حديث قادم من القرن السابع عشر


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 7914 - 2024 / 3 / 12 - 09:02
المحور: المجتمع المدني     

حديث من القرن السابع عشر
لا أختلف مع القائلين أن مصر لم تكن منذ عشر سنوات دولة (و إنها كانت حاجة كدة ) ..إلا في كونها لازالت بعيدة عن أن تكون (دولة) و لا زالت حاجه كدة .. رغم الأبهه و الفشخرة .. والإنفاق بلا حدود علي مدنها الجديدة و قصورها و أبراجها .. و مقرات الحكومة و البرلمان الصيفي و الشتوى .أوعلي تلك المشاريع الفاشلة التي إستهلكت المليارات مثل تأهيل وتبطين الترع..و إنشاء دلتا جديدة .. أوتطوير حديقتي الحيوان و الأورمان ..وتسيير القطارات السريعة و المونوريل .
فمصر..منذ زمن موغل في القدم ..تعاني من مشكلة رئيسية يتجاهلها كل الحكام ( عدا عبد الناصر ) ..و هي تخلف الريف و من يعيشون فيه .. فرغم الكهرباء و التلفزيون و التليفون المحمول و الراديو الترانسيتور .إلا أن الريف لازال يحتاج لتغييرات جذرية في الشكل و الوظيفة تجعل ناسه سعداء و منتجين
لو أنفق الحكام نصف ما صرفوه علي مشاريع مظهرية لا جدوى لها ..و توجيهها من أجل تحسين أساليب الرى و الزراعة و تسويق المنتجات و تزويد الفلاحين بمعدات معاصرة ..و تحسين نوع و مقدار المحاصيل جينيا ..بهدف الإكتفاء الذاتي لكان من الممكن أن نتحدث عن أننا نشهد تطويرا لبلدنا لم يحدث من مئات السنين .
لا أدعي أنني افهم في هذا الموضوع .. و قد نجد بيننا من هو أكثر وعيا و فهما يستطيع توجيهنا ..و لكن ما أستطيع قوله دون خوف من الوقوع في الخطأ أن الريف المصرى ضحية لنهب خيراته وجهد أهله المستمر ..زاول ذلك المستعمرون و الطغاة الذين حكموا هذا المكان دون الإهتمام بترقية سكانه أو تحسين أساليب حياتهم .. أو إعادة تخطيط مساكنهم وقراهم لتصبح أدمية .. أو الكف عن إستخدامهم في مشاريعهم ..و إستهلاك قواهم في أعمال السخرة .
نحن جميعا ( بدأ بالحكام )الذين يسوسونهم .. لا نعرف الحالة المتردية التي يعيش فيها ناس الريف ..
حتي حضرات المهندسين و الأطباء ..و الضباط الباشوات الذين جاءوا من أصول ريفية .. لا يعرفون حجم التدهور الذى يحدث هناك يوم بعد يوم ..فقد أنفصلوا عن أهلهم و لا يطيقون زيارتهم أكثر من ساعات معدودة .
أهل الريف ليسوا أنور السادات و مبارك و مرسي أو الأخ اللي بيلعب كوره في إنجلترا و يكسب الملايين .
والريف ليس المنصورة و طنطا و المحلة ..و شربين ..بل القرى ..و الكفور و العزب المحرومة من الخدمات والتي تغطي أرض الوادى من أسوان حتي مشارف البحر الأبيض و ناسهم يواجهون مشاكل متعددة.. تجبر الرجال علي الهجرة للمدن لتلقيط رزقهم أو السفر لدول الخليج و السعودية بحثا عن الدولارات في محاولة للفكاك من البؤس المستوطن بجوار البلهاريسيا و الإنكلستوما و الرمد و الأمية.
كتب التاريخ. .و يمكن الإعلام الحكومي تتجنب الحديث عن هذا الحال المحزن من العوز الذى يعاني منه الفلاح .
و الرواية و القصة .. التي قدمت لنا الأرض و قنديل أم هاشم و الأيام ..و الحرام ..وعبد الرحمن الشرفاوى و يوسف إدريس و توفيق الحكيم ويحي حقي .. صمتت عن الحديث ..و لم نعد نسمع من الفنانين المحدثين ما سمعناه في (الزوجة الثانية) أو(البوسطجي )أو ( دعاء الكروان )أو (شيء من الخوف ) و مشهد مثل فتح الهاويس بواسطة فؤادة .
لقد إلتفتوا لما يحدث في العشوائيات و الأحياء الفقيرة ..و تجاهلوا أن الريف هو الأكثر تعاسة .
لم أتواجد في قرى كثيرة..و لا أدعي أنني أملك كامل الصورة ..و لكنني عملت في أبورواش و الجبل الأصفر لسنين..و شاهدت كيف يعيش الناس علي ضفاف ترع يمر بها مياة الصرف الصحي ويشربون من طلمبة حبشي تم دقها بجوار المصرف
و كيف يروون أرضهم بالمياة الملوثة غير المعالجة و يبيعون محاصيلهم لاهل المدن المجاورة..
و كيف يجرى الأطفال حفاة يطاردون البط و الوز أو البهائم التي تعوم في الترع الملوثة ... بؤس و حياة خطرة و تجاهل من أصحاب الكومباوندات
كما أنني عشت في القوات المسلحة ..و إستقبلت قادمين من القرى .. و رأيت تأثير الحياة في بيئة غير مواتية.. علي تعليمهم و صحتهم و أمراضهم ..و قدراتهم الذهنية .. , وإستخدامهم للاسلحة الحديثة .
و مع ذلك فأنا وحضرات الباشاوات الذين يحكمون نعيش حالة من التطنيش والتجهيل بما يحدث لاغلبية سكان مصر الذين لا يجدون من يهتم أو يدافع أو يكترث لمعاناتهم .. بما في ذلك نواب الشعب أو الابناء الذين هربوا من التواجد بينهم ..أو الموظفين الذين يتولون قهرهم .
الغريب أن هذا الحال وصفه في القرن السابع عشر الشيخ يوسف بن محمد بن عبد الجواد الشربيني ( من شربين ) يحكي ما كان موجودا بريف بلدنا في زمن حكم الدولة العثمانية في القرن السابع عشر..
كتاب ((هزّ القحوف لشرح قصيد ابي شادوف )) بمعني تشغيل المخ لفهم حالة فلاح بلدنا.. رغم أنه نص هزلي إلا أنه يتناول حياة الفلاحين وواقعهم الاجتماعي والديني والسياسي البائس.. فنجده لا يختلف كثيرا عن ما ذكر عن حياتهم في نصوص و أداب القرون الثلاثة التالية
السبب أنه كلما زال طاغية .. جاء من بعده من هو العن ..و الجميع يهتمون يتحصيل الجباية بغض النظر عن مصالح من يدفعونها ..والجميع يحرصون علي أن يبقي سكان الريف في جهالة القرون الوسطي
الكاتب يصف في المجلّد الأول ثلاثة أنواع من سكان الريف ( المزارع ..ومن يعيش في القرية من غير الفلاحين ..و رجال الدين الدراويش ) كل منهم له حياة تختلف عن جارة ..و إن كان أكثرها قسوة هي حياة المزارع ..
نفس العناصر التي قدمها عبد الرحمن الشرقاوى في رواية الارض .. أو أحمد رشدى صالح في فيلم الزوجة الثانية..و قد تجدها تعيش متجاوره في كفر شبرا زنجي اليوم
و هو قد صور حياة الناس هناك، ويبين ما هم فيه من فقر، وما يعتريهم من ظلم الولاة العثمانيين، وعمالهم المكلفين بأخذ المكوس بأقسى الطرق.
تحدث و أطال في وصف جهلهم بأمور دينهم، وعرض نماذج من فقهائهم، ومؤدبي أطفالهم، وحكايات الصوفية، ومدعي الولاية والكرامات.
و وضح حين تناول الحالة الاقتصادية ضيق العيش في الريف ، وما يكابده أهلها من معاناة، ويذكر على ألسنتهم قصصا تصور سوء أحوالهم.
و هو عندما وصف الحالة السياسية قدم بانوراما مفصلة لظلم الحكام ، وسوء معاملة الفلاحين، بل إن جملة واحدة يذكرها المؤلف تدلنا على ما كان يعانيه أهل الريف فهو يقول: ((نحمد الله الذي أراحنا من الفلاحة وهمها، ولم تكن لآبائنا ولا أجدادنا، فالفلاحة على كل حال بلية، أعاذنا الله والمحبين منها))
ويقول: ((وما دام على الفلَّاح شيء من المال فهو في هم شديد، ويوم السداد عند الفلاح يوم عيد)). بسبب ما يفعله فيهم الكاشف عند نزوله البلد، أو الملتزم ، من إلزامه الفلاح، ولو كان فقيرا بإطعامه وإطعام أصحابه الذين معه، وإطعام دوابه.
الشيخ الشربيني عندما تعرَّض لمسألة التعامل مع جباة الضرائب وصف ما اعتادوه من الشدة والغلظة وضرب الفلاحين وحبسهم. ..و كان معظمهم من الأقباط فعبر عن الفكر الذى ساد في القرن السابع عشر من إنفصام بين أصحاب الديانتين .
((خدمة المسلم للكافر حرام، وكذلك تعظيمه، والخضوع له، ويكون الفاعل آثمًا بذلك ما لم يَخَف منه ضررًا أو أذى، كأن يكون حاكمًا عليه ومتوليًا أمره))..
إحدى الحكايات التي وردت في كتاب (هز القحوف)، تفسر هذا ..فحينما بدا أن أحد سكان القرية سيسعده الحظ ويمسك بالنقود، قال له جيرانه ((غدًا يسمع بك نصراني البلد، ويقربك، وتبقى تجلس حداه ركبة بركبة، ويقول لك يا عرص، وتقول له يا سيدي. ))
والمؤلف يعنى عناية خاصة بذكر الأطعمة، وفوائدها ومضارها، ولا سيما أطعمة أهل الريف. وإذا ذكر نوعا من الطعام الريفي بين طريقة صنعه في كل إقليم، وقد يذكر طريقة صنعه في القاهرة. وهو دائما ما يذم الريفيين وطعامهم، ويمتدح طعام القاهريين، ولا سيما الأكل التركي ((أما القطايف فإنها تعمل في بلاد المدن من الدقيق الأبيض الخاص المقطب، وتصب على صواني يقال لها الرقع من حديد أو من نحاس، إلا أنها صغيرة مثل القرصة، وهي ألذ هذه الأنواع وأطيبها، خصوصا إذا قليت بالسمن، وصب عليها عسل النحل، ولله الحمد أكلنا منها مرارا، وتلذذنا بها، ونسأل الله تعالى أن يطعمها لإخواننا الفقراء، ويعمهم بأكلها)).
و هكذا .. لثلاثة آلاف سنة لم ينعم الفلاح المصرى بحياة طبيعية و لم يتمتع بخير ما يزرع ، فقد كان هناك دائما من له الكلمة العليا فى تحديد مصيره .
لقد كان هناك دائما من يمسك له السوط ، يحركه به لصالح القوى المسيطرة على مقدراته سواء كانت فارسية ، او يونانية ، أو رومانية ، أو عربية ، أو عثمانية أوبريطانية ، أو امريكية .
يحددون له ماذا ينتج ، واسلوب إنتاجه ، ومن يحكمه ، وكيف يحكمه ، وماذا يستهلك ، وأى لغة يتكلم وبأى دين يؤمن، حتى فى الزمن الذى تخيل فيه أن مصريا يحكمه ، لاقي نفس العسف و الإستغلال و إستنزاف موارده ..
بكلمات أخرى إعتاد الفلاح المصرى – لآلاف السنين – أن يزاول حياته فى ظل جنود الاحتلال ، وجور حكامه وتسلط رجال الأمن وجواسيسهم ، وتجبر رجال الجباية ، وكون لنفسه أساليب تمكنه من التواؤم مع هذا الاستعباد العسكرى والنهب الاقتصادى محتميا بلغته ودينه وتقاليد إكتسبها من أجداده . يعيش بها في القرن الحادى و العشرين .. منزو خائف أن يثور .. فيطرد من أرضة و من بين ناسه .
المصرى اليوم تخلف عن الركب العالمى بعشرات إن لم يكن مئات السنين ، إن العالم يجرى ويلهث ونحن متوقفون نرقب ونجادل ونصارع ، حول بديهيات خاصة بحقوق الناس و تحسين مستوى معيشتهم ..و عدم إستغلالهم و تسخيرهم .
مشكلة الفلاح و الارض و الإنتاج الزراعي المتدهور كما و كيفا .. هي العقبة الأساسية أمام تقدم أبناء هذا المكان .. يتجاهلها من يعيشون قي تجمعات
محمية من الخارج بأسوار وأجهزة خاصة وتصاريح انتقال وكلاب مدربة هربا من الانتفاضة التى تحركها المعدة الخاوية .