذا ما وعيت لمدى تخلفه وقررت ألا تستسلم لواقع متردى ، أصبح عليك ان تختار بين أحد دربين لتسلك ..
فإما تغادر لبيئة أفضل كما كان يحدث دوما ( قبل أن يصبح هناك حدودا وقوات امن ومطارات وموانئ وتصاريح دخول وخروج ) حين شهدت البشرية هجرات جماعية وفردية لقوم ضاقت بهم سبل الحياة ، فرحلوا سلما او حربا الى بيئة أفضل.
أو ان تسعى مع الناس لتخليص هذا الوطن من عوامل الضعف ، وقد تنجحوا كما الأبطال أو تفشلوا فتقتلوا أو تسجنوا..أو تلهو بك الأيام وتسخروتصبح مسنا لا حول له أو قوة يستعرض ماضية بأسي و ندم.
المحرك الذى يجعل الانسان يتخذ أحد الطريقين كان دائما درجة (( الوعى بالمأساة )) .
بمعني .. في أى سن أصبح لديك الوعي بأنك تعيش في وسط غير موات.. و أن إحتياجاتك الأساسية غير مشبعة .. و أن عليك المغادرة فورا .!!
أخي حامد .. فهم الوضع مبكرا.. هاجر بعد حصوله علي الثانوية العامة بمجموع لا يؤهلة للإلتحاق بالجامعة .. كان عمره عشرون عاما .. يجهل اللغات الأجنبية ..و لا يمتلك نقودا ..أو خبرة مطلوبة في المهجر ..أوحتي ملابس مناسبة ..أو من يلجأ إليه يدعمه عندما يواجه الصعاب .
لقد كانت الحياة بالنسبة له في مصرجحيم تسبب فيه تعليم البكباشية الفاسد والإسلوب الفاشيستي لإدارة حياة البشر .. و فرص ضعيفة لتقدمة ..و أقلقه شبح ما كان عليه أنصاف المتعلمين في بلدنا .. فطفش .
كيف فعل هذا .. ذهب مع معهد متوسط أنشيء لتخريج عمال مهره يقضي طلابه سنتين تدريب في مصانع المانيا .. وعندما وصل هناك .. قرر عدم العودة .. تعلم اللغة ثم إلتحق بدراسات أهلته ليصبح مهندسا .. و تزوج مهاجرة نمساوية كانت رفيقة كفاحه و دليلة للتوائم مع الحياة هناك .
حامد نجح في الغربة ..و أصبح يعمل في أماكن تقدره وتمنحه الإحترام بالإضافة إلي مرتبات كافية .. مثقف يفوقني في العلم كثيرا مكتبته غنية يقرأ بكثافة ..و يذهب للأوبرا فينا في الكريسماس و راس السنة ..و سافر في رحلات سياحة إلي أغلب بلاد الدنيا ..
و هو الأن مسنا يعيش في منزله الخاص بجبل من جبال النمسا .. يزرع حديقته .. ويزيح الثلج عن البابو يحتفل مع الجيران بأعياد لا حصر لها يستمتع بالأمان المادى و المجتمعي ... تحت رعاية طبية متقدمة .. لا يهاب الشرطة أو الأمن فهو مواطن له حقوق لا تمس..و لا شكوى له إلا أن الغاز تضاعف ثمنه في أوروبا .. بعد حرب أوكرانيا .
أما أنا فقد سلكت الدرب الثاني .. أن أنضوى تحت لواء ثوار يوليو كي نخرج بالوطن من دائرة التخلف .. (فوحسناه ) أكثر . عبر ستة عقود...سقطت معهم. عدة مرات نخرج من نقرة لنقع في دوحديرة .. حتي وجدت نفسي .. في نهاية الطريق .. مرمي امام الكومبيوترلساعات أسجل خيباتي التي لا يقراها إلا أقل القليل .
في الخمسينيات و الستينيات كان لي وضعا مختلفا عن أخي فقد حصلت علي الثانوية العامة بمجموع أهلني للإلتحاق بكلية الهندسة ..و عندما ودعناه في المطار عدت بعدها للكلية لأكمل مشروع البكالوريوس ..أى بدأنا حياتنا العملية تقريبا في زمن متقارب .
لقد كنت الفالح .. بلغة ذلك الزمن .. الذى ينتظره مستقبلا مشرقا ..في ظل نهضة ثورية تؤمن (( بالحرية و الإشتراكية و الوحدة )) و ((تحالف قوى الشعب العامل)) .. و أن (( العمل حق العمل واجب العمل حياة )).. ((إن الديمقراطية هي الحرية السياسية، والإشتراكية هي الحرية الإجتماعية، ولا يمكن الفصل بين الاثنين؛ إنهما جناحا الحرية)) ..لقد كنت مقتنعا أنني أسير علي الدرب الصحيح للتقدم

التقدم كما تعرف عليه جيلي ، كان يبدأ بلحن افتتاحى عن الفراعنة والأهرامات والمعابد والشعب الذى علم الدنيا الحضارة ( رغم إهمال هذه الآثار وهذا التاريخ عمليا ) تعزفه الأبواق الثقافية عالية النبرة .. لتغطي على حالة الاحباط المزمن لشعب طال إستعمارة لألفين سنة .
ثم تصدح الانشودة بكورال أجهزة الدولة عن إنجازات الحكم ورجاله العظماء الذين بدونهم كانت نهاية هذه الأمة محتومة .
أنشودة الانجازات هذه تحولت بمرور الزمن ( ثلاثة أو أربعة عقود ) ،الى عائق سالب للوعى بالتخلف ومانع للتخلص منه ، بحيث أصبح التغيير غير وارد فى مفردات لغة المصرى الحديث ، حاكما كان أو محكوما .
فالتغيير قد يفقد رجال السياسة والدين والاقتصاد والفن والدعاية وكرة القدم إمتيازاتهم وقدرتهم على التحكم فى توجهات الشعب ،فتحولوا بحكم مصالحهم الى مضادات للتقدم وأعداء لكل جديد وقاهرين للابداع والتطور.
رجال الدين كانوا يرون ان الابداع ضلاله وكل ضلالة فى النار ، ورجال السياسة يبحثون عن إستقرار وسكون شبيه بالموت.
والاقتصادى يسهل عليه التسول والحصول على قروض وفرض ضرائب ورسوم عن تطوير أساليب و أدوات إدارة الانتاج .
والفن والدعاية مسموح لهم بأن يصفقوا فقط للحكام ، ويجملون واقع أليم لقبول الناس ما لا يمكن قبوله ،
مصر ما بعد أيام شبابي الثمانينيات و التسعينيات كنا نعد من الأمم الأكثر تخلفا حتى فى مجال الرياضة و الفن .
المصيبة أننا عبر السنين و الهزائم .. لم نكن نعى ما وصلنا اليه من إنحدار ففقدنا القدرة على السعى للتغيير فى عالم تخلى عن الثوابت فى كل مجال . عالم يؤجج فيه الابداع بالمنافسة والصراع .
مع مدخل القرن الحادى و العشرين كنا أمة متخلفة بكل المقاييس ، أسلوب عملنا .. اقتصادنا المتدهور .. فننا الهابط .. برلماننا الصورى .. وزراءنا الموظفين .. علماءنا العجزة .. تعليمنا المتدهور .. صحتنا غير المحمية .. طرقنا المدمرة .. منازلنا المنهارة .. أقسام الشرطة المخجلة لما يحدث بها .... أكلنا الملوث .. بشر متواكلون على حكومة ضاع منها خيوط التحكم .
و إستمر التدهور خلال العقدين التاليين .. لا علم .. لا فن .. لا ثقافة .. لا ذوق .. لا تعليم .. لا صحة .. لا محافظة على كنوز الماضى .. لا توظيف للطاقات الانتاجية .. لا اهتمام بالنظافة .. لا تأمين ضد الكوارث .. لا تنظيم للأسرة .. لا توافق فى الأزياء والملابس .. لا عناية بالأطفال والشيوخ .. لا أدب فى التعامل مع الكبار .. لا قراءة .. لا موسيقى محترمة .. ولم يبق لنا ما يجعلنا ندعي أننا غير متخلفين .
حتى التكافل الاجتماعى أصبح وسيلة للتربح والكسب ..الترفيه إنحسر فى زيارات مكوكية للجزيرة العربية .. ميكروفونات مزعجة .. كلاكسات لسيارات يقودها فتوات .. عداء للأشجار والخضرة وإعتداء على الأرض الزراعية التى تتآكل لصالح كردونات المدن ..
حرق قمامة وتلويث هواء .. ألفاظ منتقاة فى الانحطاط يتداولها الصغار قبل الكبار على الملأ .. التحرش بالسيدات والفتيات فى الشوارع وأماكن العمل والترفيه والأسواق .. إعلانات تراكم الشعور بالدونية .. أغنياء منعزلين فى مجتمعات مغلقة محصنة ومحروسة ..
ماذا بقى ؟ انتخابات ملعوب فيها تؤبد الرئيس 30 سنة ، وناخبين مسيطر عليهم ماديا أو معنويا او مدفوعين بواسطة البوليس والأمن .. تبادل الاتهامات بين الديانات والملل المختلفة .. قسوة على الحيوانات حتى فى حديقة الحيوان .. حرائق لا تطفأ فى الوقت المناسب ، ومرضى لا تسعف فى الوقت المناسب وقمامة متناثرة فى كل مكان ، وقوات بوليسية مرصوصة فى الشوارع لساعات بدون سبب إلا تأمين مرور مسئول لدقائق .
كل المؤشرات الاقتصادية العالمية تشير بأننا اليوم .. لسنا بعيدين عن التخلف ، مجمل الناتج القومى المتدهور – الميزان التجارى المائل دائما لصالح الاستيراد – مستوى دخل الفرد المنخفض القيمة المنخفضة للجنية .. استهلاك اللحم ، استهلاك الكهرباء، حالات وفاة الأطفال ، التسرب من التعليم ، انتشار الأوبئة ، ضآلة المعاشات ، تجميد النقابات .. صحافة وإذاعة وتليفزيون غير موثوق بها ومهجورة لصالح الفضائيات والانترنت ... و ديون متلتلة تستهلك فوائدها كل إؤادات الضرائب و الجمارك و باقي عناصر الجباية .
وهكذا عندما يأست من الإصلاح ..و وعيت أنني غير متوافق مع المكان و أنني أعيش في وطن خانق.. كنت قد بلغت من الكبر عتيا ..و فقدت فرص الرحيل .. فالتصقت بالأرض المنحوسة .. أنعي أيامي .. أنظر لحياة أخي المقارب لي في السن في وطنه الأوروبي و أبتسم .. برافو حامد .. معرفوش يوهموك زى م عملوا لي...و عرفت الحقائق مبكرا .